هل هناك شيء في دبي هذه الإمارة الخليجية الثرية يدفع سكانها المغتربين للتخلي عن حيواناتهم الأليفة؟
لقد أمضى الكلب تشارلي معظم حياته القصيرة في قفص، وكان يعاني من الجفاف والتهابٍ حاد في الرئة عندما سُلِّمَ إلى مجموعة إنقاذ حيوانات في دبي. ويبلغ تشارلي من العمر عامين، وهو من سلالة يوركشاير ترير، وهي سلالة كلاب يصل سعرها إلى 10 آلاف درهم إماراتي في متاجر الحيوانات الأليفة المحلية. سلمته عاملة المنزل الخاصة بملَّاكه بعد أن غادروا الإمارات، وتبناه آخرون منذ ذلك الوقت. ويُعَدُّ تشارلي محظوظاً، لأنَّ مئات الكلاب تهجر عندما يترك ملَّاكُهُا البلاد.
وبعض هذه الكلاب ينتهي بها المطاف في عالمٍ آخر بعيد تماماً عن مجتمعات دبي الراقية، ففي إمارة أم القيوين القريبة، والتي يفصلها عن المدينة أقل من ساعة بالسيارة، يوجد مركز للكلاب الضالة، وفي عُمق الصحراء التي لا يقطنها إلا الجِمال، يمتلئ المأوى البدائي إلى أقصى حد بالكلاب، التي يصل عددها إلى 123 كلباً، تحكُّ مخالبها الأقفاص، وهي بحاجةٍ يائسة إلى لمسةٍ إنسانية، وأصوات نباحها تَصُم الآذان، حسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وتُقدِّر فيونا مايرز-واتسون، وهي متطوعة في المأوى، أنَّ نحو ربع هذه الكلاب هي حيوانات أليفة مهجورة، ولم تُولَد ككلابٍ ضالة. وقد تلقى المأوى بالفعل عدة رسائل في الأسابيع الأخيرة من مغتربين سوف يتركون كلابهم في الصيف.
يذكر التقرير أن العام الماضي 2017، أنقذ متطوعون كلباً تُرِكَ في فيلا فارغة، وقالت المتطوعة: "كان ذلك في جزر الجميرا، حيث تبدأ أسعار الإيجارات فيها من حوالي 250 ألف درهم سنوياً، لذلك فنحن لا نتحدث عن أشخاص بلا أموال".
والمشكلة، من وجهة نظر فيونا، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمزيج دبي الفريد لنزعة الترحال والاستهلاك. وتقول فيونا: "أعتقد أنَّ كثيراً من الناس يفكرون أنَّهم سيعيشون في دبي لمدة ثلاثة أعوام، لذلك يقررون شراء كلبٍ لمدة ثلاثة أعوام. فالناس يأتون إلى هنا ويشترون الأشياء التي تناسب نمط الحياة السائد، فتراهم يعيشون في فيلا جميلة لا يمكن لهم أبداً أن يتحملوا تكلفتها في بلادهم، ويشترون سيارةً من طراز بورش بالدّين لأنَّ البنك يعطي القروض بسهولة، وينفقون 600 درهم إماراتي على الغداء كل جمعة، ويشترون كلباً صغيراً لطيفاً ليتناسب مع كل هذا".
الصيف هو الأسوأ
ولفتت الغارديان إلى أنه مع اقتراب فصل الصيف، تستعد ملاجئ الحيوانات في دبي للزيادة الموسمية في عدد الحيوانات الأليفة التي يهجرها أصحابها.
ويقول أليستر ميلن، مدير مأوى "كيه ناين فريندس"، وهو أقدم ملجأ للكلاب في الإمارات، إنَّ "فصل الصيف هو أسوأ فترة لدينا، إذ تحدث به هجرة جماعية للمُغتربين". ويقول إنَّ أعداد الكلاب المهجورة تتضاعف مرتين أو ثلاث مرات فى الصيف، إذ تستفيد الأسر من العطل المدرسية الطويلة فى الانتقال أو العودة إلى بلادها.
