لا تزال هناك بقايا مني، جزء صغير مختبئ بعيداً عن وطأة الأيام تحت رماد التجارب التي استهلكتني، رُكن دفين من فطرتي لم يَفقد براءته بعد، منطقة شديدة الظلام كنت لا أراها نتيجة الصخب المتراكم بفعل ضجيج العالم المُستمر -على أي حال- لا يهم أين تقع هذه النقطة الآن بين جدران روحي.
الأهم أنها ما زالت تعمل وتستقبل الترددات القادمة من الخارج، لأشعر بها وأني لا أزال على قيد الحياة، تلك المساحة الداخلية التي تبث موجات من الرعشة والإحساس تضخ بعضاً من المشاعر في عروقي.
كان هذا مُنذ زمن ليس بالقريب، لا أعلم متى تحديداً أول مرة شعرت فيها أني فقدت الرغبة في الحصول على بعض من هذه المشاعر؟ لقد خضت حياة مليئة بالتجارب، أَحببت وأحبتني النساء مرات عديدة، لكني لم أجد بعد امرأة تحتوي مشاعري وتقنع عقلي بفكرة الزواج والأبدية، كُنت أؤمن بهذه التجارب وأنها الأهم في حياتي، تلك التي أغزل منها الكلمات لأكتبها للآخرين.
لا أؤمن بالحُبّ، لكن أحسن صناعة بداياته، لا أؤمن بكثير من الأشياء أيضاً، لكن الحُبّ أعلى القائمة، ربما يبدو الأمر صادماً لدى البعض، بالأخص أولئك الذين يرون أنّي أستطيع التعبير عنه من خلال الكلمات، لكنّي أرى الحُبّ -ببساطة- الكذبة التي صدقناها وعشنا أعمارنا نُقنع أنفسنا أنهُ شيء حقيقي.
أحتاج لحالة الحُبّ هذه، أحتاج للبدايات، الكلام المكرر منا عنا، والذي صرحنا به مسبقاً مع أناس آخرين، إنه شغف البدايات لا أكثر، كل منا يحتاج إلى حالةِ الحب دون تعقيدات أخرى.
لكنّي ما زلت مُستمراً في حرفتي، صنع الحكاية وخلق التفاصيل، حتى أنّي أحياناً كُنت أتقمص دوري ودورك وأقف أمام المرأة أحدثنا.
ماذا لو أحببنا بعضنا؟
ماذا لو أعلنا هذا الحُبّ أمام العالم؟
هل سنستطيع معاً الاستمرار؟
هل يمكننا أن نكون بذرة الحُبّ النابتة؟
فدائماً ما كانت تأتي الإجابة دون صدى صوت، لا أعلم، وكأنّي أقولها همساً.. خوفاً من أن يسمعها قلبي فأبتعد أكثر. إنهُ الشّك يا سيدتي، وحده يقتل الأعياد ويسمم مراسم الاحتفال عند اقترابك أكثر، يقتل ما نسعى إليهِ دون أن نشعر أنهُ يفعل.
لذلك فأنا أجيد البدايات وأنصهر معها، أهب قلبي طوعاً، وأستقبل القلب الآخر نابضاً، وهذا ما أوقعني في العلاقات الكثيرة التي ظننت فيها أني أحب، وسريعاً ما يداهمني الانطفاء، البركان المُشتعل داخلي يخمد وأرحل في هدوء وأدرك أنني لم أشعر بالحُبّ بعد أن ظننت أنه هو، وأقول لنفسي: أنا لا أجيد الحُبّ وإنما أجيد صناعة بداياته.
لطف خفي حقاً، كُنت أظن أنّي فقدّت كلّ المشاعر والأحاسيس التي أكتب عنها في رسائلي، مُجرد راوٍ يسرد فصول الحكاية دون القدرة على العيشِ فيها.
لكن أظن أن أمراً ما نَزل من السماء ليجعلها ليلة مُختلفة عن الليالي السابقة، مُنذ أيام كنت أجلس كعادتي في أحد الأماكن المُعتاد على المكوث فيها أعمل على روايتي الجديدة، أضع الموسيقى في أذني، أخلق عالمي وأنخرط بين الحروف في محاولةٍ لاستكشاف العالم الذي أكتب عنه.
كان هذا قبل اللحظةِ التي ظهرن فيها، ثلاثِ فتيات في مُنتصف العقد الثالث من العمر، دخلن معاً وإذا بهّن يجلسن على الطاولةِ المواجهة لمسارِ عيني، ففي كل مرة أرفع رأسي من على جهاز "اللاب توب" أبحث في فضاءِ خيالي مِن حولي عن مُفردات الكلمات التي أكتب عنها في محاولةِ دمجها مع أحداث مولودي الجديد، فتقع عيني عليهن.
وفي إحدى هذه اللحظات التي كُنت تائهاً فيها داخل ملكوت أفكاري المشتتة في محاولةِ التقاط فكرة تصلح للكتابة، كانت هي تُشعل سيجارتها، وكأني كنت أنتظر لحظة كهذه لأكون على استعداد كي أشعل النار الخامدة داخلي من جديد.
طال تحديقي في مواجهة عينيها وأطالت هي النظر في وجهي، ظناً منها أني أتطلع إليها، ليهزمها الخجل في النهاية وتهرب بعينيها بعيداً عن وجهي وهي تبتسم، ابتسامتها التي جاءت لتقتحم خلايا روحي وتنعشها من جديد، لتغمرني رعشة في جسدي أجبرت ساعة يدي الذكية على أن تصدر تنبيهاً بأن مُعدلات نبض القلب قد خرجت عن المألوف.
نظرت إليها مُتعمداً بعد أن أفقت من شرودي واستجمعت قواي وإذا بي أرى في وجهها ملامح أول فتاة وقعت في حُبها عند مُراهقتي، ملامحها البسيطة الهادئة، قصر قامتها، ابتسامتها التي أعادت لي الحياة من جديد، تبادلنا الابتسامات من حين لآخر في كل مرةٍ، كُنت أبحث عن كلمات لروايتي وأنا أنظر بعيداً على الصفحة البيضاء أمامي على الشاشة، وعلى الرغم من أنّي أجيد لغة العيون كما أخبرتني إحدَاهُنَّ ذات مرة "عيناك مرآتان لخمسين قارَّة من الوجع والانتظار"، فإنّي لم أقوَ يوماً على البدء في التحدث إلى فتاة لا أعرفها مُسبقاً، وكأنها تقولي لي بابتسامة هذه: دع عنك حصون قلبك، عليك أن تكسر حواجز روحك، واجعلني أغمر خلايا ضلوعك ربما يمكنني أن آخذك بعيداً عن زحام هذا العالم الذي أنساك حقيقتك.. لا أعرف لكن هذا ما شعرت بهِ في تلك اللحظة.
طال النظر/ ساد الصمت/ أنهيت الكتابة/ أغلقت جهاز "اللاب توب"، وجمعت متعلقاتي.. ثم نظرت إليها بابتسامة طويلة قلت فيها: لم أتخلص بعد من حطام التجارب ولم أنفض عني رماد الأيام.. ثم رحلت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.