باتت الهجرة حلماً يراود الكثيرين من العرب، خاصة أبناء البلاد التي تعاني مشكلات سياسة واقتصادية، وأصبحت كندا جنة أحلام المهاجرين خاصة السوريين الذين سمعوا كثيراً عن حسن استقبال الكنديين لأخوانهم اللاجئين الذين سبقوهم.
ولكن الواقع يكون عادةً مختلفاً عن الأحلام، فيصاب كثير من المهاجرين بصدمة عقب وصولهم لبلدان الغربة وهي صدمة يتغلب عليها البعض وتغرق آخرين وتجنح لمشكلات نفسية خطيرة يمكن أن تلحق الأذى بمجتمعاتهم.
أسباب هذه الصدمة النفسية متعددة، وفقاً للدكتور جهاد حمد أستاذ علم الاجتماع المشارك في جامعة ويسترن أونتاريو الكندية ورئيس المعهد الكندي لدراسات الشرق الأوسط وأخصائي نفسي اجتماعي.
يقول الدكتور حمد لـ "عربي بوست" من بين أهم أسباب الصدمة أن القادمين الجدد من بلاد فيها حروب يكونون محملين أصلاً بذكريات مؤلمة وعند وصولهم لمجتمعهم الجديد تبدأ اضطرابات ما بعد الصدمة تتشكل لديهم، ويضاف إلى ذلك أن المجتمع كله جديد عليهم واختلاف الثقافة والعادات في البيئة الجديدة، يعتبر أيضاً من مسببات الصدمة النفسية والتوقعات التي وضعوها في مخيلتهم قد لا يمكن تحقيقها في كندا وخاصة في السنوات الأولى من قدومهم.
د.جهاد حمد
ولفت كذلك إلى أن اللغة حاجز كبير، وهذا لا يتعلق بالمهاجرين العرب فقط إنما بكل المهاجرين إلى كندا فهي سبب مهم ورئيسي يساهم في تكوين الصدمة النفسية التي لا تمكنهم من التواصل مع الآخرين وتحقيق ذاتهم في المجتمع الجديد.
تأخر الإقامة الدائمة
ويقول د. حمد "من خلال عملي كمستشار وأخصائي نفسي اجتماعي، نقوم بعملية تقييم الحالات النفسية والاجتماعية بالمحاكم ودوائر الهجرة الكندية ألاحظ أن الفترة التي يقضيها المهاجر للحصول على الإقامة تشكل قلقاً كبيرا لديه جراء عدم الشعور بالاستقرار مما يجعل تصرفاته غير متزنة، ومنفعلة".
ويضيف "الوضع الاقتصادي أيضاً سبب قوي للصدمة النفسية لأن الشخص في بلده قد يشغل وظيفة وموقعاً جيداً لكن عندما يأتي لكندا فإنه يحتاج وقتاً وجهداً طويلين لمعادلة شهادته وقد لا يستطيع تحقيق ذلك أو قد يعدل الشهادة ومع هذا لا يحصل على فرصة عمل تناسبه فهنا يلجأ إلى الحصول على الإعانات من قبل الدولة التي تكون محدودة قياساً لوضعه السابق وهذا ينطبق على الرجل والمرأة على السواء.
الرجال أكثر تعرضاً للصدمة
وكشف د. حمد عن أن الرجال هم أكثر المتعرضين للصدمة النفسية، وفقاً لمتابعاته ودراساته، وسبب ذلك أن الثقافة الشرق أوسطية، حسب تعبيره، تقوم على أن الرجل هو المعيل المالي والاقتصادي للأسرة وعند وصوله لكندا قد لا يجد عملاً مما يزيد من احتمال تعرضه للصدمة النفسية لأنه ينتظر نهاية الشهر للحصول على الإعانة الاجتماعية فيجد نفسه في وضع حرج أمام أسرته التي كان ينفق عليها في بلاده.
وأوضح أنه كلما كان وضع العائلة المادي جيداً زادت فرصة تأقلم العائلة مع المجتمع الكندي، ويكون وضع الأسر المستقرة مالياً أفضل من تلك التي فقدت كل ما تملك قبل وصولها لكندا كما أن حجم الأسرة إذا كان صغيراً يعطي لهم فرصة التأقلم بشكل أكبر من العائلات الكبيرة الحجم.
الصدمة تحدث بعد أشهر
ولفت حمد إلى أن الصدمة النفسية لا تحدث مباشرة حال وصول الشخص لكندا، إنما تكون بعد فترة من وصوله وقد تبدأ من 3 أشهر فما بعد ذلك.
