قبل اكتشاف النفط في الخليج، اعتمد سكان الساحل العربي على الغوص لاستخراج اللؤلؤ الطبيعي باهظ الثمن؛ لتأمين سبل معيشتهم باعتباره المهنة الشعبية الأساسية لكسب الرزق.
وظل استخراج اللؤلؤ هو النشاط الاقتصادي الرئيسي، حتى بدء أعمال الاستكشاف والتنقيب واسعة النطاق لاحتياطيات النفط بالمنطقة.
ولكنه كان نشاطاً موسمياً يمتد على مدار شهور الصيف الأربعة، حيث تبحر مجموعة من القوارب من موانئ المنامة والدوحة ودبي وأبوظبي متجهةً إلى الضفاف الساحلية الغنية بالمحار.
وكانت دول الخليج تبيع اللؤلؤ وتصدّره إلى دول كبرى مثل: بريطانيا وفرنسا والهند وإيطاليا، وسائر بلدان أوروبا إلى أن بدأت اليابان زراعة اللؤلؤ، فأصبح اللؤلؤ الطبيعي باهظ الثمن، وأقبل الجميع على اللؤلؤ الاصطناعي.
ياباني يتسبب في "نكسة" اللؤلؤ بالخليج
شهدت صناعة اللؤلؤ بالمنطقة تراجعاً بطيئاً، ومن العوامل التي أسهمت في ذلك تطوير زراعة اللؤلؤ (المُنتَج بطريقة اصطناعية) في عام 1916 على يد رجل الأعمال الياباني ميكيموتو كويتشي. وأصبح اللؤلؤ المزروع (الاصطناعي) أكثر وفرة، وثمنه عُشر ثمن اللؤلؤ المُستخرج في الخليج، ما وجه ضربة شديدة لصناعة الغوص على اللؤلؤ بالخليج.
وفي مطلع ستينيات القرن العشرين، اندثرت تقريباً صناعة اللؤلؤ التقليدية من المياه الساحلية للخليج بالتزامن مع نمو مَرافق إنتاج النفط واسعة النطاق في جميع أنحاء المنطقة، وتعدد مصادر الدخل لدى تلك الدول، وارتفاع مستوى المعيشة فيها.
وتعتبر البحرين أشهر دول الخليج العربي في الغوص ومركز استخراج اللؤلؤ، تليها قطر. وبحسب المختصين، تشير مخطوطة آشورية (تمتد حقبة الآشوريين إلى 1813 ق.م) بين دلالاتها إلى لآلئ البحرين.
البحث عن اللؤلؤ على أصوات "النهام"
مرَّت صناعة الغوص عبر أطوار ثلاثة؛ ففي الطور الأول كان يطلق عليـه غوص (الأفراد)، وفي هذه المرحلة من الغوص كان العمل شاقاً ومرهِقاً للغاية. ثم تدرَّج العمل إلى الطور الثاني الذي سُمِّي غوص "المثلوث"، وهو الذي يغطس فيه الغواصون 16 غطسة ثم يأخذون قسطاً من الراحة.
ثم جاء الطور الثالث والأخير، وهو غوص "الأزوام"، حيث يغطس قسم من الغواصين 16 غطسة، ثم يرتاحون 16 غطسة بالتناوب مع زملائهم الآخرين.
وكان الغوص يعتمد أساساً على الكفاءة الجسدية والنفسية، فالقادر جسدياً ونفسياً على الغوص في أعماق البحار لجمع اللؤلؤ يمكن له أن يصبح "غيصاً" (غواصاً)، وهي المهنة المرغوبة أكثر؛ لأن للغواص حصة أكبر عند توزيع الأرباح.
وكانت لرحلة الغوص مجموعة من القواعد والوظائف، تحدد مهمة كل فرد من أفراد الطاقم، الذي يخرج لرحلة الغوص التي تمتد نحو شهر قبل رجوعه للديار.
وأهم الوظائف التي كانت مصاحبة لرحلة الغوص، النوخذه (ربان السفينة)، المقدمي أو "المجدمي" (رئيس البحارة والمسؤول عن العمل على ظهر السفينة)، الغيص (هو الشخص الذي يغوص في البحر لجمع المحار)، السيب (الشخص الذي يسحب الغيص من قاع البحر)، الرضيف (الصبيان الذين يقومون بالأعمال الخفيفة والتدريب على العمل).
ويرافق هؤلاء على متن القوارب في أثناء رحلاتهم الشاقة، من يطلق عليه "النهام" (المغني)، وكان يتميز بصوته الجميل، فيؤثر على البحارة كثيراً فيستمرون في العمل والتجديف دون أن يشعروا بالتعب أو الملل.
ويقدم "النهام" فنونه بالاشتراك مع جماعة من البحارة، ويتبادل الغناء مع غيره من رفاق العمل والسفر، ودوره في الإبداع لا يقتصر على إضفاء البهجة على الحياة والترويح بالعمل؛ بل يشارك في العمل بنفسه، وله حصة من الربح أيضاً، ويُطلق عليه في الإمارات وعُمان "الشيلات".
إحياء تراث الأجداد
تعد فعاليات "سنيار" بالدوحة أكبر حدث سنوي لاصطياد اللؤلؤ يُنظَّم في قطر، يتخلله تجسيد حقيقي لمهنة الغوص بمشاركة المواطنين القطرين، لإحياء تراث الأجداد. ويتنافس الغواصون في هذه المسابقة على جائزة أولى قدرها 400 ألف ريال قطري، أي ما يعادل 110 آلاف دولار.
كما تقيم الدوحة أيضاً مسابقة "المينّى" للأطفال للغوص على اللؤلؤ، التي تنظمها المؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا(، ويشارك فيها عشرات الأطفال القطريين الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و16 عاماً؛ حتى يتمكنوا من خوض منافسات الغوص على اللؤلؤ بكفاءة فنية وبدنية عالية.
وفي الكويت، ينظم "النادي البحري الرياضي الكويتي" سنوياً "رحلات الغوص" بمشاركة 12 سفينة بدعم كبير من الدولة.
في حين تحيي البحرين أيضاً هذا التراث من خلال "مزارع اللؤلؤ"، ومنها اللؤلؤ المستخرج من جزيرة "خارك" الواقعة بين جزيرة "كيش" والبحرين، وهو من أفضل أنواع اللؤلؤ في العالم، إلى جانب مسابقات دورية تنظمها مؤسسات ثقافية بالبحرين.
بينما تنظم "جمعية الإمارات للغوص" عدة أنشطة، ومعارض متخصصة في الغوص واللؤلؤ، ورحلات مهمة لتعليم الغوص واستخراج وجمع اللؤلؤ وفلق المحار، كما أسست الإمارات مزرعة "السويدي لاستخراج اللؤلؤ" عام 2004.
ومن مظاهر إحياء تلك المهنة، وتأثيرها على مواطني دول الخليج، أن بيوت الخليجيين لا تخلو من إشارة إلى هذا التراث، فلا بد أن تحتوي منازلهم على مجسمات صغيرة للسفن وأدوات الصيد، وهي نوع من الزينة، بالإضافة إلى كونها دلالة تعبر عن ماضي البلاد، الذي يفخرون به.
ولا يقتصر الأمر على منازل المواطنين فقط؛ بل يمتد إلى الشوارع والساحات والمناطق العامة، حيث تشتهر بلدان الخليج بمجسمات تعبر عن التراث، من أشهرها دوار اللؤلؤة الشهير في العاصمة البحرينية (المنامة)، وأيضاً مجسم اللؤلؤة بالعاصمة القطرية الدوحة.