حدثتني عجوز يوماً.. في الذكرى الـ68 للنكبة

قطعت أمي تلك المسافة الطويلة مرات مضاعفة وهي تحيط بنا وتحاول أن تجمعنا حولها، وبعد عناء وتعب لا مثيل لهما وصلنا إلى محطة الباصات المكتظة بالناس وأكثرهم من النساء والأطفال والشيوخ، يحيط بهم جنود إسرائيليون مؤججون بالسلاح والعتاد

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/19 الساعة 03:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/19 الساعة 03:57 بتوقيت غرينتش

كان يوم 15 من مايو/أيار عام 1948 يوماً مشؤوماً بالنسبة للفلسطينيين والعرب عموماً، فقصصُ التهجير والترويع تسكُننا من جديد كلما حضر هذا اليوم، فتعود لتخطُر على بالِ كل مَن عايش النكبة ومن سمعها وكأنها موروث يأبى النسيان أو التناسي، هِي ذكرى تحمِلُ تفاصيل بشعة لشعبٍ كان يملكُ كُل شيءٍ، الأرض، والوطن، والبيت، والأهل، وفي لمحةِ بصر ودون أن يستوعِب ما يحصل له، أضاعَ كُلَّ شيءٍ. ولهذا فإن كثيراً من الفلسطينيين ما زالوا يتحركون بكل فئاتهم العمرية في أماكن وجودهم داخل فلسطين وخارجها وشتى بقاع العالم، لإحياء ذكرى ما بات يعرف بـ"نكبة فلسطين". فشريط الذكريات لا يتوقف عن اعتصار قلوبنا، فنكبة 1948 تسببت في تحويل مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى لاجئين، وعشرات الآلاف إلى مهجرين في وطنهم ممن يرون بلداتهم وأراضيهم أمام أعينهم بينما هم محرومون منها.

بالرغم من أن نكبة عام 48 قد مر عليها للأسف 68 عاماً، فإن الكبار مِن الفلسطينيين لا يزالون يحاولون استيعاب ما جرى جيداً، وما زالوا يقصون قصصهم الحيّة التي لا تغيبُ ولا تموت، وكيف تموت؟ وهي مليئة بالجراحِ التي لا تلتئم، والأوجاع التي لا تشفى.

جلست يوماً من الأيام إلى إحدى الجدات المسنات اللاتي شهدن النكبة منذ 68 عاماً، ومما جذبني للحديث معها عن ذكرياتها الحية في ذلك اليوم وذلك العام دون سواها، أنها ابنة شهيد، وأخت شهيد من شهداء النكبة، وهي ابنة إحدى "العائلات العكاوية" المعروفة والمشهورة، التي تهيم عشقاً بحب "عكا"، فما أن ذكرت لها اسم "عكا" حتى تنهدت وقالت لي: "هي أرضي ومسقط رأسي ويا ليت ترابها يحتضن قبري، لعكا جمالٌ ورونقٌ لم أعرفه قط في سواها من المدن الأخرى، يكفي أن أذكر صفاء بحرِها، وزرقة سمائها حتى تعلمي عن أي مدينة أتحدث"، ثم توقفت برهة عن وصف جمال مدينتها لتنهال بالبكاء الأجش، وكأنها اشتمت ريح بحرها الذي تحب، وبعد أن تماسكت "بعض الشيء" حتى أكملت حديثها لي وقالت: "أعشقُ (عكا) ميناءها، أسوارها، بحرها، وصخورها، أشعرُ وكأن كل ما في عكا يتحدث إليّ، ولهذا لا تغيبُ عني قصة الغربة وغصة النكبة، فطوال حياتي اللاحقة التي امتدت أكثر من سبعين عاماً، ظلّت حكاية التهجير الفلسطيني تزيدني حُباً لترابِ وطني، فبماذا أحدثك؟ وماذا أقول؟".

