"ماذا تعلمت هذا العام من كل ما مررت به؟"
هكذا سألتني صديقتي حينما كنا نتناول الغداء معاً بأحد المطاعم المتواضعة في جو شديد الحرارة، وبعد امتحان أكاديمي كانت حرارته أشدّ لهيباً من الفلفل الحار، ولا ندري كيف نجتازه هو وأيامنا سوى برحمة الله ولطفه.
وكعادتنا نهاية كل عام دراسي بالجامعة نجلس نتسامر ونستخرج الدروس والعبر من عامنا، أو من موقف عايشناه، وهكذا تمضي أيامنا معاً، وما أحلاها من صحبة، ولكن هذه المرة كان وقع السؤال على نفسي مختلفاً، فعامي كان مليئاً بالأحداث والتحديات، صولات هنا وجولات هناك، صراعات داخلية، ومواجهات خارجية، الكثير من الإحباط ونفاد كل مخزوني من الطاقة، ولولا ما يمدني به الله من صبر وأمل ما استطعتُ الاستمرار في السعي قيد أنملة، ولكن سؤالها جعلني أفكر في كل ما مررت به هذا العام، وكيف شعرت في كل موقف، وماذا استفدت من كل ذلك لبقية حياتي، محاولة لملمة شتات نفسي بالكتابة، وسرد ما يمكن البوح به إليكم.
كصيام الدهر
عامي كان أشبه بصيام يوم شديد الحرارة، ووقت إفطاره أبعد ما يكون حتى يبلغه، وهو ليس بنافلة، وإنما فرض، لا أنت تستطيع إفطاره، ولا أنت القادر على الأخذ بالرخصة فيه، ولا يجوز لك سوى الاستمرار بالصيام والصبر على مرارته حتى يؤذن لك بالفِطر، وهو فطر يوم تروي به ظمأك وتستعين به على صيام اليوم التالي، وهكذا بقية الدهر إلى أن تلقى الله، كانت حياتي أشبه ما تكون بذلك، كثيرة الغرس والسعي، قليلة الحصاد والوصول للنتائج، وإن بلغت هدفاً فيها، فما هو إلا موسم ينقضي وأنهض من جديد لأستمر بغرسي خشية البوار، فقط كل ما يدفعني للاستمرار بعد كل هذا العناء هو أن وعد الله حق، وأن سعيي سوف يُرى، ثم أجزى أوفى الجزاء.
نقطة تحول
كان هذا العام نقطة تحول كبيرة جداً، فصل طُوي ليبدأ غيره، لكن الأمر لم يكن سهلاً ولم يمر بهدوء الليل الساكن، وإنما كان كعاصفة شديدة قلبت كافة الموازين، كل الأحلام والخطط وكل شيء رأساً على عقب، وألتمس في ظلامها النور محاوِلةً السير على بصيص ضوئه مهتديةً به في طريقي أملاً في الوصول أو وضوح رؤيا أكبر، تضبط بها بوصلة اتجاهك في الحياة، وتجتهد لتستعين بالحياة الفانية على الحياة الباقية حين لا يبقى لك شفيع غير ما قدمته من عمل.
وهو اللطيف الخبير
كانت الدروس التي تعلمتها هذا العام كثيرة، غير أنها كانت من ذاك النوع الذي لا نتعلمه إلا "وجعاً"، ويبقى أولها (أن الله يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، فمنذ أبصرت عيني لم أرَ لطفاً كلطف الله في أيامي هذه، مهما بدر مني لم يتخل عني حين تخلى عني الجميع، ولم يُدر وجهه كما فعل الكثير، ولم يغلق بابه بوجهي كما أغلقه خلق كثير، وإنما كان رحيماً كريماً، كان خير الرازقين، يغلق لي بابا بحكمته ويفتح لي غيره برحمته، يختار لي ما يناسبني، ويدبر لي أمري حين أفوضه، يتعهد فؤادي بالري كلما جدبت صحراء قلبي، ويستجيب لدعائي ليحيي به أملي، ويسخر لي كل الكون من حولي، ما ردَّ خائباً من طرق باب الله راجياً، فقط استمر بالوقوف أمام عتابته في كل أحوالك، واستسقِ رحماته ولا تفارقه حتى يؤذن لك بالدخول، فإن أذن لك فما أسعدك من بشر، هنيئاً لك.
