مع حلول المساء، يشعر بنيامين البالغ من العمر 3 سنوات بأنَّ والده ينبغي أن يعود للمنزل، أما والدته فتخفي عنه أنه أصبح يتيماً، وأنها باتت واحدة من أرامل أفغانستان الشابات، وعليها الآن مواجهة الحياة ببلد يصعب العيش فيه حتى للرجال.
والد بنيامين، ساباون كاكار، كان قد لقي حتفه منذ عدة أشهر برفقة ثمانية صحافيين أفغان آخرين في أحد التفجيرات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
كان بنيامين يبكي ويهز والدته ماشال السادات كاكار قائلاً: "أين أبي؟ متى سيعود أبي إلى المنزل؟".
ولكن كيف تُفسِّر الموت لطفلٍ عمره 3 سنوات؟ تحاول ماشال، التي كانت تحمل طفلتها سارفارز الأصغر بين ذراعيها، أن تشتت انتباه بنيامين ببعض الألعاب.
وعندما يواصل بنيامين البكاء، تنقله إلى الشرفة وتشير إلى ألمع نجم ساطعٍ في سماء كابول الملوثة، وتقول له: "أبوك هناك".
"جيل كامل يشكله الموت".. عشرات الآلاف من أرامل أفغانستان يدفعن ثمن الحرب
وتقتل الحرب في أفغانستان عدداً هائلاً من الشبان، تاركةً وراءها جيلاً من الأبناء يتشكَّل بهذا الفُقدان.
فبعض الأطفال مثل بنيامين لن تكون لديهم سوى ذكرياتٍ مبكرة عن آبائهم، وسيُشكِّل الموت حياتهم مع تلاشي الذكريات الحقيقية.
في حين أنَّ الأطفال الرُضَّع مثل سارفارز ستكون لديهم ذكرياتٌ أقل، في ظل موت آبائهم حتى قبل أن يعرفوهم .
ويقع كل ذلك العبء على كاهل عشرات الآلاف من الأرامل اللاتي خلَّفتهن الحرب منذ عام 2001.
ومثلهن مثل ماشال، أصبحت تربية هذه الأسر تقع على كاهل هؤلاء السيدات في بلدٍ يعاني قلة الفرص الاقتصادية وحرباً تقتل 50 شخصاً كل يوم.
"يجب أن تتزوجي".. المجتمع يعتبرهن ممتلكات
بل والأكثر من ذلك، تدرك أرامل أفغانستان بطريقةٍ مؤلمة أنَّ مجتمعهن يعتبرهن ممتلكات.
إذ يجب على الأرملة الجديدة في كثيرٍ من الأحيان الاعتماد كلياً على عائلة زوجها.
وقد تطالبها عائلة الزوج الراحل بالزواج من أخيه أو أحد أقربائه.
وعادةً ما لا يؤخذ رأي أرامل أفغانستان في مصيرهن، مع أنَّ بعضهن يحاولن المقاومة.
"محرومون حتى من الحزن".. بعض الأبناء لم يروا آباءهم
على مرّ عدة أشهُر من العام الجاري 2018، ومع تحوُّل الحرب الأفغانية الطويلة إلى مرحلةٍ أشد فتكاً، تابعت صحيفة The New York Times قصص العديد من الشابات اللواتي اللاتي يعانين بعدما أصبحن من أرامل أفغانستان.
فبين عشية وضحاها، تحوَّلت الحياة بالنسبة إلى أرامل أفغانستان إلى معاناةٍ حرمتهن حتى من فرصة الحزن.
فبالنسبة لبعضهن، ومن بينهن كاكار، كانت أحزانهن تتخللها آلام الولادة التي أنجبن فيها أطفالاً إلى عالمٍ أنهكه اليأس.
وأصبحت ذكرى أحبائهن المفقودين هي ملاذهن في عالمهن الجديد المضطرب.
ومن بين هؤلاء الأرامل رحيلة شمس التي ترمَّلت في الثانية والعشرين من عمرها، وكانت آنذاك حبلى في شهرها السادس بابنتها الثانية.
إذ قُتل زوجها علي دوست شمس الذي كان مدير أحد الأحياء في مداهمةٍ شنتها طالبان في شهر أبريل/نيسان.
"سعادة زائلة".. خسارة الحبيب في مجتمع يندر فيه الحب
وعندما وُلِدت ابنتها، سمتها العائلة شمسية، نسبةً إلى والدها الذي لن تلتقيه أبداً.
