دخلت إلى مكتب المحامية وهي تمسك طفلاً صغيراً بيدها، وبطنها المنتفخ يشي أنها في الشهور الأخيرة لحمل آخر، بحياء اقتربت من السكرتيرة وأخبرتها همساً بأنها تريد معرفة إجراءات تثبيت الزواج.
نظرات المنتظرين في بهو المكتب تركزت على السيدة المتشحة بالسواد باستنكار شديد، ولرفع أي لبس أو اتهام رفعت صوتها قليلاً لتقول "تزوجت قبل عدة سنوات.. لكن بعقد براني".
في انتظار دورها، جلست السيدة القادمة من حلب على أحد كراسي القاعة، وطفلها يحاول الانفلات من يدها ليستكشف المكان، سألتها السيدة الجالسة عن يمينها عن مشكلتها.. كانت محتاجة لمثل هذا السؤال فاندفعت قائلة "الحصار هو السبب".
فمع اندلاع الحرب في سوريا زادت نسبة الزواج العرفي بشكل كبير، وكشفت إحصائيات رسمية أن عدد العقود العرفية التي تم تثبيتها في عام 2011 بلغت 1692 عقداً، و2269 عام 2012، بينما وصلت إلى 5315 عقداً عرفياً في 2013، وبلغت 7566 في عام 2014، لتصل إلى 12333 عقداً عرفياً في 2015، ومن الأكيد أن هذه الأرقام سترتفع مع انتهاء حصار الغوطة وخروج آلاف المدنيين.
الحصار هو السبب
اضطرت الشابة العشرينية لهذا النوع من الزواج خلال فترة الحصار الذي عرفته منطقة حلب، تزوجت من قريب لها واستعانا بأحد الشيوخ لعقد قرانهما وبعد نجاحهما في الهرب، تنقلا بين عدة مناطق حتى انتهى بهم المطاف في دمشق.
تمكن زوجها من إيجاد عمل له، كانت محظوطة لأنه بقي على قيد الحياة ومازالا على وفاق، الكثيرات غيرها مررن بتجربة مشابهة لكنهن فشلن في تثبيت العقد بسبب وفاة الزوج أو اختفائه، تتنهد وتؤكد لجارتها في قاعة الانتظار بأن همها الأساسي اليوم هي وزوجها هو تثبيت زواجهما في السجلات الرسمية كي يتمكنا من تسجيل أولادهما.
جاء دورها لتقابلها المحامية رهادة عبدوش وبصحبتها الناشطة في قضايا المرأة سوسن زكزك، سيدة القانون تعتبر هذا النوع من الزيجات ليس وليد الصراع فقط بل هو موجود منذ زمن ومتجذر في عادات المجتمع السوري، لأنه يعتمد طريقة الزواج الإسلامي الذي لا يحتاج إلا لشهادة رجلين بالغين وعقد يكتبه شيخ أو إمام المسجد، ولا ضرورة لتوثيقه في السجلات الرسمية.
الزواج العرفي كان منتشراً، حسب الناشطة الحقوقية، عند فئات متعددة من المجتمع السوري بسبب العادات والتقاليد التي لا تسمح للخطيبين باللقاء والتعارف بدون عقد شرعي، المشكلة التي برزت ما بعد الأزمة تتمثل في أن عقود الزواج، أو معظمها، لا تكتمل بعقود رسمية في المحاكم الشرعية بل تبقى على شكل زواج عرفي، غير مسجل بالدوائر الرسمية، وبالتالي غير معترف بها.
عبدوش تُحمل قانون الأسرة مسؤولية انتشار هذا النوع من الزواج لأنه يحوي على ثغرات ويسمح بالتجاوزات، فلا يحاسب المتزوجين خارج إطار المحكمة أو يجرم هذه الممارسة، مما جعلها تتسبب في مآسي لأجيال كثيرة، "هناك أولاد كثيرون غير مسجلين لأن زواج والديهم غير مسجل أصلاً" كما تقول، ولا يمكن للمرأة حمل صفة متزوجة أو الاستفادة من حقوقها دون إثبات زواجها بشكل رسمي.
