لم يسبق لقضية العنف الجنسي أن احتلت صدارة الأخبار مثلما تتصدرها في يومنا؛ فمذ ذاع خبر الاتهامات الموجهة لمنتج الأفلام هارفي وينشتاين شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2017، غدت هذه القضية العالمية قضية الساعة. والأمم المتحدة وجدت في تقديراتها أن واحدة من كل 3 نساء تعرضت لعنف جنسي أو جسدي، وأن 120 مليون فتاة حول العالم يجبرن على الممارسات الجنسية.
لا تقتصر العواقب على مجرد الأثر الجسدي والنفسي الغائر في ضحايا الاعتداء، فالتحرش والخوف من العنف قد يعيقان حرية حركة الفتيات والنساء، فيحولان دون وصولهن إلى قمة العطاء وتحقيق الذات على كلا الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
مدن خططها الرجال من أجل الرجال
في حديثها لصحيفة the Guardian تقول لورا سوموغي التي تدير جائزة Womanity السنوية لمكافحة العنف ضد النساء "إن شعرت النساء بالخوف فقد يقوض ذلك قدرتهن على العمل أو الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، ما يؤثر في تمكينهن وحقوقهن". فالخوف من الاعتداءات هو عقبة أمام النساء تعرقل محاولاتهن للتخلص من الفقر في بعض الدول.
في زيارة قامت بها مؤخراً إلى دلهي، شاهدت سوموغي بأم عينها الآثار طويلة الأمد، وعن ذلك تقول: "إن تعرضت الفتيات للتحرش ثم أخبرن والديهن، يمنعهن الوالدان من الذهاب إلى المدرسة، دون محاولة حل أساس المشكلة، وهذه قضية اجتماعية ضخمة".
جزء من المشكلة يكمن في أن المدن "خططها الرجال من أجل الرجال" حسب قول سوموغي التي تعيش في لندن لكنها أصلاً من ساوباولو.
بالطبع لا يمكن هدم وإعادة بناء مدن شاسعة متمددة بهذه البساطة، إلا أنه من الممكن اتخاذ عدد من الخطوات بغية جعل الشوارع أكثر أمناً ومنح النساء شعوراً أكبر بالأمان عند التنقل في المدينة والتجول في أرجائها؛ وعلاوة على ذلك فإن النساء يُستشرن الآن في تخطيط وتصميم مشاريع التنمية المدنية الحديثة.
تطبيق هاتفي لحماية النساء
في يونيو/حزيران وجدت لجنة خبراء استعانت بها مؤسسة تومسون رويترز لقضايا النساء العالمية أن الهند أخطر البلدان على النساء، فجريمة الاغتصاب الجماعي ثم القتل لطالبة الطب جيوتي سينغ على متن حافلة في دلهي عام 2012، دفعت النساء إلى النزول إلى الشوارع احتجاجاً واستنكاراً في غضب عارم لم يخل من حزن وخوف، فكان أن انبثقت عن هذا المزيج أفكار جبارة في سبيل التغيير.
وفي عام 2013 ساهمت كالبانا فيسواناث في تأسيس وإطلاق التطبيق الهاتفي SafetiPin الذي يهدف إلى تأمين شعور الحماية لدى النساء بالسماح لمستخدميه بمنح الشوارع والمناطق نقاطاً على معايير السلامة بها، كالإضاءة ووضوح الرؤية وكثافة المارة وتنوع أجناسهم والأمن ووسائط التنقل.
كما يقوم التطبيق بتجميع البيانات الأمنية التي ساهم المستخدمون بتوفير جزء منها، ثم يقدمها إلى الحكومة المحلية وهيئات التخطيط المدني لتوضع قيد الاستخدام. حالياً، وفي دلهي وحدها، جمع التطبيق 51 ألف نقطة، فهو يوفر لمستخدميه ومستخدماته "أكثر الطرق أماناً" لمساعدتهم على التجول بالمدينة بأقل نسبة خطر ممكنة.
من وظائف التطبيق كذلك أنه يسمح للنساء أن يفتحن المجال أمام شخص يكون محل ثقتهن لكي يتعقب طريق رحلتهن. تقول فيسواناث: "وجدنا أن الكثيرات صرن قادرات على السير ليلاً باستخدام هاتين الميزتين، فهما تمنحان النساء الثقة كي يتجولن بالمدينة"، وكلما زادت جرأة النساء على الخروج، ازدحمت الطرقات وازدادت أمناً أكثر.