وقالت رحيلة: "لقد فقدت حبيبي وصديقي ووالد ابنتي".
وأضافت قائلة" الجميع يقول لنا "اصمدوا"، لكن لا أحد يُخبرنا كيف نفعل ذلك.. أشعر أنَّ كل شيء انتهى، لكنني أحاول أن أبقى صامدةً لأنني وعدته بالاعتناء ببنتينا".
قالت كل واحدة من الأرامل إنها وجدت الحب في الزواج، حتى لو استغرق ذلك وقتاً، لا سيما في ثقافةٍ يظل فيها الزواج التقليدي هو القاعدة.
"ألف شخص في زفافها".. ثم تحول زواجها إلى حب
تروي رحيلة كيف ارتبطت بزوجها المغدور.
إذ كانت طالبةً في الصف التاسع في منطقة ماليستان جنوب غرب كابول، عندما رآها شمس، أحد أقربائها البعيدين، في حفل زفاف وأرسل أسرته لطلب يدها.
وصحيحٌ أنَّ عمرها آنذاك كان نصف عمره، لكنَّها وجدته وسيماً ذا مستقبلٍ مهني جيد في الوظائف الحكومية، على حد قولها.
وقالت رحيلة متذكرةً وقت زفافها: "لم يكن هناك أي صالونٍ للتجميل في قريتنا. كان حفل الزفاف بسيطاً جميلاً، أعتقد أن عدد الحضور بلغ ألف شخص".
ثم انتقل الزوجان إلى كابول، حيث التحقت رحيلة بإحدى مدارس التمريض، بينما أصبح شمس مدير أحد الأحياء في ولاية غزني وكان يبتعد عن المنزل فترات طويلة.
ثم أنجبا طفلتهما الأولى صوفيا بعد أربع سنوات من الزواج، الذي سرعان ما تحوَّل إلى علاقةٍ مُفعمة بالحب.
لكنَّ رحيلة الآن لا يمكنها إيقاف الشعور بأن معظم تلك السعادة كانت مجرَّد تجهيز لمصيرها الحتمي المتمثل في الحياة بمفردها.
"كنا نلتقي سراً".. وعبر غرف الدردشة نشأت علاقتهما بعيداً
أمَّا ساباون وماشال، فكان زواجهما قائماً على الحب منذ البداية.
إذ التقى الاثنان في أثناء حضور فصولٍ مسائية في مادة القانون. وكان كلاهما من المهنيين الشباب الذين يعملون في وظائف نهارية.
فماشال كانت يعمل في منظمة مساعدات، بينما كان ساباون صحافياً إذاعياً.
وكان ساباون قد انتقل إلى كابول قادماً من ولاية هلمند، وهي ساحة قتال ما زالت أسرته تعيش فيها.
وازدهرت علاقتهما على مرِّ عامٍ قضياه في الدردشة عبر الهاتف والتسلل خارج مكاتبهما ليلتقيا سراً ويتناولا الغداء معاً.
وبعدما أعلنت أسرتاهما خطبتهما، جمعا مدخراتهما -وكانت مدخراتها أكثر من مدخراته- لشراء شقة. ثم زيَّناها قطعةً قطعة قبل زواجهما.
وقالت ماشال: "دعونا 300 شخص فقط لحضور حفل الزفاف. كان ذلك العدد كان كافياً لكلينا. لقد كان رجلاً طيباً وأحبني كثيراً، وأنا أيضاً أحبه وسأظل أحبه إلى الأبد".
وقد أضاف ابنهما بنيامين بهجةً إلى الحياة السعيدة التي كانا يبنيانها معاً.
"أنا احتضر".. رسالة حملت لها الخبر المفجع
كانت ماشال في مكتبها في صباح يوم 30 نيسان/أبريل عندما تلقت رسالةً تُخطرها بوقوع انفجار في حي شاسداراك، حيث يقع مكتب زوجها.
وقالت ماشال: "عندما اتصلت به، ردَّ عبر الهاتف قائلاً: "أنا أحتضر يا ماشال"، فلم أعرف ماذا أقول له، قُلت له: "اصمد، أنا في الطريق إليك"".
ثم وصلت ماشال -التي كانت آنذاك حبلى في شهرها الثامن- إلى المستشفى>
وبحثت عن زوجها في كل غرفة حتى عثرت عليه في الطابق الثاني.
