العلاجات الشائعة تزيد الأمر سوءاً.. هكذا يسكّن الفن والإيمان آلام الظهر!

ما الذي يجعل بعض الناس أكثر هشاشة أو صموداً أمام آلام الظهر. وكيف نتغلب عليه بعيداً عن الأدوية؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/09/10 الساعة 05:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/09/09 الساعة 20:46 بتوقيت غرينتش
الانحناء أمام شاشة الكمبيوتر يزيد الضغط على العضلات والأربطة والأقراص التي تدعم العمود الفقري/ istock

تأخذك المرة الأولى التي تشعر فيها بألم في ظهرك على حين غرَّة. ثم يتكرر الأمر بعدها مرات أخرى، وتبدأ في التأوُّه قليلاً كلما قمت من فوق الأريكة. ثم تمسك بأسفل ظهرك وتتمدد، وتتساءل ما إذا كان عليك الذهاب إلى الطبيب. وتتساءل قائلاً: ألست صغيراً جداً على أن يكون ظهري في حالة سيئة؟

يشيع ذلك السيناريو بين الكثير منا، إذ إن ألم الظهر يعد معاناة منتشرة على نحو غير اعتيادي، يشعر به حالياً واحد من بين كل 4 بالغين، ويصاب به 90% من الأشخاص مرة واحدة على الأقل في حياتهم. 

في العام الماضي، نُشرت سلسلة من الأوراق البحثية بمجلة "ذا لانسيت" الطبية، كشفت عن أبعاد هذه المشكلة: يعد ألم الظهر سبباً رئيسياً للإعاقات حول العالم. 

في الولايات المتحدة فقط، تتكلف الفواتير الطبية لعلاج آلام الظهر 635 مليار دولار سنوياً، بالإضافة إلى خسارة الإنتاجية.

وباء آلام الظهر يزداد سوءاً

يقع الجزء الأكبر من المسؤولية على أنماط حياتنا، التي تنحصر بشكل متزايد في الأعمال المكتبية وزيادة متوسط الأعمار؛ الذي يعني وقتاً أطول من تردي حالة العمود الفقري. 

لكن هذه العوامل تفسر جزئياً فحسب، كيفية وصولنا إلى هذه المرحلة، وما الذي يجعل بعض الناس أكثر هشاشة أو صموداً أمام آلام الظهر.

وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن ترتفع معدلات آلام الظهر باطراد في الأعوام المقبلة، وأن تصيب أشخاصاً أكثر حول العالم. 

وهو ما يثير القلق على نحو خاص؛ نظراً إلى أن الأشخاص الذين يُفترض بهم أن يساعدوا في حل المشكلة، يزيدونها سوءاً.

غير أن ثمة خبراً ساراً في هذا الصدد، فنحن نملك بالفعل المعرفة الكافية لتحسين الأمور؛ إذا طبقناها. 

وفي الوقت ذاته، يوجد فهم جديد للسبب والكيفية التي تجعل الدماغ يخلق تجربة الألم، إذ يغير هذا الفهم طريقة تعاملنا مع هذه الآلام الخانقة، ويلفت الانتباه إلى بعض الحلول المدهشة.

السير باعتدال منذ آلاف السنين هو السبب

كي نفهم هذه الحلول، علينا أولاً السفر بالزمن سبعة ملايين سنة إلى الوراء، عندما سبّب أسلافنا هذه المشكلة. 

لقد أُصبنا بآلام الظهر نظير السير باعتدال. أو على الأقل هذه هي الفرضية التي طرحتها كيمبرلي بلومب وزملاؤها، من جامعة ليفربول في المملكة المتحدة.

من أجل معرفة سبب إصابة البشر بأمراض العمود الفقري بنسبة أكبر من غيرهم من الرئيسيات غير البشرية، درس فريق كيمبرلي شكل الفقرات (العظام التي تشكل العمود الفقري) لدى البشر والشمبانزي وإنسان الغاب. 

وكان الفريق يبحث عن بروزات صغيرة تسمى "عقد شمورل" يمكن أن تظهر في الأنسجة الموجودة بين الفقرات وترتبط بآلام الظهر. 

كان الأشخاص الذين ظهرت لديهم هذه العُقد أقرب في الشبه إلى الشمبانزي. 

تقول كيمبرلي: "لقد بدأنا السير على قدمين بسرعة نسبياً من حيث قواعد التطور. ربما بعض الأنواع ذات الفقرات الأشبه بالإنسان العادي أقل قدرة على الصمود أمام الضغط الموضوع على فقرات ذوي القدمين". 

