"تتكوّن الشخصيّات من طبيعة العلاقات".. هكذا، كتب كريستوفر بولاس، المحلل النفسي العبقري الذي جاء بعد فرويد، في كتابه The Shadow of the Object الذي يحمل عنواناً متشائماً ومحتوىً شديد التفاؤل. ما قصده كريستوفر بتلك العبارة، هو أنّنا جميعاً نتطور ضمن سياقات معيّنة، نجمع قطع وأجزاء العلاقات من حولنا ثمّ نقوم بإعادة تركيبها دون وعيٍ منّا، بما يتماشى مع مزاجنا وطباعنا، الأمر الذي يتحوّل تلقائياً إلى مخططٍ بيولوجي يسهم بشكلٍ جزئي في تحديد هوّياتنا. هذا الاستنتاج يوضّح به بولاس كيفيّة تكوّن الشخصيّات المختلفة.
حسناً، كيف سيتأثر تطوُّر شخصيّاتنا حين نحيا في كنف آباءٍ مصابين بالنرجسيّة؟ إليك التأثيرات الثمانية الأكثر شيوعاً.
جَلد الذّات المزمن
قد يكون الآباء النرجسيّون سيّئين وقد لا يكونون كذلك، ولكن من المؤكّد تقريباً أنّ لديهم عواطف صمّاء، إنّهم مشغولون جداً باهتماماتهم الخاصّة عن الإصغاء لآلامنا. ولأنّ الأطفال مفرطِي الحساسية الذين يتوقون إلى الحبّ لا يستطيعون البحث عن عائلةٍ أخرى، فإنّهم يضحّون بتقديرهم لذواتهم لتغذية آمالهم ورجائهم. يحدّثون أنفسهم: "المشكلة تكمن في شخصي أنا".. "فلو كنتُ أكثر صمتاً وهدوءاً أو أكثر مرحاً، لم تكن أمي لتصرخ في وجهي، أو تتجاهلني، أو تنتقدني طوال الوقت. لو أصلحتُ نفسي، فسأصير أخيراً محبوباً". للأسف،نلجأ غالباً إلى لوم أنفسنا، على ما نفتقده في حياتنا للحفاظ على بارقة أملٍ بداخلنا.
متلازمة صدى الصوت
إذا كنتَ بطبيعتك شديد الحساسية والعاطفية، فمن المرجح أن يصيبك الآباء النرجسيّون بما تسمى متلازمة صدى الصوت، نسبةً إلى أسطورة حورية الصدى التي لُعنت لتكرر الكلمات القليلة التي سمعتها للتوّ. تماماً، كما يقع النرجسي في حبّ انعكاس صورته، فإنّ الصدى كذلك يقع في حبّ النرجسيّين. الآباء النرجسيّون الذين ينفجرون دون سابق إنذار أو ينهارون في البكاء كلّ مرةٍ يجرؤ فيها أطفالهم على التعبير عن الاحتياج، يدفعون الأطفال مفرطي الحساسية إلى الحصول على أصغر غرفةٍ ممكنة؛ لأنّهم يعدّون توقّع أي مزايا على الإطلاق، نوعاً من الأنانية. مثل الصدى، يكافح المصابون بمتلازمة الصدى للحصول على أصواتهم الخاصّة، وفي كثيرٍ من الأحيان، ينتهي بهم الأمر مع شركاء نرجسيّيين للغاية.
الارتباط غير الآمن
فلنعرّف الارتباط الآمن، وهو مدى شعورنا بالراحة من الاقتراب من الآخرين والاعتماد عليهم بأساليب صحيّة. قد يؤدّي التجاهل، وسوء المعاملة أو غياب العواطف لدى الآباء النرجسييّن، إلى ظهور التساؤل عن مدى شعورنا بالأمان في علاقاتنا مع الآخرين. الارتباط غير الآمن قد يتّخذ صورتين مختلفتين: الأولى هي تجنّب الارتباط، وفي هذه الحالة نعالج مخاوفنا بالابتعاد عن الناس (لن أخاطر بالاعتماد على أيّ شخصٍ آخر، مرّةً أخرى طوال حياتي!)، والثانية هي الارتباط القلق، الذي نقوم فيه بالمطاردة بعد الحب، بحثاً عن الأدّلة التي تثبت دوام حبّنا (لماذا لا تنتبه إليّ!). الدمج المعقّد بين الطبائع ودرجة الرعاية والاهتمام، سيحدّدان ما إذا كنتَ ستصبح انطوائيّاً أوقلِقاً؛ ولكن بشكلٍ عام، يؤدّي التجاهل المستمرّ إلى خلق الانطوائيّة، بينما يؤدّي الاهتمام الذي لا يمكن التنبؤ بدرجته إلى الارتباط القلق.