ولجعل بيانات هذا التطبيق أكثر شمولية، فإن معلوماته وبياناته ذات المصادر الجماعية تُعَزز بالصور. تقول فيسواناث: "نستخدم تطبيقاً على الزجاج الأمامي لسيارة متحركة، فيقوم أوتوماتيكياً بالتقاط صور كل 50 متراً، وهكذا تتكون لدينا خريطة للمدينة بأسرها قوامها الصور، ثم نثريها ببيانات المستخدمين". وفي سبيل ذلك تمت الاستعانة بكل من Google Earth و Street View لإغناء المناظر، لكن بيانات SafetiPin دينامية حسب فيسواناث، فهي تتفاعل وتتجاوب مع المدينة دائمة التغير.
ففي دلهي عيّن فريق العمل حوالي 7800 منطقة ضعيفة الإنارة حصلت على تقييم 0 في مجال الإنارة، وبناء على هذه المعلومة تقول فيسواناث إن دوائر الحكومة المعنية بإنارة طرق المدينة "حسّنت 90% من عجز الإنارة"، والآن تستعين السلطات المحلية رسمياً بخدمات تطبيق SafetiPin لتقديم توصيات بكيفية تصميم محطات قطار الأنفاق (المترو)، محطات الباص، مناطق تجمع السكان، المراحيض العامة، والحدائق لجعلها جميعاً مناسبة أكثر للنساء.
توفير خدمات حول العالم
يمكن استخدام هذا التطبيق المجاني في أي مكان بالعالم. وحتى الآن توجد مشاركة فاعلة عليه من 50 مدينة، منها 25 بالهند وحدها؛ حيث أصبح تطبيق SafetiPin يقدم المشورة للسلطات المحلية أو منظماتها في 10 من هذه المدن.
ففي هانوي، عاصمة فيتنام، تقول فيسواناث "إنهم يبنون خط مترو جديداً، لكنهم قبل المضي ببنائه طلبوا منا إجراء استطلاع لمعرفة أين يجب فتح محطاته، وتؤخذ سلامة النساء بعين الاعتبار أثناء التصميم".
وفي بوغوتا الكولومبية فقد تمت الاستعانة ببيانات SafetiPin لجعل مسارات الدراجات الهوائية أكثر أمناً "وذلك بتعيين الأماكن التي ينبغي فيها تحسين الإنارة وتركيب كاميرات المراقبة ووضع مواقف الدراجات من أجل إشعار النساء بالأمن لاستخدامها ليلاً"، حسب قول فيسواناث.
أما المحطة القادمة فهي جنوب إفريقيا، وذلك بفضل فوز التطبيق بجائزة Womanity لهذا العام؛ حيث من المزمع أن يتعاون تطبيق SafetiPin مع عدد من المنظمات المحلية لرسم خريطة أمان، مع تركيز خاص على مشكلة سيارات الأجرة من نوع "ميني باص" غير الآمنة التي تضطر النساء لركوبها عند الذهاب إلى العمل.
مساهمات نسويّة في برشلونة
في برشلونة يسعى فريق Collective Point 6 التعاوني النسويّ المؤلف من مهندسي عمارة وعلماء اجتماع ومهندسي تخطيط مدني منذ عقد من الزمن تحقيق المساواة في شوارع هذه المدينة الإسبانية. تقول العضوة سارة أورتيز إن وضوح الرؤية مسألة جوهرية، ولكنها لا تقتصر فقط على الإنارة "ففي الأماكن جيدة الإنارة التي تخلو من النشاط ومن الأعين الرقيبة على الطريق، لن يشعر الناس بالأمن بأي حال من الأحوال".
تفسر أورتيز مقصدها من عبارة "الأعين الرقيبة على الطريق"، فتقول إنها تقصد النشاط في الطرقات من ناحية وجود المارة وما تشهده المباني على جانبي الطريق، وتضيف: "سواء كانت تلك أملاكاً تجارية أم لا، ينبغي وجود شفافية" حتى تسنح رؤية الخارج من الداخل والعكس صحيح. فالعنف المرتكب ضد المرأة عادة ما يحدث وراء أبواب مغلقة، ومن هذه الناحية قد تكون الأحياء الراقية أسوأ بكثير لأن أسوارها العالية تحمي بيوتها الموسرة، ما يجعل الشوارع أشبه بنفق.
يعيب على شوارع المدينة الأزقة المظلمة التي تشكل أماكن مثالية لاختباء المعتدين. تتحدث أورتيز عن برشلونة فتقول إنه من الممكن تعديل وتغيير أماكن حاويات النفايات الكبيرة ومواقف السيارات ومناطق الكثافة الشجرية والنباتية لتقليل أماكن الاختباء. ويوصي فريق Collective Point 6 بعدم جعل الغطاء النباتي يتجاوز المتر الواحد كي تتسنى رؤية ما وراءه، وأن تشذب الأشجار كي لا تحجب الإنارة.