"أنا متأكدة أنك ستعيش".. مات بينما هي تفكر في الطعام الذي ستعده له
أخبرها ساباون بأنَّ الانفجار أحدث ثقباً في ظهره وأنَّه قد لا ينجو، لكنَّها ظنَّت أنَّه سيعيش بينما كان في طريقه لإجراء عملية جراحية.
ومن شدة الإرهاق، غلبها النعاس وهي تنتظره بينما كانت تخطِّط لجميع الأطعمة المغذية التي ستطهوها له من أجل مساعدته على التعافي.
بيد أنَّها استيقظت على خبر وفاته، وحينئذٍ، "أظلم كل شيء حولها"، على حد قولها.
"أبي قادم".. سمحوا لها برؤية وجهه فقط
أمَّا بالنسبة لعائلة شمس، فقد قضت مأساة موته على الفرحة بعودته المتوقعة.
ففي الليلة التي سبقت مقتله في الربيع الماضي، اتصل بزوجته وابنتهما صوفيا، ووعدهما بأنَّه سيعود إلى المنزل بعد يوم أو يومين.
ولم تستطع صوفيا احتواء انفعالها، وظلَّت تقفز صائحةًَ: "أبي قادم! أبي قادم!".
بيد أنَّ بعض مقاتلي طالبان اقتحموا مكتبه في اليوم التالي وأطلقوا النار عليه، وقال شمس لموظفيه آنذاك إنهَّم يجب أن يفروا إذا استطاعوا، لكن لم يغادر أحد. وقُتِلوا جميعاً.
ثم نُقِلَت جثته إلى كابول. وقالت رحيلة: "لقد سمحوا لي برؤية وجهه فقط، كان كصورةٍ داخل إطار".
"لن تعيشي وحدك".. عليها النضال ضد الزواج من قريب حبيبها المغدور
في الأشهر التي تلت مقتل أزواجهن، لم تكن الأرامل الشابات يعانين الحزن وتحيُّر أطفالهن فحسب، بل كُنَّ يخشين أيضاً مصيرهن الحتمي: وهو تزويجهن من أشخاصٍ آخرين في أسر أزواجهن الراحلين.
إذ اتصل بعض أفراد أسرة زوج ماشال بها وطلبوا منها الذهاب إليهم في ولاية هلمند من أجل أخذ استراحة، على حد قولهم.
لكنَّها رفضت طلبهم بأدب. وأضافت أنَّهم أصبحوا أشد فظاظةً وقالوا لها إنه ليس من الجيد لشابةٍ وطفليها أن يعيشوا في كابول بمفردهم.
وقالت ماشال: "قلت لهم إنني امرأةٌ متعلمة وأستطيع تدبُّر شؤون حياتي".
ثم عادت إلى العمل، لكنَّها كانت تُفكِّر طوال الوقت في الهجرة. وعزَّز تعرُّضها لمضايقات يومية، لأنِّها امرأة شابة وحيدة، تفكيرها في مغادرة البلاد.
"يعتبرونني فريسة".. وهاهي تتلقى رسائل من زملائها الذكور، ولكنها لم تطلب المساعدة
إذ بدأت تتلقى رسائل غير مرغوب فيها من بعض الأصدقاء والزملاء الذكور.
وشعرت كأنها فريسة عندما كانت تذهب إلى المكاتب الحكومية وحدها من أجل استخراج بعض الوثائق.
ومع ذلك، لم تطلب المساعدة من أصدقائها الذكور أو أحد أفراد أسرتها كي لا تنهار صورة المرأة القوية التي كانت تتظاهر بها.
"قلبي يحترق".. توقف بنيامين عن السؤال بشأن عودة والده
وبمرور الأشهر، توقف بنيامين عن السؤال عن موعد عودة والده إلى المنزل. لكنَّه ما زال يبكي وقت الغسق.
وقالت ماشال: "بعد فُقدان ساباون، كنت فاقدة الشعور، لكنَّ قلبي كان يحترق".
وتضيف قائلة "كنت أسأل نساء أخريات فقدن أزواجهن عمَّا إذا كان الألم يهدأ مع الوقت"
فكُنَّ يقلن: "كلا".
أمَّا بالنسبة لبعض أرامل أفغاستان الأخريات، تبدو آفاق المستقبل قاتمة.
إذ تُعَد خيارات وقدرات أرامل أفغانستان على تحديد مصيرهن أقل بكثير.