وحسب التقرير "تزيد معدلات التخلِّي عن الكلاب أكثر عندما يكون هناك اضطرابٌ اقتصادي، فالأزمة المالية التي واجهتها دبي عام 2009 شهدت ترك أعدادٍ كبيرة من الكلاب في ظل هجرة أصحابها من البلاد، وفي حالاتٍ كثيرة نتيجة وقوعهم في ديونٍ معدومة يعجزون عن سدادها".
ويقول أليستر: "يمكنك أن تُحدد حال السوق اعتماداً على أعداد الكلاب التي تصلنا في المأوى، وأعداد الكلاب التي نتمكن من إيجاد منزلٍ جديدٍ لها". إلا أنَّ المشكلة لا تقتصر على فترات الأزمات، فالأسبوع الماضي، وصل إلى المأوى بلاغٌ عن كلبٍ تُرِكَ دون طعام أو ماء في فيلا أُخلِيَت مؤخراً.
بينما تُقدِّر ماهين بهرامي، والتي أسست مؤسسة الشرق الأوسط للحيوانات، والمعنية بتنسيق جهود الإنقاذ والدفاع عن الحيوانات الأليفة والبرية في أنحاء دولة الإمارات، أن 40% على الأقل من الكلاب، والقطط، والحيوانات الأليفة الصغيرة الضالة في دبي هي نتيجة هجرة المُلّاك من البلاد.
وتتبعت ماهين مؤخراً قطتين مهجورتين لمالكٍ كان قد عاد إلى موطنه في لبنان. وتقول ماهين: "المغتربون هنا لا يفكرون أو يخططون للمستقبل. فالأمر يدور فقط حول ما يريدونه الآن: أنا أريد قطة الآن، وبعد ذلك سوف نرى". وتصف ماهين هذا السلوك بعبارة "خلِّي ولِّي"، وهو تعبير في الخليج العربي يُعبر عن الرفض، ويعني "من يهتم؟".
أسود ونمور
يكشف تقرير الغارديان إلى أن هذا السلوك يمتد إلى الحيوانات الأليفة الغريبة أيضاً. إذ تعمل مؤسسة ماهين مع حديقة رأس الخيمة للحياة البرية، وهو ملاذ للحيوانات البرية التي كان يُحتَفَظ بها سابقاً كحيواناتٍ أليفة. وتعاملت ماهين مع أسود، ونمور، وفهود، وحتى تماسيح، بالرغم من صدور قانون هذا العام جعل امتلاك مثل هذه الحيوانات أمراً غير قانوني.
وتقول ماهين: "سوف يدهشك ما قد تعثر عليه من حيواناتٍ برية، حتى في الشقق الموجودة في حي "دبي مارينا"، فذلك المكان بمثابة غابة. يشتري الناس أسداً صغيراً، ثم يتخلصون منه عندما يكبر، ثم يذهبون لشراء أسدٍ آخر صغير".
وفي حين أنَّ الحيوانات الغريبة غالباً ما تُسلَّم إلى منظمات الرعاية الاجتماعية عندما يواجه أصحابها صعوبةً في التعامل معها، إلا أنَّ الحيوانات الأليفة غير المرغوب فيها مثل القطط، والكلاب، والأرانب، والطيور في كثيرٍ من الأحيان تُترك لتُدبِّر حالها بنفسها. وتُحبَس هذه الحيوانات في بيوتٍ فارغة، أو تُترَك في الشارع، أو في الصحراء. وتذكرت فيونا مُغترباً هدَّد بقتل كلبه إذا لم يستطع مركز الكلاب الضالة أخذه قبل مغادرته البلاد.
