كان سكان هذه القرية الواقعة في صقلية يشاهدون بلدتهم وهي تواجه خطر الاختفاء ببطء، ولكن مأساة مروعة جعلت هذه القرية الإيطالية ترحب بالمهاجرين، بعدما ملأت هذه المأساة قبورها وغيَّرت مصيرها.
لورينزو توندو مراسل لدى صحيفة The Guardian البريطانية في جزيرة صقلية، يروي في مقال نشرته الصحيفة ماذا حدث حين انتقل مهاجرون إلى قرية أهلِهِ في صقلية.
ويكشف المقال أوجه الشبه بين هؤلاء المهاجرين وسكان القرية، الذين رحَّبوا باللاجئين المنكوبين رغم أنف السياسيين الإيطاليين اليمينيين.
أخيراً جاء الأجانب إلى القرية، ولكن هم مختلفون هذه المرة
يقول لورينزو في الوقت نفسه، ظهيرة كل يوم، يجلس روزاريو بوتاشي، والد زوجتي على الكرسي الخشبي نفسه، بينما يشاهد في صمت جون بابالولا ويل وعائلته يتسلقون الممشى شديد الانحدار في قرية سوتيرا، الذي يوصل سالكيه من بلدة بياتزا أوروبا إلى ربع راباتو العربي القديم.
في أيام شباب روزاريو كان "الأجانب" الذين يصلون إلى هذه القرية الصقلية الخلَّابة يأتون على الأرجح من مدينة باليرمو، التي تبعد 100 كيلومتر، أو منطقة قريبة من مدينة أغريغنتو.
لكنَّ ويل البالغ من العمر 35 عاماً أتى من ولاية إيكيتي في نيجيريا، ووصل إلى قرية سوتيرا منذ أربعة أشهر، بعد رحلةٍ قطع فيها 6 آلاف كيلومتر.
والآن، هو يعيش مع زوجته وابنه، مثل عشرات الأفارقة الآخرين الساعين للجوء، الذين جاؤوا من قارةٍ أخرى مع عائلاتهم ليعيشوا هنا.
ويقول روزاريو، المهندس المعماري المتقاعد البالغ من العمر 65 عاماً، الذي وُلِد في هذه القرية وتربَّي، وسيكبر فيها كما فعل أسلافه على مرِّ أجيال: "العالم يتغير، وسوتيرا جزءٌ من هذا التغيير".
والتغيير الذي حدث في هذا المكان النائي في جزيرة صقلية هو مأساة مروعة، جعلت هذه القرية الإيطالية ترحب بالمهاجرين.
لقد كانت هذه القرية يوماً نابضة بالحياة
في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، حين كان روزاريو ولداً صغيراً، كانت قرية سوتيرا تضم 5 آلاف نسمة، وستة متاجر طعام، وخمس حانات، وإسكافياً، وحدَّاداً.
ويقول والد مراسل الصحيفة متذكراً تلك الأيام: "كانت الشوارع في الغسق مليئة بعمال المناجم والفلاحين، وكانت أضواء الحانات تظل مضاءة حتى وقتٍ متأخر من الليل. كانت سوتيرا نابضةً بالحياة، وبدا أنَّه لا شيء يمكن أن يغير هذا المناخ المفعم بالمتعة والدفء".
لكنَّ التغيير حدث؛ إذ أُغلِقت مناجم الكبريت المنتشرة عبر الوادي واحداً تلو الآخر، وحلَّت أدوات الزراعة الآلية محل البغال والمزارعين.
ولكن قرَّر السكان الرحيل إلى الشمال لتصبح بلدتهم تدريجياً مدينة أشباح
بدأ سكان سوتيرا في الهجرة بحثاً عن العمل في أنحاء أوروبا، غالباً في مدينة ديلينغن الألمانية، أو بلدة ووكينغ ومقاطعة سري الإنكليزيتين، حيث مازالت هناك جماعة كبيرة من أبناء سوتيرا. وصارت سوتيرا تتحول تحولاً متزايداً إلى مدينة أشباح.