تسببت هيئة العمود الفقري للأجداد هذه في معاناتنا على مر التاريخ، لأنها لم تؤثر في قدرتنا على التكاثر، وهكذا فالتطور لم يعارضها.

والعمل المكتبي لم يساعد

وعلى الرغم من تاريخها التطوري الطويل، لم نشهد تفشي آلام الظهر المزمنة إلا في العقود القليلة الماضية. فما الذي اختلف؟

توجد أدلة على أن ثقافة العمل المكتبي لها دور في ذلك. فقد خلصت دراسات عدة إلى وجود رابط بين قضاء وقت طويل في وظيفة مكتبية وتزايد الإبلاغ عن آلام الظهر. 

فالانحناء أمام شاشة الكمبيوتر يزيد الضغط على العضلات والأربطة والأقراص التي تدعم العمود الفقري، وقد يعطل مهمة العضلات المسؤولة عن تعزيز الوضعية الجيدة للجسد.

التدخين والسمنة من الأسباب الرئيسة الأخرى

وقد تحدث بالطبع آلام الظهر أيضاً بسبب الحوادث أو الإصابات الرياضية أو الاعتلالات الخلقية، لكن العوامل المتعلقة بأسلوب الحياة كالسمنة والتدخين هي المشكلة الحقيقية، حسبما أفادت راتشيل بوخبيندر من جامعة موناش في فيكتوريا بأستراليا، وهي واحدة من الباحثات المُسهمات في الأوراق المنشورة بمجلة "ذا لانسيت".

ربما يزيد التدخين هو الآخر من خطر الإصابة بآلام الظهر، لارتباطه بانسداد الشرايين، وهو ما قد يدمر الأوعية الدموية الواصلة إلى العمود الفقري، مؤدياً بدوره إلى تدهور حالة العضلات والعظام. 

وتُضاعف السمنة كذلك الضغط المعتاد الموضوع على الظهر وتقلل المدى الحركي، وهو ما يجعل أصحابها عرضة للإصابة بتلف أقراص العمود الفقري. 

ويمكن أن تكون السمنة أيضاً سبباً في زيادة إنتاج المواد الكيميائية الالتهابية المرتبطة بالألم.

غير أن تحديد المشكلة التي أدت إلى آلام ظهرك صعب للغاية بكل أسف. 

تؤكد إحدى الدراسات التي أُجريت في الولايات المتحدة، أن ما يقرب من ربع البالغين الذين يذهبون إلى مقدمي الرعاية الصحية الأولية يشتكون من آلام الظهر. 

وقالت راتشيل إن نسبة من لديهم إصابة حقيقية مثل الالتهابات أو التهاب المفاصل أو السرطان أو التمزق، لا تصل إلى 1%. 

وهؤلاء ستكون لديهم إنذارات أخرى بالخطر، كالحمى وفقدان الوزن السريع أو مشكلات في الذهاب إلى المرحاض. بينما يصاب الجميع بما يقع تحت اسم "الآلام غير المحددة"، وهي في العادة تتحسن في غضون أيام أو أسابيع.

ومع ذلك يلجأ كثير من المرضى وأطباؤهم إلى إجراء أشعة رنين مغناطيسي، معتقدين أنها ستعطيهم تشخيصاً دقيقاً، ومن ثم تعافياً أسرع. 

بعد سن الـ50 يتضاعف الاعتلال

لكن المشكلة، بحسب راتشيل، أننا "بعد بلوغ الـ50 من العمر، سيصاب كثير منا باعتلالات في العمود الفقري: كتدهور حالة الأقراص أو بروزها أو بعض الالتهابات البسيطة بالمفاصل. وقد تسبب بعضُ هذه الأمور ألماً، لكن ليس للجميع. هناك كثيرون يقولون إن بإمكانهم إخبارك بالمشكلة من خلال الأشعة، لكنهم مخطئون، لأن ذلك ببساطة ليس ممكناً".

تضيف راتشيل أن إجراء الأشعة ربما لا يكون مضيعة للوقت والمال فحسب، بل قد يزيد حالة ظهرك سوءاً. 

فبمجرد أن تبدأ في البحث عن الاعتلالات، سوف تجدها. وفور إيجادك إياها يبدأ الأطباء في إعطائك مسكنات للألم أو حقن الستيرويد أو حتى إجراء عملية جراحية، وهو ما قد لا يكون ضرورياً أو مجدياً، بل ربما يكون ضاراً في بعض الأحيان.

في عام 2003، اختار جيفري جارفيك وزملاؤه من جامعة واشنطن في سياتل، 380 شخصاً مصابين بآلام أسفل الظهر اختياراً عشوائياً، لإجراء أشعة سينية (X-ray)، والتي تستطيع اكتشاف إصابات مثل الكسور؛ أو أشعة رنين مغناطيسي، التي تستخدم لإظهار الأنسجة الرقيقة. 

