يدعو الشاب النمساوي، مارتن سلنر، إلى طرد المهاجرين من النمسا على حسابه على إنستغرام، علماً أنه كان في السابق ينتمي إلى النازيين الجدد، إلا أنه اليوم يحرِّض على التحرك ضد المسلمين من خلال أغاني الهيب هوب.
وفي غرة مايو/أيار من سنة 2017، ظهرت مجموعة مكونة من ثمانية رجال في العشرينيات وامرأتين في الثلاثينات، بالإضافة إلى رجل مسن أبيض الشعر، في موقف السيارات "أستوريا هوخ غاراجه" بوسط مدينة فيينا.
وكان هؤلاء يحملون لافتات ورقية وبالونات حمراء وهم في حيرة من أمرهم. من جانب آخر، كان زعيم حركة الهوية مارتن سلنر غاضباً، حيث كان يمشي جيئة وذهاباً في موقف السيارات. كما قام بدفع طالبين نحيفين، موجهاً لهم تعليمات صارمة، بحسب تقرير صحيفة Zeit الألمانية.
ويحظى مارتن سلنر، البالغ من العمر 28 سنة، يحظى بآلاف المتابعين على الشبكات الاجتماعية، ويعتبر من أهم الأشخاص المؤثرين في التيار اليميني المتطرف الجديد في كامل أوروبا. ومن هذا المنطلق، يبدو جلياً أن اليمين المتطرف قد غيَّر استراتيجيته من اصطياد المهاجرين في الشوارع إلى إثارة انتباه الرأي العام، عبر انتهاج الممارسات الاستفزازية.
وخلال السنة الماضية، اجتمع أنصار حركة الهوية في بوابة براندنبورغ ببرلين، رافعين شعارات مناهضة لسياسة اللاجئين. من جهته، أعرب سلنر على حساب الإنستغرام عن افتخاره بتجنيد أنصاره للتصدي للقوارب التي تقل اللاجئين في إيطاليا، وذلك بهدف منع توافد اللاجئين القادمين من البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، علماً أن المنقذين يعتبرون بالنسبة لهم متواطئين في جرائم تهريب البشر، ومن المشجعين على أسلمة أوروبا.
في هذا الصدد، اعتبر الدستور الألماني أنصار حركة الهوية من المتطرفين، لأنهم يشهّرون بالمهاجرين المسلمين، وأولئك الوافدين من الشرق الأوسط بشكل متطرف. وفي نهاية المطاف، لا تشكل هذه المجموعة حركة بأتم معنى الكلمة، بل مجموعة من الأشخاص الذين ينشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أي أنها مجموعة من الشباب الذين يضخمون أنفسهم.
في الواقع، تكشف الأحداث التي جدت في غرة مايو/أيار، أن حركة الهوية تنتهج استراتيجية جديدة بصفة فعلية، حيث اتضح أن اللافتات فعالة أكثر من الهجمات الجماعية والحرائق المتعمدة، خاصة أن أنصار هذه الحركة اليمينية المتطرفة نجحوا في إحراج قياديي الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي في أهم مناسبة رسمية.
مارتن سلنر
كان من النازيين الجدد
يعد مارتين سلنر، صاحب الإجازة في الفلسفة الذي انقطع عن دراسة القانون، شخصاً يجمع بين وسامة مغني البوب الأميركي، جاستن بيبر وطموح الكاتب الألماني، راينر لانغهانس. وإلى حدود سنة 2011، كان سلنر من النازيين الجدد، حيث كان من رواد موقع يميني متطرف محظور، علاوة على أنه ظهر في صور على صفحة الكاتب النمساوي المعروف بتكذيبه للهولوكوست، غوتفريد كوسل، بحسب صحيفة Zeit.
وأنشأ حركة "بلوك إيدنتيتار"، وهي مجموعة فرنسية أعلنت سنة 2012 الحرب على المجتمع متعدد الثقافات على شبكة الإنترنت. وفي ذلك الوقت، ابتكر زيلنر شعار حركته ووضع مبادئها التي تنادي بإنقاذ الهوية الأوروبية، بعد أن كانت تنادي بإنقاذ الشعب والعرق، كما أن الحركة أصبحت تطالب بإعادة ترحيل المهاجرين عوض طردهم.
ومن خلال الوثيقة مع الطلبة في الجامعة، نجح سلنر في إقناع الرعاة الرسميين بحركته الشبابية، ليصبح بذلك النازي مارتن سلنر مثقفاً شاباً يستمع إلى مغنّي الراب على غرار ماني بوي ولغووني ويونغ هورن، علاوة على استشهاده بأقوال الفلاسفة المحافظين. كما أنه ينشر إنتاجاته على مختلف الشبكات الاجتماعية لإقناع جمهوره بتوجهاته اليمينية المتطرفة الجديدة.
