إذا ما ذكرنا حركة تحرير المرأة في القرن الـ20 بمصر، تطفو إلى الأذهان بعض الأسماء المشهورة مثل هدى شعراوي وصفية زغلول، لكن قلائل هم مَن سمعوا باسم درية شفيق . هذه المناضلة التي وصلت إلى مكانة جعلتها في صدارة قائمة النساء الأكثر تأثيراً بالعالم العربي.
عند بلوغها الثانية والثلاثين من عمرها، كانت درية شفيق قد حازت درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون الفرنسية، وشاركت في مسابقة ملكة جمال مصر، ونشرت العديد من المقالات والقصائد الشعرية باللغتين العربية والفرنسية، إضافةً إلى تأسيسها أول حزب نسائي سياسي في مصر، وتوليها رئاسة تحرير مجلتين نسويتين.
لكن ما فعلته درية شفيق يوم 19 فبراير/شباط عام 1951، كان حدثاً فارقاً في تاريخ مصر، بحسب تعبير صحيفة The New York Times الأميركية. إذ عقدت درية شفيق اجتماعاً احتشدت فيه قرابة 1500 امرأة في إحدى قاعات المحاضرات بالجامعة الأميركية في القاهرة فيما سمّته "المؤتمر النسوي".
لكن الأمر كله كان مجرد حيلة لخداع رجال الشرطة؛ إذ كانت لدى درية شفيق خُطط أخرى.
تريد برلماناً حقيقياً وليس من الرجال فقط
أعلنت درية شفيق قائلة: "إن اجتماعنا اليوم ليس مؤتمراً بل هو برلمان؛ وبرلمان حقيقي! برلمان المرأة".
وبعدها بلحظات قادت درية شفيق حشداً نسائياً اقتحم البوابات الرخامية ووقف في ساحة مجلس النواب المصري (البرلمان) الذي تتشكل كامل هيئته من الرجال، أو كما سمّته آنذاك "برلمان النصف الآخر من هذه الأمة".
وقالت درية شفيق: "إننا هنا بقوة حقنا"، موجهةً حديثها إلى قيادي برلماني ذهبت محاولاته لإيقاف الحشد أدراج الرياح.
أصبحت بعد هذا من أكثر النساء تأثيراً
وقفت المتظاهرات حائلاً بين النواب واستئناف الجلسة التشريعية لمدة زادت عن أربع ساعات، حتى تعهَّد رئيس المجلس بالنظر في مطالبهن، التي جاء فيها إقرار حق المرأة في الانتخاب وفي الترشح للبرلمان وتولي المناصب. ولم يرد على بقية مطالبهن بشأن تساوي الأجور في العمل المتساوي وإصلاح قوانين الأحوال الشخصية.
نجحت هذه التظاهرة في وضع اسم درية شفيق على قائمة النساء الأكثر تأثيراً في تاريخ العالم العربي، ومع هذا، فإن العديد من المصريين لم يسمعوا باسمها قط.
وقفت ضد جمال عبدالناصر وماتت وسط كثير من الغموض
بعدها بست سنوات فقط، أي في عام 1957، أعلنت درية شفيق احتجاجها على "ديكتاتورية" الرئيس جمال عبدالناصر، الذي بدوره وضعها رهن الإقامة الجبرية، وأغلق المجلة التابعة لها والاتحاد، ومحا أثر أي ذكر أو إشارة لها في كتب التاريخ أو في وسائل الإعلام.
وفي 20 سبتمبر/أيلول عام 1975 تُوفيت درية شفيق في واقعة يحيطها الغموض، إثر سقوطها من شرفة منزلها بالدور السادس، بعد أن نُفيت ومُنعت من الانخراط في المجال العام. وظلت ذكراها محفورة في وجدان قلة من النسويات المصريات اللاتي لاقى سعيهن في إعادة تشكيل حركة نسوية مستقلة درجات متفاوتة من النجاح.
لكن كيف كانت بدايتها وتعليمها؟
وُلدت درية شفيق في يوم 14 ديسمبر/كانون الأول عام 1908 لأب يُدعى أحمد شفيق، موظف حكومي أجبرته وظيفته على التنقل بأسرته بين مدن دلتا النيل في طنطا والمنصورة والإسكندرية، بينما كانت والدتها السيدة رتيبة ناصف ربة منزل.