وبعدها بسنة واحدة، لم تكن هناك اختلافات في الحالة الصحية. لكن من خضعوا لأشعة الرنين المغناطيسي كانوا أكثر ميلاً إلى إجراء عمليات جراحية، وهو ما جعلهم عرضة للإصابة بالالتهابات أو بالمضاعفات الأخرى. 

المسكنات القوية تؤجج أزمة الأفيون

وفي بلدان مثل المملكة المتحدة، حيث ينصح الأطباء بعدم عرض إجراء العمليات الجراحية من أجل آلام الظهر، يُوصَف للمرضى عادة حقن الستيرويد المضادة للالتهاب، لكن هذه الحقن أثبتت أن تأثيرها لا يتعدى العلاجات الوهمية (البلاسيبو).

بالإضافة إلى إمكانية تسببها في زيادة الشهية وتقلُّب المزاج وصعوبات النوم.

وتضيف راتشيل إلى ذلك أن هناك أطباءً كثيرين، خاصة في الولايات المتحدة، يصفون للمرضى مسكنات قوية أكثر مما ينبغي، وهو ما يؤجج أزمة المواد الأفيونية التي قلصت متوسط الأعمار في الولايات المتحدة. 

وعلى جانب آخر، تفيد تمار بينكوس، خبيرة الصحة النفسية في كلية رويال هولواي بجامعة لندن، بأن آلام الظهر هي السبب الأول لوصف المسكنات الأفيونية، وذلك على الرغم من وجود دراسات متعددة تثبت أن العلاجات الأكثر أمناً، مثل مضادات الالتهابات اللاسترويدية، تعطي القدر نفسه من الراحة.

لكن آلام الظهر ليست كلها سيئة، إذ إن الألم المبدئي الذي نشعر به من إصابة معينة يحذرنا من وجود مشكلة، ويحمينا من الإصابة بمزيد من الأضرار. 

وهذه الآلية قد تكون بالغة الأهمية لبقائنا على قيد الحياة. لكن الآلام المزمنة التي تستمر أسابيع وشهوراً وسنين بعد التعافي من الإصابة، ليس لها نفع وقد تمثل خطراً بالغاً على صحتنا.

يفترض معظم الناس وجود سبب جسدي يفسر الألم دائماً؛ كإصابة في العضلات أو ضغط على الأقراص مثلاً. 

لكنه عادة لا يكون له تفسير جسدي (حركي) محدد. لهذا يركز خبراء كثيرون على كيفية وسبب شعورنا بالألم. ومن أساسيات هذه الفكرة هو إدراكنا أن الألم ينجم عن الدماغ. 

وعلى الرغم من امتلاكنا خلايا في جسدنا ترسل إشارات إلى الدماغ لتحذيرنا من المؤثرات التي قد تسبب ضرراً، كالحرارة أو الأجسام الحادة، ليس من الضروري تحفيز هذه الخلايا للشعور بالألم، ولا يتعلق نشاطها دائماً تعلقاً مباشراً بشعورنا بالانزعاج.

لكن الدماغ يتحكم في الألم

اضطلعت إيرين تراسي، عالمة الأعصاب بجامعة أوكسفورد،  بدورٍ كبيرٍ في كشف هذه الفروق الدقيقة. 

ففي التسعينيات، كشف فريقها البحثي أن توقُّع الألم جعل شبكات الدماغ تمتلئ بالنشاط، وأن الجوانب المختلفة في شعورنا بالألم –شدته أو القلق الذي يسببه- تتحكم فيها دوائر منفصلة في الدماغ.

يمكن تحفيز هذه الدوائر أو كبتها. على سبيل المثال، يظهر لدى المصابين بالاكتئاب قدر أكبر من النشاط في مناطق الألم، لكن هذه يمكن كبحها من خلال الاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة فيلم شائق. 

الفن والإيمان يسكنان الألم

فقد أظهرت إحدى التجارب أن الإيمان الديني يمكن أن تكون له خصائص مسكنة للألم في الدماغ. 

فعندما عُرضت صور مريم العذراء على بعض الكاثوليك المتدينين في أثناء تعرضهم لألم حاد، كان تقييمهم لدرجة الألم أقل من نظرائهم الملحدين الذين عُرضت عليهم الصورة نفسها. 

وعندما عُرضت صورة أخرى غير دينية على المجموعتين، كان تقييمهم لشدة الألم مماثلاً. 