يقول المراسل "كان والد زوجتي قد خطَّط بالفعل للهجرة بحراً؛ إذ كان يفترض أن يغادر إلى ألمانيا وهو صبي ليكون مع والده الذي انتقل إلى بلدة هِرنبرغ في جنوبي البلاد في العام السابق وعَمِل بنَّاءً".
لكنَّ والده مات في حادثة أثناء العمل، في 4 يونيو/حزيران من عام 1963، قبل بضعة أشهر من الوقت الذي كان يفترض أن تلحق فيه زوجته وأولاده الأربعة به في ألمانيا.
لذا لم يغادر روزاريو -الذي كان حينئذ في عمر الحادية عشرة- سوتيرا، بل اضطر إلى تفريغ حقائبه وانتظار وصول نعش والده.
والآن توشك سوتيرا على الاختفاء مثل العديد من القرى الإيطالية
أمَّا الآن، وبعد هذه الفترة بأكثر من نصف قرن، فقد تضاءل عدد سكان سوتيرا إلى 1200 مواطن.
يقول لورينزو: من بين هؤلاء السكان والد زوجتي، الذي قضى حياته كلها هنا يشهد نزوح سكان القرية تدريجياً، بينما تواجه القرية نفسها خطر الاختفاء من وجه إيطاليا.
وهذه ليست حالة فريدة من نوعها، فوفقاً لبيانات من الرابطة الوطنية للبلديات الإيطالية، هجر نحو 80 ألف مواطن المدن الإيطالية التي يقل سكانها عن 5 آلاف نسمة على مرِّ السنوات الست الماضية.
لكنَّ التاريخ يُعيد نفسه أحياناً، فقد وقعت مأساة مروعة جعلت هذه القرية الإيطالية ترحب بالمهاجرين.
ولكن بعد أن امتلأت مقابرها.. مأساة مروعة جعلت هذه القرية الإيطالية ترحب المهاجرين
في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2013، انقلب قاربٌ مليء بالمهاجرين واللاجئين في البحر الأبيض المتوسط، ولقي 368 شخصاً حتفهم، واحتاجوا إلى دفنٍ لائق.
وامتلأت مقابر قرية سوتيرا، التي يسكنها كبار السن بالكامل تقريباً، منذ وقتٍ طويل إلى أقصى استيعاب.
وفي حين لم يكن هناك مكانٌ للأموات كانت هناك مساحة كبيرة للأحياء، بوجود آلاف المنازل الفارغة التي خلَّفها مَن هجروا المدينة بحثاً عن عملٍ بالخارج.
وفي عام 2014، وافق رئيس بلدية سوتيرا على السماح للدولة الإيطالية بتوطين طالبي اللجوء في منازل البلدة الشاغرة.
وانضمَّت سوتيرا إلى برنامج إعادة التوطين الذي يمول المدن لاستضافة عددٍ محدد من المهاجرين، مثل ويل وعائلته.
المفارقة هي أن مأساة مروعة جعلت هذه القرية الإيطالية ترحب بالمهاجرين، ليخالف سكانها التوجهات المناهضة للهجرة التي باتت تسيطر على إيطاليا.
مزحة سخيفة.. هكذا جاء المهاجر النيجيري إلى صقلية
في وقتٍ متأخر من عصر أحد أيام الأسبوع الماضي، أخذ لورينزو جولةً مع النيجيري ويل، القادم من قرية عيدي إيكيتي. وبينما كان متكئاً على سور، شاهد مجموعةً من كبار السن جالسين على مقعد.
وقال إيكيتي إنَّه لو كان أحدٌ قال له منذ خمس سنوات إنَّه سيعيش قريباً في وادٍ صقلي صغير لَضحِك في وجهه سخريةً.
وأضاف: "هذا مستحيل يا رجل، تصورتُ أنني سأعيش حياتي في ولاية إيكيتي، ولم أتصور قط أنني سأغادر بيتي في نيجيريا يوماً ما".