قد تكون مراقبة الزوايا والسلالم والأزقة والحارات وغيرها من المباني أصعب، لكن تقول أورتيز إنه في مدينة سان سيباستيان على الساحل الشمالي قد "صادقوا مؤخراً على قانون داخلي يضمن أن جميع مداخل المباني السكنية الجديدة تقع على مستوى الشارع لتجنب توفير مناطق للاختباء".
وفي الأحياء التي يتم فيها إعادة بناء عمائر قديمة، يكون فريق Collective Point 6 على أهبة الاستعداد ليضمن أن تكون المباني المرممة مهيّأة للناس من جميع الأعمار والأجناس. أحد هذه المشاريع كان إعادة تطوير ساحة Plaça de la Llibertat الواقعة في بلدية قرب برشلونة.
والساحة بنيت حسب قول أورتيز "في الستينيات والسبعينيات عندما كانت الموضة تستدعي تعدد الطوابق والسلالم والجدران. لقد كانت ساحة تتحاشاها النساء". وتقول أورتيز إن مشروع إعادة التطوير استعان بآراء النساء من أهالي البلدية "فصارت الساحة مفتوحة أكثر وأصبح هناك تنوعٌ أكبر من الناس الذين يستخدمونها في النهار أو يعبروها في الليل" وصارت أكثر صداقة لعربات الأطفال والرضع.
وتقول أورتيز إن جانباً جوهرياً آخر هو تمثيل النساء في الشوارع، فوقوف المرأة وحيدة عند موقف باص به لوحة إعلانية ذات محتوى تمييزي ضد المرأة لا يخلق أبداً بيئة آمنة تحترم النساء، بل يكوّن بيئة عدائية ضدهن. ولمكافحة ذلك انتشرت على طول إسبانيا وعرضها مبادرات لإعادة تسمية الشوارع بأسماء نساء أو مهن أنثوية.
كما يتم تشجيع اللوحات الفنية الجدارية، خاصة الأعمال النسويّة التي تذكّر بإسهامات المرأة. وفي برشلونة "توجد حملة ضد العنف الجندري المرئي حقّاً في الأماكن العامة".
أهمية التثقيف والتدريب
لا يمكن محو أثر العنف ضد المرأة بالتخطيط المدني وحده، خاصة في نيروبي التي يعيش أكثر من نصف سكانها في أحياء عشوائية بحسب منظمة العفو الدولية. ففي هذه العشوائيات متلاصقة البيوت ورديئة الخدمات تغتصب 1 من كل 4 فتيات كل سنة حسب منظمة مكافحة الاغتصاب No Means No Worldwide.
لمعالجة ذلك، تعلّم هذه المنظمة الفتيات من خلال برنامجها للدفاع عن النفس كيفية رصد الخطر في وقت مبكر ومحاولة ردعه في مكانه. ففي المواقف التي لا يكون فيها مفعول لكلمة "لا"، تتعلم الفتيات مهارات جسدية للدفاع عن أنفسهن والنجاة. أما الصبيان فيتعلمون تحدي الخرافات المتعلقة بالاغتصاب وإدراك مواضع الخطر التي تقع فيها النساء والذود عنهن عندها.
وفي دراسة أجريت على فتيات بالغات في إحدى تلك العشوائيات نشرتها مجلة Journal of Adolescent Health الدورية، وُجِد أن برنامجاً نفذته منظمة No Means No دام 12 ساعة أسهم في تقليل حوادث الاعتداء الجنسي إلى أقل من النصف – في إحصائية ثبتت نتائجها بعد إعادة البحث والتجربة في كل نطاق البرنامج. حيث أنه بعد 10 أشهر من إنهائهن لذلك البرنامج ذكرت أكثر من نصف المشاركات الإناث أنهن استخدمن مهاراتهن الجديدة المكتسبة لتلافي الوقوع ضحايا للاعتداءات الجنسية.
كذلك شأن ثلاثة أرباع الصبيان الذين تدربوا في برنامج منظمة No Means No، فقد نجح هؤلاء بالتدخل لإنقاذ امرأة من الوقوع فريسة لاعتداء عنف أو اعتداء جنسي، كما لوحظ انخفاضٌ بنسبة 46% في حالات ترك الدراسة الناتجة عن حمل المراهقات في المناطق التي ينشط فيها هذا البرنامج التدريبي.
