بين أُطرها الخشبية تناثرت مساحات الألوان، مزاحمة لون الصمت الذي يغلف المكان الموحش، بينما آثر صاحبها أن يتماهى مع حال ساكني مقبرة "العين"، فيجلس بين لوحاته التي ثبتها على شواهد القبور، معتصماً بصمت خاوٍ من أي انفعالات، وكأنه يخشى أن يجرح قراره الغريب بإقامة معرضه وسط الأموات، هيبةَ المكان.
وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، انتشرت صور الفنان التشكيلي التونسي منصف بن جميع وهو جالس بين عشرات من لوحاته في مقبرة "العين" من محافظة بنزرت شمالي تونس.
تباينت تعليقات جمهور الفنان، الذي تجاوز عقده الخامس بين الغرابة والحسرة لحاله.
يأس ومرارة
الرسام منصف بن جميع عبَّر لـ"عربي بوست" عن حالة اليأس والخيبة التي وصل إليها هذا الرجل، الذي قضى حياته في الفن التشكيلي ولم يجنِ سوى الجحود والنكران، على حد قوله.
ومضى يتحدث بطعم المرارة قائلاً: "في بلدنا يتجاهلون المبدع حياً، فإذا مات نصبت له المنابر، وألقيت في جنازته آلاف الخطب العصماء والمرثيات، لذلك أردت أن أستبق الأحداث وأعرض رسومي على الموتى، علَّهم يشعرون بمأساتي ومأساة العشرات من المبدعين المقهورين في هذا البلد، الذين لم يُسمع لهم صوت ولم يجدوا آذاناً صاغية".
بن جميع المنحدر من محافظة بنزرت شمالي تونس اختار الذهاب صباح أمس الأحد إلى مقبرة "العين"، بذات المحافظة، حيث حمل معه عشرات من أعماله الفنية وركزها بين أضرحة الموتى وجلس يتأملها بصمت ومرارة، كما يقول مستدركا: "لم أقصد قط تدنيس المقابر، ولم أُرد إزعاج الموتى في قبورهم، لكني أردت أن ألفت انتباه السلطات في بلادي بشكل رمزي إلى حال المبدع والفنان الذي لم يعد له أي اعتبار أو قيمة، وكل ما أردته هو الاحتجاج على وضع ثقافي وفني مأساوي في تونس".
هذا الفنان التشكيلي أعرب في ختام حديثه عن حزنه لعزوف التونسيين عن زيارة المعارض الفنية والرسوم التشكيلية، لاسيما بعد الثورة، وحالة الفوضى التي وصل إليها قطاع الثقافة في البلاد، على حد قوله.
يشار إلى أن فناناً آخر من ذات المحافظة اختار الاحتجاج بدوره بطريقة خاصة على التلوث المتفشي في مدينة بنزرت، من خلال قيامه مؤخراً بعزف مقطوعة موسيقية على آلة البيانو في مكب للقمامة، وأثارت صوره تلك جدلاً كبيراً في الشبكات الاجتماعية، ليُصدر أمس الأول السبت فيديو كليب حمل عنوان "نحلم".