"تخجل من السؤال عن أموالها".. فهناك من يأخذ راتب زوجها
فمصير رحيلة -التي ليس لديها وظيفة وما زالت تحاول إكمال تعليمها- بيد عائلة زوجها.
وكان زوجها يتقاضى نحو 900 دولار شهرياً. ويحق لأسرته الحصول على بعض الأموال بعد وفاته.
لكنَّ رحيلة لا تعرف قيمة المبلغ المستحق، لأنَّ شقيق زوجها الأكبر هو الذي يجمع تلك الأموال.
وقالت إنها مُحرجةٌ من سؤاله عن المبلغ لأنها تعيش برفقة بنتيها في منزله الآن.
"يتدخل في حياتنا".. تشعر أنهم يريدون تزويجها من شقيقه الأصغر
وتشعر بأنَّ أسرة زوجها تُخطِّط لتزويجها من شقيقه الأصغر، مع أنَّ هذا الموضوع لم يناقش علانية.
وقالت إنَّ تدخُّل شقيق زوجها في حياتها ازداد، وإنَّه أصبح أكثر سيطرةً عليها.
وقالت رحيلة قبل بضعة أيام من إنجاب شمسية: "أخشى أن أتزوج مرةً ثانية".
وكانت رحيلة وزوجها قد عرفا أنَّ طفلهما الثاني سيكون فتاةً أيضاً، لكنَّها ظلَّت تتمنى أن يكون الطفل، بأيِّ شكلٍ من الأشكال، صبياً كي يعتني بها وبصوفيا.
إذ قالت لطبيبة النساء والتوليد التي كانت تتابع حالتها في إحدى الزيارات: "إذ كان المولود ذكراً، يمكنه أن ينقذ حياتي".
وحاولت الطبيبة مواساتها بإخبارها بقصة ابن عمها الذي قُتِل غرب البلاد قبل بضعة أشهر، إذ قالت لها: "أنتِ لستِ وحدك. هناك العديد من النساء مثلك في أفغانستان".
"إنه أشد ألم في العالم".. ولادة طفلتها ضاعفت مأساتها
وعقب ولادة طفلتها، انهارت رحيلة.
وقالت: "كنت أشعر بالألم، لكنَّ الشعور بالوحدة كان أشد بكثير. لقد بكيت كثيراً، بكيت لأنني امرأة وأرملة في الثانية والعشرين من عمرها وأمٌّ لطفلتين. فكرت في المستقبل، وفي شمس، وفي الوحدة".
وأضافت: أعتقد أنَّ الشعور بالوحدة هو أشدُّ ألم في العالم".
إنه ألم يعرفه آلاف من أرامل أفغانستان.
"تكره الهاتف".. وأصبحت تشير إلى عمها على أنه والدها
وبالنسبة لصوفيا طفلتها الأولى، فكانت ولادة شقيقتها بمثابة إلهاء جيد عن موت والدها.
لكنَّ صوفيا ظلَّت تعاني.
وفي كل مرةٍ كان الهاتف يرن فيها، كانت تعتقد أنَّ والدها هو المُتصل، فكانت تبكي وتقول إنَّها تريد التحدث إليه.
وفي الآونة الأخيرة، توقفت صوفيا عن السؤال عنه. وأصبحت تكره الهاتف، وبدأت في الإشارة إلى عمها على أنَّه والدها.
لكنَّ الأشياء التي ستُذكِّرها بشمس ستظل موجودة دائماً، في الصور المُعلَّقة على الجدران، وزيارات قبره، وإمساك يد والدتها.
بل وفي شيء أكثر شخصيةً، ألا وهو يوم 12 أبريل/نيسان الذي شهد عيد ميلادها الثالث وتزامن مع مقتل والدها.
"بصيص أمل يظهر لرحيلة".. ولكن هجوماً آخر بدد آخر أحلامها
شعرت رحيلة مؤخراً ببصيصٍ من الأمل.
إذ أخبرها أحد أقربائها أنَّ بإمكانه مساعدتها في العمل موظَّفة ضمن فرق التطعيم، وهي خطوة صغيرة نحو كسر أغلال اعتمادها على أسرة زوجها، وتشكيل مستقبلها.
ولكن بعد ذلك بأيام، قُتل قريبها في تفجيرٍ انتحاري خارج مظاهرة في كابول.
وقالت رحيلة: "لا أريد سوى مغادرة هذا البلد والذهاب إلى مكانٍ هادئ، مكانٍ لا يُقتَل فيه أحدٌ ولا يفقد فيه أحدٌ حياته".