القاهرة.. أخطر مدينة كبرى
في شهر مايو/أيار اشتكت الممثلة والناشطة السابقة أمل فتحي، المقيمة بالقاهرة، علناً من أنها تعرضت للتحرش الجنسي في زيارة قامت بها إلى بنكها، وحمّلت على الإنترنت مقطع فيديو يوضح تفاصيل ملابسات الحادثة قائلة إن الحكومة فاشلة في حماية النساء، فكان الاعتقال الفوري من نصيبها. وفي شهر سبتمبر/أيلول حكم على فتحي، وهي أم لطفل صغير، بالحبس عامين لحيازتها مواد خادشة للحياء ولنشرها "أخباراً ملفقة"، وكذلك غُرِّمت لتوجيهها الإهانات علناً.
وفي 2017 وجد استبيان من تنظيم مؤسسة تومسون رويترز أن القاهرة "أخطر مدينة كبرى في العالم على النساء". وقد وجد استطلاع للأمم المتحدة عام 2013 أن 99.3% من النساء المصريات تعرضن للتحرش الجنسي، لكن الأرقام الرسمية للعام الماضي زعمت أن نسبة النساء اللاتي تعرضن للتحرش أقل من 10%.
مناخ الخوف والإنكار هذا كان المحرّض الذي دفع HarassMap ليبصر النور، فمثل SafetiPin يجمع هذا التطبيق المعلومات جماعياً من مستخدميه، ولكنه بدلاً من منح الشوارع نقاطاً تقديرية على الأمن يسجل حوادث العنف والتحرش الجنسي التي تقع فيها، فعندما يبلغ أحد المستخدمين عن حادثة، يتلقى رداً أوتوماتيكياً يحوي نصحاً وأرقام هواتف للاتصال وطلب العون والعدالة.
يهدف هذا التطبيق إلى تعرية وفضح درجة تفشي هذا الوباء وإظهار أنه يؤثر في كل النساء وأن ذلك ليس خطأهنّ. كما يكشف التطبيق عن مكان وقوع التحرش (عادة ما يكون ذلك في الشوارع ووسائط النقل العام). منذ انطلاق HarassMap عام 2010 اعترفت مصر أخيراً بأن التحرش الجنسي جريمة، وأعيد إنتاج فكرة HarassMap في 80 دولة أخرى منها اليونان وتركيا والسعودية وأفغانستان.
في القاهرة غدت النساء أكثر جرأة للإبلاغ عن التحرش علناً على الشبكات الاجتماعية بدلاً من الخريطة وحسب. وقد انطلق العام الماضي على سبيل المثال وسم أو هاشتاغ #FirstTimeIWasHarassed (أول تحرش تعرضت له)، ما أتاح لفريق تطبيق HarassMap جمع قرابة 2000 شهادة على وقوع حوادث عنف جنسي ارتكبت ضد الأطفال.
كيغالي رواندا: خلق أماكن عمل آمنة
طبقاً للمنتدى الاقتصادي الدولي تعد رواندا رابع أفضل دولة في العالم من حيث المساواة بين الجنسين، حيث تسبق بريطانيا وفرنسا بأشواط بعيدة. وفي عام 2017 قالت الأمم المتحدة إن رواندا هي واحدة من دولتين فقط في كل العالم توجد في حكومتيهما أعداد من النساء تساوي أعداد الرجال ( الدولة الأخرى كانت بوليفيا).
لكن هذا لا يعني أن الحياة غير قاسية ولا خطرة على الـ5 آلاف بائعة متجولة في شوارع عاصمة البلاد، ولهذا السبب وعلى مدار السنوات الـ4 الماضية، بني 16 ميني ماركت آمن لتوفير الحماية وأماكن العمل المنظمة لهؤلاء النسوة، مع تخصيص أماكن للرضاعة فيها.
لم تسهم متاجر الميني ماركت هذه في جعل مهنتهن أكثر أمناً فقط، بل منحتهن كذلك عملاً منظماً، ما زاد من كسبهن؛ ومن المعروف والثابت أن تحسين الحالة الاقتصادية هو خير حماية ضد التحرش والعنف في العالم. وكذلك تقول إيما كارين أوانتيج من مكتب الأمم المتحدة للمرأة في رواندا إن كيغالي "تدعم النساء المستضعفات خاصة باعة الطرق بغية تنظيمهن في جمعيات تعاونية ولدعم تجارتهن وأعمالهن".
وسائل النقل أيضاً يتم تحسينها، إذ تختم أوانتيج قائلة: "لقد تمكنت المدينة من تركيب كاميرات مراقبة على متن بعض الحافلات مع إنذار صوتي لرصد حالات التحرش والعنف الممارس على أساس الجندر. كما تتواجد ملصقات عن وضع حد للتحرش الجنسي والإبلاغ عن الجرائم".