لا أعرف كيف أو متى بدأت علاقتي مع الترحال، ولكن أحب السفر ولا أستطيع أن أتخيل حياة بدون موسيقى؛ الحقائب وزحمة المطارات وعيون المسافرين الزائغة. معظم رحلاتي كانت لا تبتعد عن محراب العلم وفضاء العمل وهما وثيقا الصلة بالإنسان ورسالته في الحياة، ولكن رحلتي إلى تركيا لم تكن كذلك! كانت مختلفة ومليئة بمخاوف وتطلعات تستحق التوثيق وإن كنت في البداية أردت أن تكون في طيّ النسيان وبعيدة عن التدوين، لكونها تمس أشخاصاً وأشياء لم نتعود الكتابة عنهم، لكن وبما أنني تورطت فيها "لا يتعيّن عليّ سوى أن أقول مرحباً وأفسح لها المكان"، كما قالت الكاتبة الراحلة رضوى عاشور، فارسة القلم والمرأة التي امتلكت إلى جانب أسلوبها الأدبي وسردها التعمق في منعرجات التاريخ والتمرد على القوالب والواقع الآسن وحدود الجغرافيا.
في مساء باهر المحاسن -والأمسيات المبهرة قليلة في البلاد المنكوبة- غادرت مدينة استنفدت كل طاقتي وأرهقتني فكرياً وجسدياً بعد شهور لم أمارس متعة السفر أو بالأحرى لم أهرب من زحمتها وحظرها الليلي ومخاوفها الأمنية. كنت مستعداً لأتمسك بكل الفرص ولو بالذهاب إلى إسطنبول التي تعاني هي الأخرى من تفشي الفيروس وسطوة كورونا المتحور! ولكن هناك ألف سبب وسبب لزيارة عاصمة العالم ومسرح التاريخ، مَن يستطيع مقاومة إغراءات الحضارة ومهابة الطبيعة على سفوح تلالها السبعة.
قطعت تذكرتي صوب مدينة تتكئ على قارتين قديمتين و"تتمثل كبرى فضائلها في قدرة سكانها على رؤية المدينة بعيون غربية وعيون شرقية"، كما سطرها أورهان باموق في كتابه "إسطنبول.. المدينة والذكريات"، وهو كتاب أضاء لي ميادين العاصمة، وحمل سيرة الكاتب وتفاصيل المدينة، وظل منذ صدوره جماهيرياً تلقفته الأيادي وقرأته الشعوب وحظي بالنقد والترجمة والنقاشات.
وصلتُ مطار جومو كينياتا في نيروبي منتشياً بتأثير الأمنيات، وبما أن الأماكن المأهولة بالذكريات تأبى أن تتغير ظَل المطار بوابة تربطني بالخارج وتقرب أحلامي وتنهكني أيضاً؛ نواميسه لا تتغير، وملامحه لا تتبدل، وتصور الموظفين عن الصومالي حتى وإن كان هارباً من أتون الحروب وأنياب المجاعة ومخالب الحركات (الإرهابية) ثابتة "معه أموال طائلة جناها من القرصنة، ولا بأس بإعطاء أخيه الإفريقي قسطاً منها"! ومن الغريب أن هذه النظرية لا تقتصر على الكينيين، بل هي منتشرة في عموم إفريقيا، ففي نظر أشقائنا الأفارقة "نحن موسرون أسخياء والدولار يتساقط من جيوبنا كالأوراق تماماً"، كيف ترسخ في ذهنهم أن الصومالي الشريد لديه من الثروة ما يكفي لإثراء الجميع؟
إجراءات المطار كانت متعبة حقاً، وكادت معضلة الجوازات أن تعصف برحلتي وتبدد أحلامي وترسلني إلى أعماق سجون مليئة بالبعوض والرائحة النتنة. على جنبات ممر تتناثر فيه المعاناة وتفوح منه رائحة الرشوة في دولة تتصدر العالم سنوياً في مؤشر الفساد قضينا قرابة ساعتين ننتظر الفرج.
في ردهة مدخل "ب"، وتحديداً بين كاونتر الطائرة وكبينة الجوازات المكتظة بالمسافرين نادتني فتاة تزينت بباروكة سيئة الجودة، كانت ثلاثينية دلخة، مكتنزة الجسم هيفاء القامة قاطبة الجبين وتتحدث بخبث، صرختْ في وجهنا وأمرت أن نخرج من الصف وأن نقف بعيداً عن الجميع، لا بد أنني كنت في قمة الغيظ والإحباط بعد أن أصبحتُ هدفاً لسهام النظرات وعيون الشرطة الفاسدة. في الموقف المحرج لم أكن وحيداً، بل كنت مع امرأة طويلة، هادئة الملامح، ومن إفريقيا الفرنسية، لعلها كانت سنغالية أو تشادية وربما إيفوارية، كانت خالية من المكياج وتتوشح بمِسبحة وتترنم بقصائد صوفية وكأنها في زوايا المريدية.