دقت الساعة 11 صباحاً وغصّت ساحة مركز المدينة بالمواطنين الذين جاؤوا للاستماع للعمدة. في منتصف الساحة، تظهر مجموعة صغيرة من أنصار حركة الهوية، رافعين في أيديهم بالونات حمراء ومندسين بين الحاضرين.
كما أكد مارتن سلنر بأنه سيبقى بعيداً عن حشد المواطنين. كما أنه وعد بعدم التشويش على الاحتفال، ولفت انتباه الشرطة، لا سيما أنه من الشخصيات المعروفة في النمسا، لكنه لم يتحمل البقاء بعيداً عن الأضواء، حيث اندس في صفوف المتظاهرين، ممسكاً بهاتفه الجوال، وصعد على أحد الأعمدة، مما أثار انتباه الشرطة وأحد مصوري التلفزيون. وعندما تفطن بعض الشبان لوجوده وهموا بالتوجه إليه، هم الانسحاب.
حركة الهوية وشعارات حسب الطلب!
وأخيراً الأدرينالين! وأخيراً هناك معارضون! وأخيراً شيء ما بصدد الحدوث! وضع مارتن سلنر هاتفه جانباً وركض نحو سيارته. ألقى بنفسه مباشرة على مقعد السائق، وقام بتوصيل هاتف الآيفون على مشغل الموسيقى ورفع صوت أغاني الراب. ثم بدأ يقلب بين الأغنيات ويقول: "نحن آخر قوة لا تزال تحافظ على ثوريّتها وتمردها. كل ما نحتاج إليه هو تعليق لافتة أو نشر نداء في مكان ما، فتدخل البلاد كلها في حالة غليان".
يبدو أن الجملة الثانية على الأقل صحيحة. إذ إنه في كل مرة تقوم فيها حركة الهوية النمساوية بتحرك ما، تأتي ردة الفعل سريعة وآلية من قبل الصحفيين والسياسيين، تماماً مثل تجربة "كلب بافلوفسكي"، حيث تتوالى ردود أفعالهم بين تغطية الحدث والتنديد به.
والمثير للاهتمام أن مستشار النمسا تطرّق إلى هذا الموضوع عندما سمع بأن سلنر أراد التشويش على الاحتفالات المبرمجة في غرة شهر مايو/أيار، حيث قال "نحتاج أن نسأل أنفسنا أين نقف الآن، وكيف يمكن لحركة الهوية النمساوية، التي نحن بعيدون عنها كل البعد، أن تعتقد أنه بمقدورها إفساد احتفالات مايو/ أيار"، بحسب صحيفة Zeit.
ولكن، بالنسبة لمارتن سلنر، كان هذا الأمر مدعاة للفخر؛ فهو برفقة مجموعة صغيرة من الناس يتم أخذهم على محمل الجد من قبل أقوى رجل في البلاد.
وعلى الرغم من هذا التأثير الكبير على الرأي العام، لا تحظى كل استراتيجيات مارتن سلنر بالقبول والدعم في أوساط اليمين المتطرف. ففي الخفاء، يسخر البعض من حركة الهوية ويشبهونها ببرنامج تبادل الطلبة الأوروبيين "إيراسموس"، لأن سلنر ورفاقه يشددون دائماً على أهمية حماية وطنهم وتقاليدهم، ويرفعون شعارات تشبه شعارات الشركات التجارية.
ولعل هذا ما يعتبره النشطاء القدامى في الأوساط اليمينية المتطرفة خيانة للمبادئ التي قام عليها هذا التيار. ولكن، من وجهة نظر سلنر، هذا هو بالضبط الدافع الذي يجعله هو ورفاقه يشكلون كابوساً بالنسبة لأوساط اليسار الليبرالي.
ما الفرق بين حركة الهوية والمدرسة النازية؟
يجلس مارتن سلنر في إحدى الحانات في الدائرة التاسعة بعد هروبه السريع من المظاهرة التي نظمها الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي. وكان يمسك في يده سكيناً يطرق بها الكأس البلورية. آنذاك، كانت الأجواء مشحونة ومليئة بالتوتر بين رواد الحانة، إذ إن المشادات التي حصلت في وسط المدينة سرعان ما انتشر صداها.
