"هذا ليس كافياً" خدعة إبليس الأولى وغوايته المفضلة، فبدءاً من وعد الكذوب الكاذب لآدم بالخلد وملك لا يبلى، لا يكل من استخدام نفس الآلية المحكمة التي تسقط أمامها أعتى دفاعات البشر، إنها شهوة الهروب من العادية فأنت لا ترغب بأن تكون عادياً، تريد أن تترك بصمة كبرى في هذا العالم تقض مضجعك، تلك الفكرة بأنك عادي ووظيفتك عادية تداعب خيالك حياة الناجحين وإنجازاتهم تجعلك نهماً لأي طريقة تغير واقعك.
وككل شهوة إن لم تتحكم بها تلاعبت بك وككل شهوة لها مرتزقتها، ولا يخفى على أحد أن صناعة التنمية البشرية التي تقدر بمليارات الدولارات وما انبثق عنها من أفرع ومسميات تقتات أساساً على أحلام البشر بادعاء أنك لا يفصل بينك وبين ستيف جوبز إلا هذه المحاضرة، ولا يحجب بزوغ نجمك سوى النصائح الجهنمية التي سيقدمها لك هذا المحاضر المتأنق ليخبرك أن كل الظروف المحيطة لا تمثل عائقاً أمامك، فسوف يعلمك كيف تحرر قوة عقلك الكامنة بالطبع فأنت تستخدم 10% من قدرات عقلك (تلك الخرافة العتيقة التي يتبناها معظم motivational speakers ووثقتها هوليود في أكثر من فيلم phenomenon,limitless ,lucy )
كم هو سهل أن تعد بما لا تملك ولا يقاس "ستتغير حياتك تماماً"، وإن لم يحدث لا بأس فهذا يعني فشل البرمجة اللغوية العصبية ويتوجب عليك إعادة ضبط المصنع والتوجه لأقرب دورة لإصلاح ما فسد توقف وتحسس محفظتك واقبض عليها واهرب قبل أن تدخل حلقة مفرغة من ندوات وبرامج معظم من دخلها معتقداً أن حياته فارغة خرج تائهاً شاعراً بأنه لا أمل فيه مهما بذل من جهد، وإليك أسباب عدم اعتبار التنمية البشرية صناعة التحفيز سبباً لتزايد الإحباط الفردي
تكلفة الفرصة
حقيقة التنمية البشرية لا يمكن اعتبارها علماً، فالتقنيات التي يعتمدها مدربة التنمية البشرية غير مثبتة صحتها وتأثيرها سواء على المدى القصير أو البعيد، بل إن مدربي التنمية البشرية لا يعرفون أنفسهم كمعالجين نفسيين أو مستشاري عمل، لذا فهم يلقون عن كاهلهم أي مسؤولية قانونية أو وظيفية. بمعنى آخر أنت تخضع لتقنيات غير مدروسة يفترض أصحابها أنها تناسب الجميع وأحياناً خرافات حتى إن لم تحو ضرراً مباشراً فيمكنها أن تسبب ضرراً غير مباشر بأن تكلفك الفرصة، أنت تبذل وقتاً وجهداً ومالاً فيما لن يؤتي ثماره بدلاً من أن توجهه للحصول على المساعدة الحقيقية التي تحتاجها، فإذا كنت ترغب أن تصبح رائد أعمال فأنت تهدر جهدك بتعلم كيفية إعادة تدريب الجانب الأيمن أو الأيسر من المخ وزيادة إمكانياته وكيف تمشي على الفحم المشتعل عاري القدمين بفضل أفكارك الإيجابية، في الوقت الذي عليك أن تبدأ بالعمل الجاد ودراسة السوق ومبادئ إدارة الأعمال.
رجل المستحيل
أمر آخر هو الفكرة المتصدرة you can achieve anything you set your mind to هذا الطرح الذي تطرحه التنمية البشرية ويحمل الفرد مسؤوليات تتجاوز قدراته في حين يعفي الدولة ضمنياً من دورها الفعال في ضمان تكافؤ فرص التعليم والتدريب والتطوير والتوفير العادل لفرص العمل، وهو طرح لم يكن ليزدهر إلا في ظل الرأسمالية المستوحشة طاحونة البشر.
جيل كامل أقل سعادة وأكثر سخطاً من آبائهم، إذ تغلغلت بأدمغتهم مهاترات قانون الجذب وأخبروا مراراً وتكراراً أنهم يمكنهم أن يصبحوا أي شيء يريدونه بالإيمان به، هكذا دونما تقييم لمواهبهم أو تحليل واع لقدراتهم ومعارفهم ومدى تناسبها مع أحلامهم ودون اعتبار لمعوقات العالم الخارجي وتعقيداته، هذا التصور الخاطئ المفرط في التفاؤل لحدود قدراتهم الذي يرتفع بها للانهائية وما بعدها في مقابل تهميش دور العوامل الخارجية قد ينتهي بصدمة كبرى عند مواجهة المواقع ليتركهم أكثر إحباطاً عن ذي قبل، وهذا يعني أنهم سيحتاجون لجرعة أكبر من التحفيز ليبدأوا عملاً آخر، وهنا بالضبط يبدأ إدمان التحفيز يتنقلون بين الدورات غير مدركين لحقيقة أن التشاؤم الدفاعي defensive pessimism لدى الأفراد يجعلهم أكثر إنتاجية وأقل إحباطاً، فالذين يضبطون لأنفسهم أهدافاً منخفضة غير واقعية ويعطون الوقت الكافي للتفكير في المآل السيئة قبل الجيدة للأمور وهذا يزيح عن عاتقهم الرعب من الإخفاق ومن ناحية أخرى يزيد تحفيزهم كنتيجة للنجاح أو الفشل على حد سواء.
إذا كان الفضول يراودك بشأن التنمية البشرية
إن كنت لا بد فاعلاً، فعليك أولاً أن تكتفي بالكتب في هذا المجال، الكتب محدودة التكلفة ورفقة مسلية في الليالي الساهدة والنصيحة التي ليست على الملأ ربما هي ميزتها الأكثر إغراء، لكن تجنب الدورات وورش العمل المطولة الباهظة التي أفضل ما يمكنها فعله هو مط مفتعل لأفكار بسيطة بنفس الكتب، وثانياً لتدرك أن قدر الاستفادة منها منوط بجودتك كقارئ ليس جودة الكتب فجميعها تحوي الكثير من المفاهيم الخاطئة لذا عليك أن تعامل كل المعلومات بقدر كبير من الشك والانتقاء، لا تأخذها كقوانين مسلم بها أسقط الخيارات التي لا تتوافق وشخصيتك واتبع تلك التي تشعر أنها تناسبك، وتأكد إن نجحت هذه الطريقة في جعلك أفضل فالفضل كله يرجع لك.
في النهاية ربما الأمر كله أننا نحنُّ لذلك التحفيز الطبيعي الآمن الذي اعتدنا أن نحصل عليه من محبينا الصادقين الدعم الذي نفتقده، فنهيم في الأرض بحثاً عنه في كل جب، لكن تربيتة صديق لك على كتفك تخبرك أن كل شيء على ما يرام، ثناء أستاذ على مجهودك ليتنبأ لك بمستقبل باهر، لمعة عيني والديك فخراً بإنجازاتك مهما صغرت وايمان أخ لك بأنك الأفضل كما أنت وستصنع قمتك المتفردة لن يعوضها محاضرو التنمية البشرية وعباراتهم الرنانة الجوفاء، لذا دع التنمية البشرية لتنعم بالحياة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.