ذعر الاحتياج
المشكلة الأخرى المرتبطة بما سبق، هي ما أسمّيه ذعر الاحتياج. قد يجعل الآباء النرجسيّون أبناءهم مرعوبين من احتياجاتهم، فيلجأ الأبناء إلى دفن احتياجاتهم بأن يقدّموا خدماتٍ قهريّة وإجبارية، أو ببساطة بأن يلجأوا إلى الصمت. قد يُهمهمون فترةٍ من الزمن، لكي لا يبدوا في حاجةٍ إلى شيء من شُركائهم أو أصدقائهم. ثمّ تظهر الأزمة، ويبدؤون فجأة بملاحقة أصدقائهم دون توقّف، أو يبحثون عن ضماناتٍ دائمة، كنتيجةٍ لعدم استقرارهم وقلقهم الداخلي العميق. الطريقة الأسرع للقضاء على حاجةٍ ما، هي الحصول عليها على الفور؛ على النقيض، يكون الأشخاص الأكثر خوفاً من احتياجاتهم، هم الأكثر عُرضةً للظهور بمظهر "الأكثر احتياجاً".
الاستقلالية العنيفة
قد تكون استجابة الأطفال المجازفين والأكثر جرأة تجاه الآباء النرجسيين، هي التخلّي بشكلٍ تامّ عن العواطف والعلاقات الحميمية، معتقدين أنّه ليس ثمّة من يمكن الوثوق به أو الاعتماد عليه. من المستحيل الاستمرار في تحمّل هذا مع حياةٍ طبيعية، ومن الممكن أن يؤدّي بسهولة إلى ذعر الاحتياج المتقطّع. بدلاً من ذلك، قد يصبح الأطفال ذوو الطبائع الأكثر حساسية، أكثر نكراناً لذواتهم وأكثر تقديماً للخدمات الإلزامية، كما لو كانت الطريقة الوحيدة لاستمتاعهم بالحنوّ الطبيعي هي قيامهم بفعل ذلك، عن طريق تقديم الدفء والرعاية للآخرين، حتى لو لم يكونوا قد استمتعوا بهما قط.
الطفل الذي يمارس دور الآباء
الأطفال ذوو الطبائع الأكثر حساسية، قد يطوّرون خاصيّة "التركيز على احتياجات آبائهم"، ثمّ احتياجات شركائهم في المستقبل. إنّهم ينظمون حياتهم حول سعادة الآخرين، مقتنعين بأنّ عليهم تعزيز احترام آبائهم (بالتأكيد، أنت الأفضل!) أو تجنّب غضبهم المحتمل (سأحضّر لك الفطور، إنك مجهد!)، وذلك بالمتابعة اللصيقة بجميع رغباتهم وأهوائهم. الطفل الخائف المتحوّل إلى شخصٍ بالغٍ صغير، يكبر في الغالب مع قلقٍ لا نهائي من أن يكون أنانياً. حتى إنّه قد ينشأ على كراهية احتياجاته الخاصّة، معتقداً أنّها تمثل عبئاً على الآخرين.
النرجسيّة المتطرّفة
كلّما كان الطفل أكثر عدوانيّةً بطبيعته، كانت استجابته لنرجسيّة أبويه على النحو التالي: إذا لم تتمكن من هزيمتهم، انضمّ إليهم. ولسان حالهم يقول: "سأثبت أنّني الأعلى صوتاً، والأذكى والأجمل في هذه الغرفة. بهذه الطريقة، لن يستطيع أحدٌ إشعاري بأنّي غير مهمّ مرةً أخرى". إذا كان التعنّت والعناد من صفاتك وطباعك، وتعرّضت لتجاهل وسوء معاملة الآباء النرجسيّين، فمن المرجح أن ينتهي بك الأمر بأن تكون نرجسيّاً أنت الآخر.
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)
يكون الآباء الأكثر أنانية ونرجسية، أكثر عرضةً لترويع أطفالهم وتعريضهم للصدمة. قد يؤدّي هذا إلى نهجٍ مخيفٍ في الحياة وهو اضطراب ما بعد الصدمة. سوء المعاملة يؤدي بنا إلى حالةٍ من اليقظة المستمرة، لتفادي الخطر القادم. وهذا بدوره يؤدي إلى القلق المزمن، ذكرياتٍ مُفاجِئة عن إساءة سابقة، والشلل العاطفي، وحتى عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل أو التفكير فيه؛ إذ يدخل المرء في حالةٍ من الدفاع المستميت عن حياته في اللحظة الراهنة، حدّ فقدانه القدرة على التفكير فيما وراء تلك اللحظة. فعلى سبيل المثال، ظنّ أحدهم في وقتٍ ما، أنه لن يستطيع حضور ذكرى ميلاده الـ30.
حين تكون الحياة بمثابة تهديداتٍ دائمة، فلن يكون هناك مجالٌ للتخطيط للمستقبل. سيصبح المستقبل غامضاً مُبهماً، وحين يحدث ذلك، سيكون التخطيط للخطوات القادمة في الحياة، كمن يحاول اختراق جدارصلب.
في هذا الفيديو، أعرض لكم المزيد من التفاصيل، عن كلٍّ من تلك التأثيرات الثمانية الشائعة.
– هذا الموضوع مترجم بتصرف عن النسخة الأميركية لـ "هافينغتون بوست". للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.