"كان ذلك عاماً مشؤوماً وملعوناً، كان عمري في نكبة الـ48 تسع سنوات ونصف العام تقريباً، ورغم صغر سني، فإنّ ذاكرتي ما زالت تحدثني بكل التفاصيل وكأنها أمامي اليوم، كنا جميعاً نعيش مأساة وطننا الذي باعه البريطانيون لليهود في نهاية الحرب العالمية، حتى إن والدتي خرجت -رغم أنها ربة منزل- مع كثير من النساء في تظاهرة احتجاجية لإسقاط وعد بلفور، وبدأت المناوشات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، فأقام الفلسطينيون لجاناً قومية في جميع أرجاء البلاد، وفي عكا أيضاً، وبهذه المناسبة يحضرني التأكيد على أن بعض الشباب وبعض العائلات استطاعوا تحرير بيوتٍ لنا بعد احتلالها، ولذلك زاد عنف الإسرائيليين أكثر من ذي قبل؛ كم أشعر بحسرة وغصة غائرتين في صدري كلما تذكرت ما تعرضنا له من عنف وقهر على أيدي الإسرائيليين؛ فصور أهلي الذين قُتلوا أمامي وعلى مرأى من الجميع لا تنفك تغيب عن مخيلتي، وكأنني ما زلت أشتم رائحة دمائهم السائلة على الأرض، فأنا في ذهول حتى الآن من هول الفزع الذي شاهدته وسمعته يومها. عندما بدأ اليهود بالاقتراب من بيوتنا، تركنا بيتنا وهربنا -ككثير من العائلات الفلسطينية- لكنّ والدي وأخي الأكبر ظلّا في البيت يأبيان الهرب أو الرحيل، كُنا على ثقة أننا سنعود إلى بيتنا قريباً، ولهذا ظل كبارُنا يحملون مفاتيح بيوتهم التي تركوها، تشردت العائلات في كل مكان إلى حد أن أفراد العائلة الواحدة كانوا يتفرقون وهم لا يعلمون هل ستجمعهم الأيام مرة أخرى أم لا لقاء بعد اليوم. لقد هربت معظم العائلات الفلسطينية بملابس نومها، وأمهات نسين أبناءهن في البيت وغادرن المكان، وأخريات استبدلن أبنائهن الرُضّع بمخدةٍ على السرير، واستيقظن على ويلاتٍ أكبر مِن حجم استيعابهن، ناهيك عن المآسي الأخرى الكبيرة التي أعجزُ أنا نفسي عن وصفها في عمري الصغير ذلك".

"أما عن ذكرياتي مع عائلتي في يوم التهجير فهي غريبة ومحزنة بحق، لقد هربت مع أمي، وجدتي لأبي، وعمتي الشابة -التي كانت تعيش معنا في البيت – وإخوتي الخمسة الصغار، ولأن جدتي كانت لا تقوى على المشي لكبر سنها وهشاشة عظامها؛ ولأن المسافة بين بيتنا والمكان المخصص للباصات التي ستقلنا إلى مدن وبلاد أخرى كانت بعيدة -ولا بد من قطعها مشياً على الأقدام -كان يستحيل أن يتم هذا الأمر لولا عزيمة أمي وإصرارها؛ خاصة مع وجود سيدة كبيرة كجدتي؛ وأطفال صغار كإخوتي. كان العبء الأكبر يقع على عاتق أمي، ولأنني كنت أكبر أبنائها يومها بعد أخي الشهيد الذي بقي مع والدي، كنت أقاسمها ذلك العبء وتلك المسؤولية؛ لهذا كنت أحمل اثنين من إخوتي الصغار، وهي أيضاً تحمل اثنين آخرين، لنسير بهم عشرات الأمتار للأمام تقريباً، وما أن يصيبنا التعب وتذوب أقدامنا من ثقل حملنا وسرعة خطواتنا؛ حتى أجلس على الأرض لأستريح، ومع إخوتي الأربعة الصغار، بينما تعود أمي مهرولة إلى الخلف حتى تحمل وعمتي جدتي المسنة العجوز التي لا تقوى على المشي؛ ليسيرا بها إلى الأمام، وما أن يصلوا إلينا حتى تضع أمي جدتي على الأرض ومعها عمتي لتعتني بها، وتتناول إخوتي الصغار وأنا أيضاً أفعل فعلها لنسير إلى الأمام بضعة أمتار أخرى، ثم تعيد أمي الكرة الأولى كما هي مراراً وتكراراً".