داء الكلب
ووفقاً للغارديان فقد اتخذت حكومة دبي خطواتٍ لتشجيع الوافدين على أخذ حيواناتهم الأليفة معهم عند انتقالهم، من هذه الخطوات سعيها الجاد للقضاء على داء الكلب، ليصبح من الممكن تصدير الحيوانات الأليفة إلى معظم البلدان، بما في ذلك المملكة المتحدة، دون حجرٍ صحيٍ مطول. كما أصبح من اللازم تسجيل القطط والكلاب وربطها بهوية المالك، وجعلت الحكومة التخلي عن الحيوانات الأليفة أمراً غير قانوني.
وتدعو مؤسسة ماهين السلطات إلى اتِّخاذ خطوةٍ أخرى إضافية، وهي تحديد الحيوانات الأليفة التي تُلغى تأشيرة عمل أصحابها، وبذلك يكون على المُلَّاك الإبلاغ عن حيواناتهم الأليفة قبل مُغادرة البلاد.
وتقول ماهين: "هذا سيؤدي إلى زيادة الإجراءات على الحدود، ولكننا نأمل أنَّ هذا على الأقل سيجعل الناس يفكرون بجدية قبل تبنِّي أو شراء حيوانٍ أليف. كما أننا نريد أن نشجع أشخاصاً أكثر على تبنِّي الحيوانات الأليفة بدلاً من شرائها، لأنَّ هذا يغير عقلية الناس ويُحسِّن من حالة الحيوانات".
وتتعرض الحيوانات للإساءة في جميع أنحاء العالم، إلا أنَّ حجم وأسباب التخلِّي عن الحيوانات في دبي يبدو أنَّه يكشف شيئاً عن عقلية أقلية كبيرة من المغتربين في المدينة.
فقدان للهوية
ويعتقد ياسر الششتاوي، وهو خبير في مجال التحضر وأستاذ مساعد في الهندسة المعمارية في جامعة الإمارات العربية المتحدة بإمارة العين، أنَّ بنية المدينة تحمل شعوراً بعدم الاستمرار بسبب تصميمها. ويقول ياسر: "بشكلٍ عام، الشعور الغالب هو أنَّ المدينة بجميع تفاصيلها، حتى وصولاً إلى بيئتها الحضرية، تُعتَبَر مكاناً مؤقتاً".
وتنقل الغارديان عنه: "الأحياء الجديدة مُبهجة للغاية وفاخرة، ولكن يُغالبك شعورٌ بأنَّك يمكن أن تكون في أي مكانٍ في العالم. هناكٌ شعورٌ بانعدام الهوية المكانية في المدينة، كما أنَّ إضفاء الطابع الشخصي على حياتك هناك هو أمرٌ غير مُحبَّذ. وإذا لم تكن تشعر بالانتماء للمكان، فسيكون من السهل للغاية المغادرة عندما يحين الوقت".
وأضاف ياسر: "من الممكن أن يكون هذا قد تم عن قصد، للتأكد من شعور الناس دائماً بأنَّهم هنا لفترةٍ مؤقتة. إنَّها نسخة مُنقَّحة من المدنية تستهدف تجنب الصراع، كعقدٍ مُبرَم بين الدولة والمغتربين: تهتم بهم الدولة من حيث الخدمات والفرص الاقتصادية، ولكن في المقابل ليس هناك مغزى من الحياة، ولا توجد مشاركة حاسمة بالتأكيد".
وبينما يستعد أليستر لمواجهة موجة التدفق في الصيف، يحث المغتربين على التفكير ملياً حول ما سيفعلونه مع حيواناتهم الأليفة، حتى في أسوأ حالات الديون أو الزيادة عن الحاجة.
ويقول أليستر: "الناس بحاجة إلى أن يكون لديهم خطة، كما أنَّهم بحاجة إلى خطةٍ بديلة في حال حدوث شيءٍ غير متوقع. فكل الناس هنا تقريباً سوف يرحلون عن البلاد في وقتٍ ما، والأمر ليس "ماذا لو"، وإنَّما "متى"".