صحيح أن شعاراتهم سادت المكان في البداية، ولكن في النهاية تمكنت الشرطة من مصادرة كل اللافتات والملصقات التي كان يحملها نشطاء حركة الهوية. وراء سلنر، كان هناك علم أزرق كبير تظهر فيه صورة مصنع لتخمير البيرة في ولاية كارينثيا، وفوق العلم لافتة كتبت عليها أنواع الأطعمة التي يتم تقديمها والأسعار: متران من النقانق بسعر 9.20 يورو.
وإلى جانب سلنر، كانت هناك مجموعة من نشطاء حركة الهوية النمساوية يناهز عددهم 25، من بينهم الناشطة البارزة ألينا فيخيرا، وبعض الشبان ضخام الجثة، الذين يصفهم سلنر بأنهم من "الصرب الوطنيين"، والبعض من أعضاء الحركة من مدينتي فيينا وشتيريا، بحسب Zeit.
في هذا المكان الذي يقدم البيرة والنقانق، وسط هذه المجموعة من الشباب المتشابهين من حيث الشكل، بشعرهم القصير والأوشام التي تغطي أجسادهم، وعضلاتهم المفتولة، ما يجعلهم نسخة نمطية من أي تجمع للشباب المتطرف في النمسا؛ وقف سلنر في الوسط، وقال: "نحن بصدد تعلم كيفية التحرك وتسيير الأمور، ولكن ما أسعدني اليوم هو أن الحزب الديمقراطي الاجتماعي كان غاضباً جداً، والمكان الذي أقام فيه احتفالاته كان يعج بالشرطة".
على موقع تويتر، نشر سلنر مراراً وتكراراً تغريدات تحذر من خطر الإرهاب الإسلامي، لذلك يقول الآن: "أنا أعتقد أن احتفالات الأول من مايو/أيار لم تكن أصلاً آمنة، ومن خلال حضورنا ورفعنا لشعاراتنا جعلنا الأمر أكثر توتراً وإثارة للقلق".
رغم هذا الخطاب، لم يتحسن المزاج العام في هذه الحانة، وبعد ساعة من الزمن بدأ البعض في المغادرة، حيث يقومون بالتسليم على بعضهم بطريقة خاصة بهم باستخدام سواعدهم، عوضاً عن المصافحة البسيطة باليد. وباختصار، يبدو أن نشطاء حركة الهوية يتصرفون مثل أولاد أعمارهم سبع سنوات يسعون لإغاظة البالغين.
ينادي نشطاء حركة الهوية بضرورة "جعل حب الوطن الأم مسألة وطنية، وحماية العادات والتقاليد المحلية، والدفاع عنها من قبل الدولة". هذه هي الشعارات التي يعتمدها نشطاء حركة الهوية عند استهدافهم للمتبرعين من كبار السن والمتطرفين القوميين. ويبدو أن أعضاء حركة الهوية يعتمدون سياسة الغاية تبرر الوسيلة، ولا يتقيدون بأيديولوجية محددة، حيث يخاطبون كبار السن بشعارات قديمة، وفي نفس الوقت يعدون الجيل الجديد بفكر شبابي عصري.
من أجل تجنيد الشباب الراديكالي الذي يتردد على الحانات لشرب البيرة وتناول النقانق، تقوم حركة الهوية باعتماد التحركات الميدانية الاستفزازية وإثارة البلبلة في الشبكات الاجتماعية، لتقديم نفسها كتيار واسع الانتشار ومؤثر، وإعطاء نفسها حجماً أكبر من حجمها الحقيقي.
التظاهر السلمي صفة اليسار الليبرالي
ماذا عن مارتن سلنر؟ لقد غرَّد في حسابه على تويتر قائلاً: "في الواقع كنت أفضل الجلوس في هدوء وقراءة كتاب للفيلسوف هايدغير، ولكن الوضع الحالي لم يترك لي خياراً". ولكن هذا غير صحيح، إذ إن سلنر الذي يتظاهر بأنه مقاتل شجاع من وراء شاشة هاتفه الجوال، لا يبحث في الواقع عن السلام، بل يسعى لجلب الانتباه.
في سبيل تحقيق مبتغاه، يرفع سلنر شعارات اليمين المتطرف، حول محاربة المسلمين والحزب الديمقراطي الاجتماعي، وحماية الهوية الأوروبية من العولمة. ولو لم يتبن سلنر هذه الأفكار، لكان عوضاً عن ذلك مجرد طالب ودود ووسيم من مدينة فيينا، في أواخر العشرينيات من عمره، يتمتع بموهبة في مجال التسويق، وليس كما هو الآن طالب في درجة الماجستير في اختصاص الفلسفة لا يملك أي تصور لمستقبله المهني.