بعد أن أنهت درية شفيق المرحلة الابتدائية في مدرسة الإرسالية الفرنسية في الإسكندرية، اكتشفت درية أن مواصلة مراحل التعليم بعد الابتدائي مُقتصرة على الذكور فحسب؛ لذا شرعت درية في دراسة المناهج الفرنسية الرسمية بمفردها، بل أكملتها قبل المواعيد المقررة لعقد الاختبار، فوجد المعلمون الذين حاولوا استبعادها أنفسهم مضطرين على الإقرار بأن درجاتها من بين أعلى الدرجات في مصر.
طلب المساعدة من هدى شعراوي
واستناداً إلى تفوُّقها في هذه الاختبارات، ناشدت درية شفيق السيدة هدى شعراوي مساعدتها لاستكمال تعليمها. وهدى شعراوي هي سيدة أرستقراطية جمعت الصفوة من المصريات ونظمت الاتحاد النسائي المصري الذي طالب بالحقوق والحريات الاجتماعية للمرأة آنذاك، ودَعمَ استقلال مصر عن بريطانيا. وبخلاف درية شفيق، فإن هدى شعراوي لم تنادِ بأي حقوق سياسية للمرأة وما زال يُحتفى بها كبطلة قومية.
استغلت هدى شعراوي وضعها الاجتماعي حينذاك وأدرجت اسم درية شفيق في إحدى البعثات الحكومية لدراسة الفلسفة بجامعة السوربون في باريس على نفقة الدولة.
وشاركت كأول مسلمة في مسابقة ملكة جمال مصر
وعند عودتها إلى الإسكندرية في صيف عام 1935، علمت درية شفيق أنَّ هناك مسابقة تُجرى لاختيار ملكة جمال مصر.
في ذاك الوقت اقتصرت المنافسة في هذه المسابقة على النساء ذوات الأصول الأوروبية أو اللاتي يعتنقن الديانة المسيحية ولم يسبق لامرأة مسلمة أن شاركت فيها؛ إذ يحثّ رجال الدين الإسلامي على الاحتشام، وما يستوجبه من تغطية المرأة شعرها وجسدها، فرأت درية شفيق في ذلك الأمر فُرصةً لها.
الجمال كان تعويضاً عن الثراء.. لكنه تحول لفضيحة
قالت درية شفيق: "في باريس سبرت أغوار الحياة الفكرية والآن أود أن أفرض وجودي في المجال النسائي"، وفقاً لما ذكرته الباحثة النسوية سينثيا نيلسون، في كتابها الذي يحمل عنوان "النسوية المصرية درية شفيق: امرأة مختلفة" ونُشر عام 1996، والكتاب سيرة ذاتية لدرية شفيق كُتبت باللغة الإنكليزية.
وكتبت درية شفيق عن جمالها: "وكأن الحياة أرادت أن تكون عادلة بعد أن حرمتني الثراء والطبقة الاجتماعية، أن تُعوضني عنهما فحبتني الجمال".
التحقت درية بالمسابقة دون علم أُسرتها، وجاء اختيارها وصيفة أُولى، لكن الصحافة المصرية وصمت الأمر بالفضيحة، واستدعت درية ذكرى الموقف فقالت عنه: "في نظرهم كنت فتاة مسلمة تخالف تعاليم الإسلام!".
الجامعة المصرية ترفض تعيينها بسبب جمالها
أثناء دراستها في باريس التقت درية بنور الدين رجائي، الذي كان يدرس درجة الدكتوراه في القانون التجاري، وتزوجا وأنجبا ابنتيهما عزيزة وجيهان. وفي عام 1940 حصلت درية على درجة الدكتوراه، لكن الجامعة الحكومية في مصر رفضت تعيينها في هيئة التدريس بحجة أن جمالها ومفاهيمها المتحررة يُمكن أن يؤثرا سلباً على سمعة الجامعة الأكاديمية.
ثم استبعدتها راعيتها هدى شعراوي من الاتحاد النسائي النُخبوي على خلفية انتمائها إلى الطبقة المتوسطة.
بدأت تؤسس حركتها النسوية الخاصة
شرعت درية شفيق في تأسيس حركتها النسوية التي عُرفت باسم اتحاد بنات النيل، وكان الاتحاد مُكرساً لتعليم وتثقيف وتنظيم النساء العاملات من مختلف الطبقات الاجتماعية.
أسس اتحاد بنات النيل فصولاً لمحو الأمية، ومكتباً للتوظيف وأدار برامج للمعونة وكافيتيريا تُقدم وجبات مدعومة التكلفة للنساء العاملات، بالإضافة إلى تنظيم فعاليات ثقافية تتضمن عروضاً مسرحية للسيدات.
الأهم من كل هذا أن الاتحاد كان يُحرض الرأي العام على المطالبة بحقوق المرأة السياسية.