الهروب من "خدمة العلم"
أحد مكاتب المحاماة الذي أصبح تابعاً لإحدى المنظمات ويقدم استشاراته القانونية بالمجان، يشهد توافد الكثير من حالات إثبات الزواج يومياً، بعد السيدة الحلبية جاءت شابة أخرى متزوجة من دون تثبيت للعقد، رغم أنها مقيمة في جرمانا –بالقرب من دمشق- لكن العائق في حالتها كانت تخلف زوجها عن خدمة العلم (الخدمة العسكرية).
فعقد الزواج الرسمي يحتاج لمجموعة أوراق مطلوبة من ضمنها الحصول على وثيقة من شعبة التجنيد، ويمكن التغاضي عن هذه الأوراق في حالة الحمل، وهو ما جاءت ديمة للقيام به، فهي تنوي رفع دعوى ضد زوجها بعدما أتمت شهرها الرابع وحصلت على تقرير طبي يثبت كلامها.
وفي المناطق السورية التي تسيطر عليها حكومة بشار الأسد يكتفي العروسان بالزواج العرفي، بسبب خوف الشباب من الالتحاق بالخدمة العسكرية "في ظل هذه الحرب القاتلة" كما تصفها الناشطة الحقوقية زكزك، فيبتعدون عن مراجعة أي دائرة حكومية، ومن بينها المحاكم الشرعية، حتى لا يساقوا للجيش.
أما في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة فلا وجود لمحاكم شرعية حكومية، وبالتالي فعقود الزواج في محاكمهم هي أشبه بالزواج العرفي.
وفي لبنان حيث رصدت عدة حالات، هناك سببان رئيسيان للزواج العرفي حسب المحامية عبدوش، أولهما هو حالة اللجوء غير النظامية للعروسين أو لأحدهما، وثانيهما يتمثل في الكلفة المادية الباهظة لتسجيل هذه الزيجات في ظل ظروف مادية بائسة يعيش فيها اللاجئون واللاجئات.
العصمة هي الحل
القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي، كان قد اقترح حلاً للمشاكل المترتبة عن الزواج العرفي، إذ أكد أنه في حال اضطر الأهل لهذا النوع من الزواج فيجب أن يضعوا العصمة في يد ابنتهم، وفي حال ذهب الزوج ولم يعد فإنّ الزوجة يمكنها أن تطلق نفسها بحضور الشاهدين.
ورغم الحل المقترح فإن الزواج العرفي لا يجلب إلا المآسي للزوجة وللأطفال حسب خلاصات زكزك، تضيع حقوق الزوجة "المنقوصة أصلاً"، وتعيش حياة ملؤها الخوف من أن يتركها الزوج ويتخلى عنها فتضطر لمواجهة مجتمع لا يرحم.
وأحياناً يكون هذا الشكل من الزواج وسيلة للاتجار بالبشر وتشغيل النساء بالدعارة بشكل إجباري نظراً للسيطرة الذكورية للرجال على نسائهم؛ أما الأطفال فالتهديد الأول الذي يعانون منه هو عدم تسجيلهم في السجلات الرسمية وعيشهم "ساقطي القيد" وضياع حقوقهم.
وعلى باب مكتب المحاماة وقفت سيدة حائرة لا تدري ماذا تفعل، كانت تملأ الدموع عينيها بعد فشلها في تثبيت عقد زواجها المكتوب على ورقة مهترئة، بعد كل السبل والأبواب التي طرقت لن تتمكن من منح أولادها أي اسم، فهم في نظر القانون مجرد مجهولي النسب بعدما اختفى والدهم.
زوجها المختفي لم يكن سوري الجنسية وتزوجته مرغمة خلال فترة تواجدها في إحدى المناطق الساخنة، وبعد إنجاب طفلين منه فقدت التواصل معه، إلى الآن لا تعرف مصيره إن كان على قيد الحياة أم متوفى كما أنها لا تعلم شيئاً عن عائلته أو بلده حتى تقصدهم..