من قال آمنت بالله فكأنما قال له اختبرني
ما بين فترة وأخرى أوضع باختبار به مفترق طرق ما بين الثبات على شيء به رضا الله والتزام بديني، وبين شيء آخر سيعود عليّ بنفع دنيوي كثير إن فعلت ما يُطلب مني دون أن أنبس ببنت شَفة، وهكذا هي الحياة اختبار دائم لصدق ثباتنا على الدين القويم الذي ارتضيناه لنا ديناً، وخاب وخسر من باع آخرته بدنياه، مهما بدا لك الأمر مغرياً فاثبُت وارجُ ما عند الله، وحاوِل بشتى الطرق أن تجعله كما يرضي الله، فإن حدث ذلك فأنعم به وأكرم، وإلا فالزم الثبات على الدين وقل يا رب عوضني خيراً منها.
ولا تمدّن عينيك
يُهلك المرء نفسه ويقتلها بيده حين يسخط على حياته وكل ما فيها، يجلد ذاته على عدم الوصول لهدف، يعاقبها بالحزن والكمد ويتهمها بالتقصير والفشل، لأنه لم يرزق ببيت فاخر كجاره، ولم يوفق في وظيفة تقدم لها كزميله، ولا تعجبه وظيفته البسيطة بنقودها الضئيلة، وكل شيء يحققه غيره يرى نفسه فيه ضحية للآخرين، وفقوا في الحياة بينما لم يوفق هو، ويمد عينه إلى هذا وذاك، فيفقد قلبه الطمأنينة وروحه الهدوء، ولا ينعم بالسكينة والرضا في حياته البسيطة ولا يرى بها أي جمال مما وهبه الله، وهكذا يُفني نفسه بيديه وهو لا يدري.
لا تقارن.. كلٌّ ميسر لما خلق له
حينما يضعك الله في مكانة فاعلم أنه اختارك دون غيرك لها، يعلم أنها تناسبك وأنك قادر على النجاح فيها، لو أنك تحتاج لتعلُّم درس منها يفيدك في حياتك، أو ينضج طرفاً غضاً طرياً بروحك كان يحتاج تقويماً لاعوجاجه، لم يخلقنا الله عبثاً، ولم يضعنا بمكان أو منزلة هباء، فابحث عن الحكمة واعمل حتى يأتيك اليقين.
انتبه.. هنا ليست الجنة!
إن أعجبتك حياة أحدهم وتمنيت شيئاً منها فعليك أن تتمناها كاملة، لا تأخذ منه فقط تلك اللقطة التي بدا فيها باسم الثغر مبتهجاً حين رأيته مع زوجته وأطفاله لتحكم عليهم بالسعادة والسرور وأن حياتهم لا يشوبها كدر قط كحياتك، لا تحكم على حياة لا تعلم "كواليسها"، فأنت فقط رأيت المشهد الجميل منها -المسموح لك برؤيته- ولا تعلم حقيقة ما يكابدونه ويعانونه كي يحافظوا على تلك البسمة المرتسمة على ثغورهم. واعلم أنه ما من أحد لديه حياة كاملة، جميعنا بشر خلقنا لنعيش في دنيا يملأها الكدر والتعب، الحزن والفرح، الموت والحياة، لا حياة تسير على وتيرة واحدة يا عزيزي، انتبه هنا ليست الجنة، فغض طرفك عن حياة غيرك، وتمنى لهم الخير كي ترزق أنت أيضاً الخير بنيتك الجميلة وسلامة صدرك.