بعد نقاش طويل وحاد تجاوزنا المتاهة بسلام، وقرأت على جبين زوجتي تعابير الامتنان فشرعنا في الإجراءات الأمنية المهينة التي ذكرها جلال أمين في كتابه"تجديد جورج أورويل"،وهو كتاب يهزّك من الداخل ويناهض الحكومات الشمولية والديكتاتوريات وكذلك الرأسمالية المتوحشة وأدواتها الاستعمارية، ولم أقرأ منذ زمن بعيد كتاباً بهذا الجمال والإبداع والمؤانسة لما يحمل من رؤية ثانية وثاقبة للواقع وآراء لها فرادتها، وأفكار عذراء لم يتطرق إليها المؤلفون في كتبهم أو تناولوها بطريقة سطحية أو إجمالية، إضافة إلى الأسلوب المبهر والتجارب الثرية والمحتوي الإنساني، وفي بالي أن أترجمه إلى اللغة الصومالية إن أمدّني الله بالعمر.
وعندما وصلت إلى الجهاز الماسح والشرطي الذي أمرني برفع ذراعي في الهواء ومرر يده على جسمي بطريقة مهينة -وهذا يتركني محبطاً ويضجرني فعلاً- تذكرت الفصل المثير من الكتاب (الإرهاب)، وما يعانيه المسافرون جرّاء إرهاب وهمي لا يوجد إلا في خيال مهندسي الكلمة الكريهة: "ليس غريباً أن أشعر بالضيق والغيظ الشديد كلما كنت على وشك ركوب طائرة للسفر فيطلب مني المرور بمختلف الإجراءات الأمنية، التي يقال إن الغرض منها حماية الطائرة وركابها من "الإرهابيين"، إذ أشعر بأن هؤلاء الذين فرضوا هذه الإجراءات على المسافرين أقرب إلى ممارسة الإرهاب من أي شخص آخر، وهم على الأقل يمارسونه بالفعل، ويومياً، ضد ملايين من الأبرياء من ركاب الطائرات، وليسوا مجرد خطر يلوح به بالفعل، ونادراً ما يوجد في الواقع".
قلّما تخلو المحَن من المنح وهدايا السماء، في عز المتاعب وقف إلى جانبي مسن صومالي علا الحزن عارضَيه ربما لطول الرحلة التي تنتظره من نيروبي إلى نيوجيرسي، أو الخوف من الأمراض المعدية في مطار مزدحم ومسافرين لا يتقيدون بالإجراءات الوقائية. كان وديع النظرات، أحدب الظهر، باسم الجبين، تبدو عليه مهابة السبعين، وروح فكاهة صقلتها صدمات العمر وتجارب السنين.
اقترب مني وتجاوز كل الدوائر والمساحات الشخصية -كعادة الصوماليين- وعلى وقع نظرة أبوية حانية بدأ يواسيني ويمسح رأسي بأصابع تحركها الرعشة كبندول يتأرجح في الفراغ. كانت لحظة بالغة الحنان ولمستْ وجدان طفل لم يكبر ولم ينسَ مرارة اليتم والحرمان. ودّعتُ الشيخ الذي كان الأدب الصومالي يوحد ذائقتنا وما زال نقاشنا يحتدم حول راغي أوغاس وقِمانْ بُلْحن، أيهما أشعر وأجزل بيتاً وفتح للشعر الصومالي الآفاق؟ لم نتفق! وهذا هو المتوقع! من الطبيعي جداً أن يختلف الصوماليون في كل شيء سوى الإبل، والاتكاء على شجرة القبيلة، والانتماء إلى الإسلام الذي اعتنقوه قبل أن يصل إلى مأرز الإيمان.
في صالة الانتظار وبعد أن تجاوزت كل العقبات تنفست الصعداء وانخرطت في جدل الصوماليين وهو بيزنطي الطبع على الأغلب، واختلافهم ليس موضوعاً للنقاش والحوار والبحث عن الحلول الممكنة! لقد تعالت الأصوات وتصادمت الأفكار وتعاركت النظريات، واشتد الجدل حول سياسيين كاذبين ومرشحين انتهازيين وغير محترمين إطلاقاً، وحول السياسة الصومالية التي امتهنها كل من لم يستطع أن يعمل ويجتهد، والنظام الفيدرالي الذي أخَذْنا على علاته وتشوهاته. معظم المسافرين كانوا ينتقدون النظام الفيدرالي الذي اعتمد عليه الوطن في مؤتمر إمبكاثي في كينيا عام 2004م دون أن يجد قبولاً شعبياً أو تصويتاً جماهيرياً. وكانوا يرددون أن "النظام الفيدرالي هو السبب الرئيس لهشاشة الدولة وضعف الأجهزة الأمنية والتدخل الأجنبي وتعملق الولايات على حساب الحكومة الفيدرالية"، في حين كنت أؤكد على أن النظام الفيدرالي ليس سيئاً أو جيداً بحد ذاته، بل الأدوات والقوانين وتطبيقها وما يترتب على ذلك يجعله ملائماً أو غير ملائم للشعب. في نظر المسافرين كنا مجموعة من الغوغائيين يصرخون باستمرار، ولا يتعاركون في حين كنا نناقش المعضلة الكبرى في بلادنا؛ السياسة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.