وتبيَّن أنَّ ويل اضطر إلى مغادرة بلاده بعد وفاة والديه، ولم يكن لديه هو وزوجته مكانٌ ليعيشا فيه. فانتقلا إلى ليبيا حيث عمل ويل، وقال: "لكنَّ الأمور لم تكن جيدة في ليبيا، وكانت حياتنا عرضةً للخطر كل يوم؛ لذا قررنا الانتقال إلى إيطاليا، أنا سعيدٌ هنا، وأعتبر نفسي محظوظاً، أتطلع إلى إيجاد وظيفة وبدء العمل".
ولكن ما الذي فعله المهاجرون ليجعل السكان يرحبون بهم؟
كان وصول المهاجرين نعمةً بالنسبة لبلدة سوتيرا المتشبثة بقاعدة جبل سان بولينو في وسط صقلية.
إذ كانت المدرسة المحلية مهددةً بالإغلاق لقلة عدد طلابها، لكنَّها بقيت مفتوحة بفضل أطفال طالبي اللجوء.
وتُعَد المدينة الآن نموذجاً للدمج الذي تكرَّر في العديد من المدن الإيطالية، ومن بينها قرية رياتشي في مقاطعة كالابريا.
فقد رحَّب "ميمو" لوكانو، رئيس بلدية المدينة بآلاف المهاجرين الذي جلبوا في المقابل الاستثمارات إلى المدينة.
والآن أصبح المهاجرون هم سبب أزمة القرن، فاليمين يتحدَّث عن ارتكابهم للجرائم
لكن بالنسبة لتيار اليمين الإيطالي المعادي للاجئين، فهذه المجتمعات المهاجرة تُمثِّل أزمة القرن الحادي والعشرين، المتمثلة في نزوح الإيطاليين لمصلحة الأجانب.
وأسرع الكثيرون إلى نشر قصص مخادعة عن وجود علاقةٍ مفترضة بين وصول المهاجرين وزيادة جرائم السرقة والقتل.
إذ لا يفوِّت ماتيو سالفيني، وزير الداخلية اليميني المتطرف في إيطاليا، فرصةً لاستخدام حسابه على تويتر لإبراز الجرائم التي يرتكبها طالبو اللجوء، بينما يتجاهل الجرائم التي يرتكبها الإيطاليون.
ولكن تمثال الضابط الذي قتلته المافيا يرد على خطاب الكراهية هذا
يقول لورينزو: "لقد فكَّرت في خطاب هذا الوزير المليء بالكراهية، وأنا أشاهد المهاجر ويل بينما كان متكئاً على تمثال رخامي للضابط المحلي كالوغيرو زوكيتو، الذي قتلته المافيا الصقلية التي نشرتها إيطاليا في العالم".
ويضيف قائلاً: "وفكَّرت كذلك في لاكي لوتشيانو، رئيس المافيا في نيويورك، الذي لم يكن من ولاية إيكيتي، بل بلدة ليركارا فريدي، التي تقع على بعد 30 دقيقة فقط من سوتيرا".
يقول لورينزو "في الأسبوع الماضي، بينما كنا نتجول في القرية، كان ويل ينتظر الصحف التي يحتاج إليها ليبدأ البحث عن وظيفة".
وشاهدناه أنا وروزاريو يلعب مع ابنه في الميدان.
وتبادر إلى ذهني أنَّ هذا الفتى النيجيري الذي يبلغ من العمر عامين لديه أمورٌ مشتركة مع والد زوجتي، أكثر من الأمور المشتركة بين والد زوجتي وأي إيطالي آخر.
فمنذ 50 عاماً مضت، كان يمكن لوالد زوجتي أن يكون مثل هذا الفتى يلهو مع والده في هرنبرغ بألمانيا، لو لم تسلبه إحدى الرافعات حياة والده.
لم أمتلك الشجاعة لأسأله، لكنِّي رأيته يبتسم بينما كان يشاهد الفتى يلعب بالكرة.
وبالنسبة لي كانت هذه الابتسامة أغلى من ألف إجابة.
وإذ كانت مأساة مروعة جعلت هذه القرية الإيطالية ترحب بالمهاجرين، فإن نتيجة هذه المصادفة القدرية أن هذا المهاجر يحاول الآن البدء في حياة جديدة، رغم ادعاءات اليمين الإيطالي التي يرد عليها تمثال الشرطي الذي قتلته المافيا.