دع الماضي يمضي
قد يحدث لك أحياناً أحداث صعبة حزينة تؤثر في كيانك وترسم كسرات الشقاء على قسمات وجهك وتثقل روحك، تجتهد وتسير بحياتك دون توقف أجل، ولكنك لم تنسَ ما حدث ولم تتخلص من عبئه، تحمل كل ذكرياتك القديمة السلبية على كاهلك، جعبتك بها الكثير من المأساة يا صديقي، خذلان وانكسار، غدر أصدقائك وجور الزمان عليك، كل شيء قد جمعته بتلك الجعبة وحملتها على ظهرك تجرها، تثقل حركتك وروحك، فلا أنت الذي تخلصت منها وتحررت لتسير بخفة وحرية ونقاء سريرة، ولا أنت المتوقف هناك عند تلك المحطة الفاصلة التي تقصم ظهرك فتنظف جرحك منها قبل انطلاقك، تسير وتسعى أجل ولكنك توهم نفسك بالشفاء وتقتل روحك ببطء ودون أدنى شبهة أنك الجاني، اترك الماضي يمضى يا صديقي، واسعد بحاضرك لتسعى نحو مستقبلك بروح فراشة حرة لا تأخذ من محطاتها السابقة سوى العبق، ولا تنقل لزهورها القادمة سوى العبير.
انتبه.. أنت بشر!
ليست جريمة أن تضطرب وتتخبط وتصاب بضبابية الرؤية وعدم وضوح الطريق وتقرر شيئاً ويتضح بعده ما هو أفضل، فلا تندم وتقبل كل ذلك، لا تشتت نفسك بكثرة السماع لآراء من حولك، لا تدخل الناس في تفاصيل حياتك، لا تخبر حتى أقرب الناس لك "كل شيء" عنك، حتى دوائرك وأصدقاؤك قد تجد أنهم لم يعودوا مناسبين لك، قد تتبدل الأحوال وينقلب كل شيء، تقبل وتكيف على هذا الوضع الجديد، وثق أن الحياة ليس بها شيء ثابت أو مستقر، وأنه من الطبيعي أن يحدث كل ذلك، وكونك بشراً يقتضي لك حق التفكر والفهم وربما بعض العزلة لاستيعاب كل ما يحدث، وإعادة ترتيب الأفكار والأولويات ثم الانطلاق من جديد والاستقرار لرحلتك.
لا تقصص رؤياك
كثرة الحديث عن أحلامك وطموحك يفقدك شغف السعي لها، وقد تصاب بحقد وكيد ككيد إخوة يوسف له، احتفظ بحقوق نشر أهدافك وأحلامك لنفسك، أنت أولى الناس بها، فلا يغدر بك عدو، ولا يشمت بك صديق، ولا تفتر دافعيتك للعمل على بلوغ هدفك، فكثرة الحديث عنه تشعرك بأنك قد بذلت جهداً كبيراً في السعي إليه وعناء شرح فكرتك، وأنت الذي لم تحرك ساكناً بالفعل، فاستعن على قضاء حاجتك بالسر والكتمان.
في النهاية.. تحرر يا صديقي
لا تنسَ مَن وضعك في ظرف صعب، ولا تنس من وقف بجانبك في شدتك، أنت أكثر الناس علماً بما يناسبك ومتى تحتاج إلى التوقف أو الاستمرار في السعي وليس هناك من هو أكثر خبرة وقدرة على اتخاذ هذا القرار عنك، وتذكر أنه لن يحدث إلا ما قدر لك، فاسعَ واستجلب الخيرات والرزق ببركة حركتك، وإن تعبت تذكر أن تتوقف لتستريح استراحةَ مقاتل في حياته ورحلته للوصول، وليس عليك أن تستسلم.
أبعِد نفسك عن القوالب المجتمعية والمقارنات، هذه حياتك وحدك، أنت بطلها، ستعيشها مرة واحدة ولن تتكرر، حقق فيها أهدافك وعشها كما يحلو لك ما دمت ترضي ربك، ولا تلتفت لِما يقال فيك أو عنك، فالملتفت لا يصل يا صديقي، حقق أهدافك أنت لا ما يفرضه عليك القالب الاجتماعي، وكن راضياً مسروراً في مكان تتواجد به، السعادة قرارك، بيدك أن تسعد وأنت تعمل عامل نظافة، وبيدك أن تسعد وأنت وزير للتعليم، السعادة قرارك الداخلي ليست لها علاقة بمكان أو زمان أو منصب أو حالة اجتماعية، فقط تحرّر يا صديقي من كل تلك القيود الاجتماعية التي لم ينزل الله بها من سلطان، تحرر، وانطلق، ولا تبالِ، ولا تلتفت، وحتماً ستصل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.