أظهرت الفحوص أن تلك الأيقونة الدينية حفزت في أدمغة مجموعة الكاثوليكيين منطقة تسمى قشرة الفص الجبهي اليمنى، التي تثبط دوائر الألم.

والسيطرة على المزاج السيئ ضرورية للتعافي

في حالة آلام الظهر المزمنة، ثمة أهمية كبرى وراء إدراك كيف يمكن أن يتلاعب العقل بالشعور بالألم. 

وتكمن هذه الأهمية في معرفة سبب استمرار هذا الألم بعد التعافي من الإصابة، وما يمكننا فعله لمنع ذلك. 

تشير تمار على سبيل المثال، إلى أن المزاج السيئ والشعور بالذنب المرتبط بالألم يزيدان من خطر أن يصير ذلك الألم مزمناً. 

وتقول: "يبدأ الناس في الشعور بالذنب لتركهم النشاطات الخاصة بهم. ثم يراودهم القلق من نظرة الآخرين إليهم، فلا يقبلون ذلك النشاط من الأساس". 

وتضيف أنه بعد عدة نوبات من آلام الظهر، يبدأ الناس في التعامل مع كل شيء بشكل مختلف. 

ويصير ألمهم جزءاً لا يتجزأ من "ترسيمهم الذاتي": أي الأشياء التي ينسبونها إلى أنفسهم. فإذا رأوا صورة لدرج مثلاً، تكون أولى أفكارهم هي "لا يمكنني صعوده".

تضيف تمار: "بعد وقت معين، تبدأ في رؤية الأشياء والشعور بها مغلفة بالألم. لا تعود في حاجة إلى إصابة كي تشعر بالألم. وقد تشعر بالألم بشدةٍ أكبر فقط، لأنك تتوقع حدوثه".

أما الراحة في السرير فضارة

ونتيجة لما يحدث بين دماغنا وبقية جسدنا، ماذا يمكننا أن نفعل لنتجنّب آلام الظهر المزمنة أو نقللها؟ بحسب المقال، ربما علينا إعادة النظر في حزام الظهر ونعل الحذاء وتلك المنتجات المريحة الأخرى، إذ لا يبدو هناك أي دليل على أنها فعالة.

وبمجرد التخلص من كل هذه الأشياء، يحين الوقت للنهوض والخروج. 

على الرغم من أن الأطباء في جميع أنحاء العالم ينصحون بالراحة في السرير، فهي من أسوأ الأمور التي قد تفعلها. 

عندما تطوع شباب ذكور معافون بقضاء 8 أسابيع في السرير، ضعفت حالة العضلات القطنية متعددة الفلوح –التي تُبقي الفقرات السفلية في مكانها- وصارت خاملة. 

وبعض المتطوعين ظلت عضلاتهم في حالة سيئة بعدها بـ6 أشهر.

تقول لوانا كولوكا، وهي خبيرة في الألم بكلية التمريض في جامعة ماريلاند: "كثير ممن يشتكون من آلام الظهر يعانون خوفاً شديداً من الحركة". غير أن التمارين الرياضية لها أثر كبير. 

لذا تخلَّص من الخوف ومارِس الرياضة

وفي دراسة نُشرت في يونيو/حزيران الماضي، وُجد أن التمارين الرياضية التي تقوّي عضلات أسفل الظهر تساعد في تخفيف الألم، بل مجرد السير بانتظام فقط يمكن أن يكون عاملاً مساعداً. 

وتضيف لوانا: "علينا التخلص من ذلك الخوف، وإقناع أنفسنا بممارسة التمارين الرياضية".

يمكن أن تساعد التعديلات الصغيرة أيضاً على طريقة أدائنا العمل في حل هذه المشكلة؛ فالأشخاص الذين يعانون ألماً مزمناً في الظهر ولجأوا إلى استخدام المكاتب الواقفة، 3 أشهر، شهدوا تحسناً ملحوظاً في أكثر آلامهم سوءاً.

عندما نشعر بألم، فإن آخر ما نتوقعه هو أن ننصح بالبقاء بعيداً عن الطبيب والعودة إلى العمل. لكن هذه قد تكون أفضل نصيحة ممكنة في حالة آلام الظهر، حسبما قالت راتشيل.

وتقول تمار إننا ربما بحاجة إلى البدء بالتفكير في نوبات آلام الظهر التي تصيبنا بنفس طريقة تعاملنا مع الاعتلالات الشائعة الأخرى. وتضيف: "لا أحد يتوقع أن يمضي في الحياة دون الإصابة بالزكام. ولا أحد يذهب إلى الطبيب لهذا السبب".

تحميل المزيد