كتبت درية شفيق لاحقاً: "لن يُمكّن أحد المرأة من نيل حريتها إلا المرأة نفسها، قررتُ أن أُحارب حتى آخر نقطة في دمي لكسر الأصفاد التي تطوّق أعناق النساء في بلدي".
استعدَّت بطريقتها للمشاركة في المطالبة باستقلال مصر
كان المصريون يسعون إلى تنظيم حملة للمطالبة بالاستقلال عن بريطانيا، حينها أعدَّت درية شفيق فرقة نظامية شبه عسكرية من المصريات عضوات اتحاد بنات النيل.
وفي يناير/كانون الثاني عام 1952، قادت درية فوجاً نسائياً من اتحاد بنات النيل ليحاصرن فرع بنك باركليز ويغلقنه معتبرات إياه رمزاً للحكم الاستعماري البريطاني. (بعدها سلكت المحتشدات في الخارج مسلكاً غوغائياً فاحتجزتها قوات الأمن بعيداً وفرَّقت المتظاهرات).
الإضراب عن الطعام من أجل مطالب تحرير المرأة بعد الاستقلال
كانت درية شفيق تأمُل بعد الإطاحة بالحكم الملكي المدعوم من بريطانيا عام 1952 أن تشهد مصر بداية عصر النهضة النسائية، لكن الوضع ظل كما هو، فلم تُمنح المرأة حق التصويت، ولم تُشارك في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور.
لجأت درية شفيق في عام 1954 إلى استراتيجية جديدة: أقسمت أن تُضرب عن الطعام "حتى آخر نفس"، وأضربت معها أُخريات في صيامٍ اهتمَّت صحف العالم بنشر أخباره.
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة The New York Times الأميركية، أرسلت درية شفيق رسائل إلى مجلس قيادة الثورة جاء فيها: "إننا مؤمنات بأن النساء اللاتي يُشكلن أكثر من نصف تعداد الأمة المصرية يستحيل أن يحكمهنَ دستور لم يُشاركن في وضعه".
الرئيس يَعِدها لكنه تحوَّل لديكتاتور
بعد إضراب عن الطعام استمر قرابة العشرة أيام، أُودِعت درية شفيق أحد المشافي نتيجة تردي وضعها الصحي، وخُيل إليها أنها أحرزت نجاحاً حين وعدها الرئيس الفعلي آنذاك، جمال عبدالناصر، بأن الدستور المصري سوف يكفل للمرأة "حقوقها السياسية كاملةً".
لكن اتضح فيما بعد أنه لن ينال أحد مثل هذه الحقوق؛ إذ وطَّد جمال عبدالناصر سُلطته بصفته حاكم مصرالجديد القوي، فلم يُسمح للمرأة أو للرجل على حد سواء بممارسة حق الاقتراع بشكلٍ فعلي.
18 عاماً من العزلة
في عام 1957 خاضت درية شفيق إضراباً جديداً عن الطعام استمر هذه المرة لمدة ستة أيام، وهاجمتها الصحافة الناصرية واصفة إياها بالخائة، وتخلَّت عنها رفيقاتها وانقلبن ضدها وفُصلت من جمعيتها التي أنشأتها (اتحاد بنات النيل)، وأُجبرت درية شفيق على أن تمكث نحو 18 عاماً من حياتها في عزلة شبه تامة.
وبعد مرور عقد من الزمن، اعتقل عبدالناصر زوج درية شفيق لعدة شهور على خلفية الاشتباه في تورطه في أعمال تخريبية لا تمتّ لها بِصِلة، وأُدرج اسمه في القوائم السوداء في مصر ثم أُجبر على الرحيل عن مصر؛ كي يُكمل عمله.
وبعد انفصالهما وطلاقهما عام 1967 اكتملت العزلة التي عاشتها درية شفيق.
بعض الإنصاف لدرية بعد وفاة عبدالناصر
وكتبت النسوية المصرية فاطمة عبدالخالق في صحيفة الأهرام المملوكة للدولة، بعد عقود من انتحار درية شفيق عام 1975: "يوماً ما كانت درية شفيق هي الرجل الوحيد في مصر". كان عبدالناصر قد توفي قبلها بسبع سنوات، ما جعل الجهر بهذه الآراء أقل خطراً.
وتقول فاطمة عبدالخالق: "نهضت درية شفيق في عام 1957 لتُخبرنا أننا في طريقنا نحو الديكتاتورية، لكننا كنا أغبياء".
اقرأ أيضاً
لأول مرة في تاريخها.. امرأة سوداء تفوز بلقب ملكة جمال بريطانيا العظمى