بالنسبة لسلنر، إن تحوله لهذا الطالب الوسيم والمسالم فكرة سيئة، وأكثر سوءاً حتى من خطر سيطرة الإسلام على أوروبا الذي يروج له. ولكن الآن حان الوقت ليودعنا سلنر، ويذهب إلى البيت، حيث سيجلس في المساء على مكتبه من أجل تحرير مقال سينشر في مجلة يمينية متطرفة في ألمانيا. سيكتب سلنر كعادته عن المفكر جين شارب، الذي وضع نظرية العصيان المدني، وسيناقش كيفية تبني هذه الاستراتيجية من قبل متطرفي اليمين الأوروبي، وفقاً لصحفة Zeit.
هل الاحتجاج السلمي في حد ذاته هو من اختصاصات اليسار الليبرالي، وإن كان كذلك فيبدو أنه من غير الممكن استخدام هذا الأسلوب من قبل الحركات القومية والمتمردة؟ في هذا المقال، سيدافع مارتن سلنر عن فكرة الاحتجاج السلمي، وأهميته من أجل استعادة الديمقراطيات الأوروبية، التي تحكمها اليوم، حسب رأيه، الطبقة البرجوازية والأحزاب المحافظة والدكتاتورية اليسارية.
ويواصل مارتن سلنر في هذه الشعارات العبثية، التي تناقض تماماً حركة الهوية، قائلاً "لا شيء يخيف الحكومات اليوم أكثر من حركة منفتحة وشفافة وغير عنيفة".
لم يحضر سوى بضع مئات
بعد ستة أسابيع، في 17 يونيو/حزيران 2017، خطط أعضاء حركة الهوية من النمسا وألمانيا للتظاهر معاً في برلين. إذ إلى الآن، كانوا يركزون على الأنشطة التي تضم عدداً صغيراً من الناس، وهذا الحدث سيمثل اختباراً لهم لمعرفة حجمهم الحقيقي في الشارع مقارنة بحجمهم على شبكات التواصل الاجتماعي، أو كما يقول مارتن سلنر "هل يمكن لزر الإعجاب في فيسبوك وتويتر أن يصنع حركة؟"، بحسب ما أفاد تقرير صحيفة Zeit الألمانية.
وفي النهاية، لم يحضر سوى بضع مئات من الشباب الذين يجمع بينهم كالعادة الشعر القصير والأعلام السوداء والصفراء. إلى جانب هؤلاء، كانت هناك حفنة من النساء اللواتي يحاولن الظهور في الواجهة والتحدث مع أكبر عدد ممكن من الصحفيين، من أجل ترك انطباع بأن هذه الحركة ليست معادية للنساء وتحظى بشعبية في صفوف الجنسين.
ولكن، كما تكشف الصور التي تم التقاطها في ذلك اليوم، كان هناك الكثير من الحاضرين الذين ينتمون للمنظمات الشبابية اليمينية المتطرفة، والحزب الديمقراطي الوطني الألماني المعروف بتوجهاته اليمينية والقومية، بالإضافة إلى بعض الشباب العنيف من الذين يحملون على أعناقهم وشماً يقول: "الدم، الشرف والولاء". ومن هذا المنطلق، يبدو جلياً أن كل هؤلاء الأشخاص تجمعوا من أجل كسر حاجز وضعته الشرطة أمامهم لمنع تقدمهم.
تمثل هذه الصور المشابهة لكل التحركات السابقة، التي تقوم بها الحركات النازية الجديدة، مشكلة بالنسبة لمارتن سلنر واستراتيجيته الرامية للتظاهر بانفتاح والشفافية والاعتماد على العصيان المدني. ففي كل مناسبة يتجمعون فيها، تظهر صور تفضح أسلوبهم الحقيقي؛ وهو التظاهر العنيف، واستماعهم إلى موسيقى الراب والهيب هوب الصاخبة، ومهاجمتهم للشرطة بكل غضب، ورفعهم لشعارات هتلر النازية، وعلامتهم المميزة وهي الوشوم التي تغطي رقابهم.
توجّب على مارتن سلنر أن يعترف بوجود النازية الجديدة وسط حركته، لعل هذا ما أكده حين نشر تغريدة على تويتر قال فيها "أجمل شيء حول المظاهرة التي نظمناها في برلين هو اللقاء الذي جمع بين المحاربين القدامى والوجوه الجديدة. إن حركة الهوية هي فعلاً عائلة كبيرة".