قطعت أمي تلك المسافة الطويلة مرات مضاعفة وهي تحيط بنا وتحاول أن تجمعنا حولها، وبعد عناء وتعب لا مثيل لهما وصلنا إلى محطة الباصات المكتظة بالناس وأكثرهم من النساء والأطفال والشيوخ، يحيط بهم جنود إسرائيليون مؤججون بالسلاح والعتاد، كانوا يضعون الناس في تلك الباصات لترحيلهم. من أكثر المشاهد التي ما زلت أذكرها جيداً ولن تغيب عن ذاكرتي حتى تغيب الروح عن جسدها، هو مشهد اليهود وهم يدفعون بالناس دفعاً إلى داخل الباصات، وما أن يمتلئ أحدها حتى يدفعوا بالباقي إلى الخلف، ليكون جزءاً من "العائلة الواحدة" في داخل الباص والآخر خارجه، ثم يأمرون الباص بالتحرك بسرعة بلا رحمة ولا شفقة، ومن يحاول أن يلحق بعائلته؛ كانوا يضربونه ويمنعونه.

أصاب أمي الخوف الشديد حين شاهدت هذا المشهد المروع، فضمتنا جميعاً إليها بقوة، خوفاً علينا من الضياع، وقبضت بقوة على الصغار تجذبهم إليها، طلبت منا التمسك بها جيداً وألا نفلتها مهما حدث، ثم لجأت إلى ربط ثيابنا جميعاً بعضها ببعض، حتى لا يبتعد أحدنا عن الآخر، أما عمتي فحملت جدتي على ظهرها رغم وزنها الثقيل. وقفنا ننتظر من بعيد عل الناس تركب وتمضي، فيصبح أمر ركوبنا أسهل وأيسر، لكن الناس كانت في تزايد مستمر، وبعد قليل بدأ بعض أفراد الجيش الإسرائيلي بدفع أمي بقوة باتجاه أحد الباصات، فتشبثت بنا أكثر وأكثر، وبدأت تصرخ بصوت عالٍ، وتبكي بنحيب وعويل وتقول: "يا الله.. يا الله"، "أولادي يا الله"، "أمسكوا بي جيداً"، "لا تبتعدوا عني.. ظلوا معي"؛ وهي تحمل إخوتي الصغار على كتف وتعين عمتي على حمل جدتي بكتفها الأخرى، وما هي إلا لحظة عمياء لا يدرك فيها أحد الآخر وكأنه يوم الحشر؛ وجدنا أنفسنا في داخل الباص المكتظ بالناس، وما أن أدركنا هذا، حتى بدأ كل منا يتفقد الآخر بخوف وهلع، "هل من غائب بيننا؟"، "هل من فقيد فقدناه؟"، وإذا بنا والحمد لله مجتمعون جميعاً في داخل الباص، فشكرنا الله على هذا وحمدناه، فقد كنا أفضل حالاً من غيرنا الذين فقدوا بعض أفراد عائلتهم في تلك اللحظة، ولهذا كانوا يصرخون "ولدي"، "بنتي"، "أخي"، "أختي" في كل زاوية من زوايا الباص الذي يقلنا، كان موقفاً صعباً بكل ما فيه، فكيف يفقد الأخ أخاه؟ والأم ولدها؟ والأب ابنته؟ بهذه الصورة المفزعة المحزنة!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد