من خلال السياسة والجيش، حاولت تركيا وضع نفسها في قلب المنطقة، لكنها الآن تشق لنفسها طريقاً للتأثير من خلال اللحم الحلال.
بالقرب من مصب مضيق البوسفور، تجمع حضور من سياسيين، ومسؤولين تجاريين، ومغنٍ كان يحمل اسم كات ستيفنز وخبراء طهي في مركز للمعارض.
لم يكن الهدف اتخاذ قرار سياسي مصيري، إنما التخطيط لمستقبل "الطعام الحلال".
درب جديد تسعى تركيا من خلاله جاهدة لتولي الريادة في الشرق الأوسط.
إذ استضافت تركيا "معرض الحلال العالمي 2018" أو "World Halal Expo 2018" في دورته السادسة.
حدثٌ يجذب المئات من الناس من جميع أصقاع العالم، وجميعهم حريصون على الحصول على حصةٍ أكبر من سوق يبلغ حجمه تريليونات الدولارات.
في حين قد ترى الحكومة التركية هذا الحدث بمثابة ممارسة دورية لجني الأموال، من شأنها أن تساعد في دعم اقتصادها المتعثِّر، يُشكِّل المعرض أيضاً جزءاً من خطةٍ أوسع، ترمي إلى إحضار المعايير الدولية للأغذية الحلال تحت سقفٍ واحد في تركيا.
تركيا تدخل سوق اللحم الحلال لتنافس دولاً إسلامية وغير إسلامية
يقول الخبراء إن تركيا تأمل أن يساهم المعرض في تأمين مكانتها كدولةٍ رائدة في المنطقة والعالم الإسلامي.
بيد أن المنافسة في السوق ضاريةٌ مع تقدُّم كلٍّ من ماليزيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.
يقول حلمي ديمير، الأستاذ في الإلهيات بجامعة هيتيت إن تركيا أمامها الكثير لتلحق بالركاب.
وصرَّح ديمير لموقع Middle East Eye البريطاني قائلاً: "لم تكن تركيا تكترث لسوق الحلال العالمي لوقتٍ طويل نتيجة التفكير العلماني السائد بها. مع أن قطاع الحلال يتوسَّع بسرعة كبيرة ويحظى إمكانات هائلة".
وأضاف: "أدت المناقشات السياسية السطحية إلى إضاعة وقت تركيا في المسألة، بينما على الصعيد الآخر كانت حتى الدول غير المسلمة تستثمر في هذا المشروع الذي يصل حجمه إلى تريليونات الدولارات".
وبحسب ديمير، بينما أضاعت تركيا الوقت، حازت دول الخليج العربي مثل السعودية والإمارات، بالإضافة إلى ماليزيا، أسهماً كبيرة في سوق الحلال العالمي.
جدير بالذكر أن سوق الحلال لا يقتصر على الطعام فقط، بل يضم أيضاً العديد من القطاعات والصناعات الأخرى مثل المصارف والسياحة ومستحضرات التجميل والطاقة.
سوق قيمته تريليونات الدولارات والإمارات والسعودية تتصدران
تحتل تركيا حالياً المركز الخامس عشر على مؤشر الاقتصاد الإسلامي العالمي أو State of the Global Islamic Economy ، الذي أجرته وكالة Reuters للأنباء.
وهي قائمةٌ "تُقدِّم صورةً شاملة عن أيِّ البلدان تحظى بوضعٍ أفضل يُمكِّنها من الاستفادة من الفرصة العالمية التي تبلغ تريليونات الدولارات".
احتلت ماليزيا والبحرين والإمارات والسعودية المراكز الأربعة الأولى.
وفي العام الماضي 2017، لم تكن تركيا حتى ضمن المراكز الخمسة عشر الأولى.
لكن وفقاً لتقرير Reuters أيضاً، فإن لدى أنقرة طموحاتٍ كبرى لتصعد إلى المراتب العليا.
ويشير التقرير لعامي 2018/2019 أيضاً إلى أن أكبر استثمار في سوق الأغذية الحلال تمثَّل في استثمارٍ تركي قطري في تركيا بقيمة 470 مليون دولار.
وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي الاستثمارات للمراكز الـ11 الأولى في المجال ذاته 563 مليون دولار.
تتسع فرص الاستثمار في الصناعات الحلال بصورةٍ كبيرة.
قدَّرت التقارير أن إنفاق القطاعات الإسلامية على مستوى العالم عبر مختلف أنماط الحياة يساوي 2.1 تريليون دولار عام 2017، بينما يحظى القطاع المالي الإسلامي بـ2.4 تريليون دولار من إجمالي الأصول.
تصدَّر قطاع الأغذية والمشروبات قائمة الإنفاق في القطاعات الإسلامية بمبلغ 1.3 تريليون دولار، وهو ما يزيد كثيراً عن قطاع الملابس والأزياء الذي يليه في المرتبة بقيمة 270 مليار دولار.
وأشار التقرير إلى أن قطاع المواد الغذائية والمشروبات ينمو بنسبة 6.1% ومن المُتوقَّع أن يصل إلى 1.9 تريليون بحلول عام 2030.
طموح لسد فجوة عالمية حول تصنيف اللحم الحلال
حضر يوم الخميس 29 نوفمبر/تشرين الثاني أكثر من 500 مشترٍ، و200 عارض وخبير وأكاديمي ومسؤول، من المغرب إلى إندونيسيا، إلى مجمع المعارض المُقام عند محطة ينيكابي بإسطنبول.
ويُعد المعرض الذي دام لأربعة أيام، والذي أقامته منظمة التعاون الإسلامي تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فرصةً لتركيا للإعراب عن توقها إلى سوق الصناعات الحلال.
ألقى يوسف إسلام، وهو المغني العالمي الشهير الذي غيَّر اسمه من كات ستيفنز بعد أن اعتنق الإسلام، يوم الخميس 29 نوفمبر/تشرين الثاني، خطاباً افتتاحياً يحض فيه العالم الإسلامي على تطوير الثقة والطموح.
جدير بالإشارة أن الطموح التركي في عالم الحلال يمتد إلى الصعيد العالم.
وأثناء المعرض، بذلت تركيا الكثير من الجهود للترويج لمبادرتها الجديدة: وكالة اعتماد شهادات الحلال، وهي هيئة اعتماد تعتزم العمل في أصقاع العالم.
لا تصدر الوكالة شهادات حلال بنفسها ولكنها تُخوِّل المؤسسات لمنح تلك الوثائق وتُشرِف عليها.
ووفقاً لتقرير 2018/2019، ثمة أكثر من 300 هيئة مُعتَرَف بها لاعتماد الحلال، بيد أنه لا توجد معايير لمنح تلك الشهادة.
وها هي تركيا تشهد فجوةً في السوق.
وسوق يبلغ 6 مليارات دولار فقط لطباعة كلمة "حلال"
في الولايات المتحدة، اعتمدت جمعية منظمات "كشروت" (حلال) 300 هيئة لمنح شهادات الحلال.
ومع وجود وكالة شهادات اعتماد الحلال، تأمل أنقرة أنها قادرة على الاضطلاع بهذا الدور من أجل صناعات الحلال على نطاقٍ عالمي.
وبحسب ما صرَّح به حسن شاكول، الأمين العام للوكالة، لموقع Middle East Eye: "سوق إصدار شهادات الحلال وحده يبلغ حجمه 6 مليارات دولار سنوياً، ونحن الأتراك نسعى لزيادة حصتنا فيه".
تأمل روهسار بيكجان، وزيرة التجارة التركية، أن تجلب الوكالة العملات الأجنبية إلى البلاد مقابل الحصول على الاعتماد، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على تعزيز الليرة التركية.
ووفقاً لما ذكرته وكالة الأناضول، قالت الوزيرة: "ستكون الوكالة هي المركز والرائد في خدمات الاعتماد في سوق الحلال الذي يبلغ 4 تريليونات دولار".
هذا التصنيف يوفر على الجهات المصنعة ويفيد تركيا
من شأن تولي وكالة اعتماد شهادات الحلال لدور الإشراف على جميع الهيئات أن يعم بالفائدة على تركيا والصناعة برمتها.
أشار التقرير الذي أجرته وكالة Reuters إلى أن الإشراف المحدود على الجهات مانحة شهادات الحلال من جانب هيئات الاعتماد النزيهة يمثل أحد العقبات الرئيسية أمام توسيع سوق الحلال.
وقد أفادت التقارير بأن غياب التنسيق بين الهيئات الدولية أيضاً من شأنه زيادة التكاليف على الجهات المصنعة، التي يتعيَّن عليها الدفع للحصول على شهادات متعددة.
ونظراً لأن تركيا تُعَد أكبر مركز إنتاج للمنتجات الحلال وسط الدول الإسلامية، فهي تؤمن بضرورة صعودها إلى مركز الصدارة.
قال ناميك زيبكجي، الذي كان وزيراً للتجارة في العام الماضي: "لهذا السبب، علينا أن نُحقِّق الاستفادة القصوى من سوق المنتجات الحلال العالمي".
وأضاف: "نحن نهدف إلى أن تتولى تركيا مسؤولية تحديد اتجاهات وعادات استهلاك البلدان الإسلامية خلال الفترة المقبلة من خلال دراسة التقاليد الثقافية لمنطقتنا الجغرافية".
ومع ذلك تخوض وكالة اعتماد الشهادات منافسةً ضارية
على رأس المنافسين المنتدى الدولي لهيئات اعتماد الحلال التابع للإمارات الذي أُسِّسَ عام 2016.
يطبق المنتدى مجموعة القواعد الخاصة به عند اعتماد جهات إصدار شهادات الحلال وتقييم عملياتهم.
وفي الوقت نفسه في تركيا، تفرض وكالة اعتماد شهادات الحلال لوائح طبقاً لمعهد المقاييس والمواصفات للدول الإسلامية التابع لمنظمة التعاون الإسلامي.
تضم القواعد التي وضعها المعهد لاعتماد الأغذية الحلال أن جهات منح الشهادات يجب أن تكون مسلمة.
وقال مدير الوكالة إن تلك هي القاعدة أساسية، وأنها أيضاً النقطة الرئيسية القائم عليها الصراع بين الوكالة وغيرها من الهيئات المماثلة.
وأضاف: "تتعامل الهيئات الأخرى مع شركات ومؤسسات غير إسلامية للحصول على الشهادة. لكننا نعتقد أنه يجب مشاركة دخل شهادات سوق الحلال بين المسلمين".
وأردف: "تنتج 80% من الجهات غير الإسلامية منتجات تحمل ختم حلال. لكننا نعتقد أن مانحي الشهادات يجب أن يكونوا 100% من المسلمين، وتلك إحدى القواعد التي أرساها معهد المقاييس والمواصفات للدول الإسلامية".
وتحذير من وضع دول غير إسلامية القواعد والمعايير
في الفترة التي سبقت إنشاء وكالة اعتماد شهادات الحلال، حذَّر زيبكجي من أن خصوم تركيا يتكاتفون مع الدول غير الإسلامية لإرساء القواعد ليسير عليها سوق الحلال.
وأضاف: "لسوء الحظ، تُقرِّر مؤسسات إصدار الشهادات غير الإسلامية أيَّ المنتجات والخدمات تستحق الحصول على شهادة حلال".
وأردف: "حتى أن بعض البلاد مثل بريطانيا، بالتعاون مع بعض الدول الإسلامية مثل الإمارات، باتت هي من تضع المعايير".
وضرب مثالاً على ذلك المنتدى الدولي لهيئات اعتماد الحلال التابع للإمارات.
والمعارضون: "استُخدِمَ الإسلام من قبل كأداةٍ في السياسة، والآن في التجارة"
ثمة منظمات أخرى تهدف إلى جعل هيئات الاعتماد تمتثل لقواعد معهد المقاييس والمواصفات للدول الإسلامية، لكن شاكول يزعم أن الميزة الحقيقية التي تمتلكها وكالة اعتماد شهادات الحلال على منافسيها هي البنية التحتية التركية لوضع المعايير، والتي تطوَّرَت بفضل اتحادها الجمركي مع الاتحاد الأوروبي.
وقال: "نظراً للاتحاد الجمركي الذي تحظى به تركيا مع الاتحاد الأوروبي، فإن قدراتها التقنية ومرافقها التدريبية وخبرتها في مجال وضع المعايير أكبر بكثير من أيِّ بلدٍ مسلم آخر".
ومع ذلك، لا تقتصر منافسات الوكالة على صعيد السوق الدولي فقط، بل تواجه أيضاً تحديات في الجوار.
تحدث محمد بيكار أوغلو، عضو البرلمان التابع لحزب الشعب الجمهوري المعارض، في البرلمان يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني قائلاً إن مثل هذه المحاولة للاستفادة من الإسلام ليست أخلاقية.
وقال: "استُخدِمَ الإسلام من قبل كأداةٍ في السياسة، والآن سيُستَخدَم كأداةٍ في التجارة".
وأضاف: "أنت تحاول خداع المسلمين للانضمام إلى النظام الرأسمالي، وتدعوهم إلى الانغماس وهذا لا يمت للإسلام بصلة".