ويشرح " ما يحمله المهاجر من معاناة وذكريات مؤلمة في بلده الأصلي تتفاقم بعد الوصول بعدة أشهر لكندا، مثلاً يتذكر حياته كيف كانت له وظيفة وبيت وحياة مستقرة في بلده الأصلي وفجأة فقد كل شيء وعليه أن يبدأ حياته الجديدة بكندا فتحدث عنده عملية المقارنة مما تتسبّب في صدمته النفسية".
العنف
يقول الدكتور حمد "من عواقب وأعراض الصدمة النفسية أن يقوم الشخص باستخدام العنف سواء ضد نفسه أو تجاه أسرته ومجتمعه وقد يكون العنف جسدياً أو لفظياً، أما عند الأطفال فيكون الانطواء والانعزال والتبول اللا إرادي، الخوف، الأحلام المزعجة.
كما لفت إلى أن الانطواء والانعزال الاجتماعي يحدث بالنسبة لكبار السن وفي كثير من الأحيان قد يؤدي إلى الانتحار.
لماذا يتجنَّب المهاجر العلاج النفسي؟
أوضح حمد أن المهاجرين يعزفون عادة عن العلاج النفسي نتيجة أسباب مادية وموروثات فكرية وأفكار نمطية خاطئة في البلاد العربية تزعم أن من يلجأ للعلاج النفسي هم المجانين فقط.
ويقول أيضاً "البعض قد يلجأ إلى العلاج النفسي ويتوقف ظناً منه أنه لا يحتاج له ويتوقّف مما يؤدي إلى تفاقم حالته".
حالات لا يمكن علاجها
وبحسبه أيضاً، فإنه نتيجة للعزوف وعدم العلاج المبكر تتأخر بعض الحالات ولا يكون العلاج فيها مجدياً.
يقول "مثلاً لدي حالة سيدة تفاقمت الصدمة النفسية لديها ووصلت إلى مرحلة محاولة الانتحار وأصبحت تمقت البقاء في المجتمع الكندي وأنا كتبت توصيات بحالتها وكان من ضمنها إدخالها لمستشفى مختص لمتابعة حالتها بشكل مستمر وإعادتها للمجتمع الذي قدمت منه لأنها لم تستطع التأقلم مع مجتمعها الجديد.
كيف يحمي المهاجر نفسه من هذه الصدمة؟
أهم سبل الوقاية من الصدمة النفسية وفقاً للدكتور حمد هو أن لا يضع المهاجر وأسرته سقفاً عالياً للتوقعات وأحلاماً كبيرة حتى لا يصطدم بالواقع عندما لا يستطيع أن يحققها بعد وصوله لكندا.
وقال "لابد من تهيئة المهاجر وتوعيته بثقافة المجتمع الكندي والحياة فيه قبل الهجرة".
ويضيف "أيضاً المؤسسات الكندية والعربية في كندا يجب أن تكون واعية في التعامل مع حالات المهاجرين".
وقال "على المؤسسات الكندية أن تضم إلى كوادرها المختصين من الذين تكون لهم دراية بثقافة وواقع العادات العربية لكي تستطيع أن تتفهم واقع المهاجرين الجدد".
أما المؤسسات العربية والمختصة بشؤون المسلمين فللأسف البعض منها لا يقوم بواجبه وإنما تحولت إلى مؤسسات تجارية فقط أي تحصل على الدعم الحكومي ولا تقدم الخدمة المطلوبة لأبناء المجتمع المسلم في كندا، حسب قوله.
واستدرك قائلاً "المراكز الإسلامية لا يمكنها أن تؤدي العلاج النفسي فهذا يحتاج إلى مختصين لهم دراية بهذه الأمور ويجب أن يكون فيها أيضاً المختصون الدارسون لهذه العلوم لكي يتمكنوا من مساعدة اللاجئ أيضاً من سبل الوقاية من أسباب الصدمات.
وأشار إلى ضرورة الاستفادة من البرامج الترفيهية للاجئين ومساعدة المهاجرين في تعلم اللغة الموجودة في كندا.
أما عن المؤسسات النفسية الكندية لمعالجة هذه الصدمات، فقال هي موجودة ولكن كما تحتاج لتطوير أدائها في التعامل مع المهاجر العربي ويجب أن تضم في كوادرها المختصين النفسيين الذين لهم الدراية بالثقافة والواقع العربي الذي قدم منه المهاجر.