دون شكٍّ، قبل أن أبدأ في كتابة جملة واحدة من هذا المقال، وضعتُ بعض الملابس في الغسّالة، وأعددت كوباً من الشاي، ورددت على رسائل بريدي الإلكتروني، وألقيت نظرة على حسابي بموقع فيسبوك، وقرأت تدوينتين. وبعد إنهاء هذا كلّه، كانت غسّالة الملابس قد أنهت دورتها، وكان بإمكاني المماطلة لمزيد من الوقت بنشر الملابس لتجفّ في الحديقة، وبرَيّ النباتات أثناء وجودي هناك.
كل هذا غير مهم، لأنني -كما ترى- تمكّنت من كتابة هذا المقال في نهاية المطاف وتسليمه في الوقت المحدد. إننا جميعاً نماطل بعض الشيء، ولكن الأمر يصير أزمة حين يشكّل نمطاً مزمناً يتمثّل في اختيار تأجيل المهام على الرغم من العواقب التي ستلحق بك حين تتأخّر عن تسليمها في الموعد النهائي المحدد.
وفضلاً عن هذا، فإن المماطلة المزمنة قد تكون ضارّة بصحّتك، إذ إنها تضعك في حالة ضغط نفسي طويل المدى، وتشجّعك على تأجيل ممارسة الرياضة أو الأكل بطريقة صحّية أكثر مما تفعل، أو حتّى تأجيل زيارة الطبيب حين تظهر عليك أعراضٌ مَرضية.
والآن، هل بإمكان الدراسات النفسية التي أُعدِت لإنقاذنا من المماطلة أن تساعدنا على العيش بدون تسويف وأن نحفّز أنفسنا أكثر؟ إليك الإجابة وفقاً لما نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC).
لا تعتمد على قوّة الإرادة وحدها كوسيلة تحفيز
توصّل إيان تايلور، وهو عالم في علم النفس الرياضي يدرس الحافز في جامعة لوبورو، إلى أن الناس غالباً ما يفترضون أن قوة الإرادة هي الحل. وهذا يمكن أن ينجح من حين لآخر، لكن بحسب ما قاله لإذاعة BBC Radio 4 التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية: "قوّة الإرادة هي أحد أنواع الحوافز، لكنها ليست أفضل الأنواع".
وأضاف: "إذا كنت تتخيل أن الحافز يشبه الوقود الذي يساعدك على الوصول إلى وجهتك، فإن بعض أنواع الوقود جيدة للغاية، في حين أن البعض الآخر أقل جودة".
تكمن المشكلة في الاعتماد على قوة الإرادة وحدها في أنك قد تصل إلى أهدافك في بعض الأحيان، ولكنها ركيزة هشة ولا تنجح دائماً؛ فبدلاً من الاعتماد على قوة الإرادة لمحاولة تجاهل الجوانب غير السارة من مهمّتك، اعتبر تلك الجوانب جزءاً مهماً لا مفر منه في تحقيق هدفك. لتتخيل مثلاً أنك ركضت لمدة 30 دقيقة، والآن تؤلمك عضلاتك، وهذا ليس بالأمر السيء بالضرورة، بل إنه جزء من اكتسابك لياقتك البدنية.
ابحث عن الإيجابيات في المَهمة التي تستمر في تأجيلها
ثمة طريقة واحدة لمعرفة ما إذا كنت تمارس المماطلة المزمنة، وهي أن تسأل نفسك ما إذا كنت تؤجّل المهمة لأنك تخشى الفشل. وبعد 15 عاماً من إجراء البحوث عن المماطلة، توصّلت الباحثة فوشيا سيرويس من جامعة شيفيلد أن مشكلة المماطلة ليست ببساطة مشكلة كسل أو سوء إدارة الوقت، بل إنها تنطوي على صعوبات في تنظيم العواطف.
إذا كنت قلقاً بشأن فشلك، فإنك تجد أعذاراً لتأجيل المهمّة كي تتفادى مشاعر القلق غير السارة هذه، وهذا يجعلك تشعر بتحسّن مؤقّتٍ، لكن المشكلة تأتي عندما تدخل في حلقة مفرغة؛ حيث يصير لديك وقت أقل الآن لإنجاز العمل بسبب التأجيل، مما يزيد من خطر الفشل، وهذا يجعلك تشعر بالمزيد من القلق أكثر من ذي قبل، وحتّى أنه يقلل احتمالات أن تبدأ في العمل أساساً.
وللتعامل مع هذه المشاعر، فإن البحث عن الإيجابيات في المهمة قد يساعدك، وهذا بالطبع ليس متعلّقاً بالمكتسبات التي تجنيها في المستقبل، بل متعلّق بالأشياء الجيدة في العملية نفسها، فربما تتعلم شيئاً ما وربما تشعر أنك أكثر انغماساً في العمل مما تتوقع بمجرد البدء.
خطط لما هو آتٍ
إذا كنت على دراية بأن هناك إغراءً معيناً يشجعك على المماطلة، تبنى إذاً استراتيجية نفسية تُعرف باسم "إذا حدث كذا، سأفعل كذا" أو استراتيجية العزم على التنفيذ، وهذه الفكرة تتمثّل في أن تخطط مسبقاً لما ستفعله إذا واجهت إغراء معيناً.
قد تقرر أنه إذا اقترح شخص ما لقاءك لتناول القهوة في عطلة نهاية الأسبوع، بينما تعلم أنك بحاجة إلى إنهاء مذاكرتك حينها، فسترفض اقتراحه وتمنحه خيار اللقاء مساءً مثلاً بدلاً من ذلك الموعد.
وعندما استعرض عالم نفسي أمريكي يدعى بيتر غوليتزر 94 دراسة عن أشخاص يستخدمون هذه الاستراتيجية، تبيّن له أن من المرجح أن يلتزم الأفراد بأهدافهم بمقدار ضعفين إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بمن لم يتبنّوا تلك الاستراتيجية.
قلل الجهد المبذول
أنت في حاجة لتسهيل البدء في المهمّة بقدر الإمكان، وقد صار مفهوم هندسة الاختيارات معروف للغاية في وقتنا هذا، مثلاً، تقوم بعض أقسام الطعام في مقر العمل بوضع الفاكهة في مكان أقرب من الشوكولاتة لإغراء الموظفين بتناول طعام صحّي أكثر. ونحن يمكننا فعل هذا لأنفسنا أيضاً، فإذا كنت ترغب في ممارسة الجري في الصباح، فارتدِ ملابس الجري، أو ضع المهام التي تحتاج إلى إنجازها على مكتبك مساءً لتكون أوّل ما تراه في الصباح. أبعد أي عامل تشتيت.
عَطل التنبيهات على شاشتك، وألغِ صوت هاتفك، وإذا لم تكن من القادرين على مقاومة إغراء مواقع التواصل الاجتماعي، فعطّل خاصية تسجيل الولوج التلقائي. فإن مجرد إدخال كلمة المرور الخاصة بك -خاصة إذا اخترت كلمة مرور جيدة وطويلة ومعقدة- قد يكون كافياً لدفعك في الاتجاه الصحيح.
كافئ نفسك
تتسم المماطلة بالجاذبية لأنك إذا أجلت المهمة الصعبة، فإنك تنال مكافأة فورية تتمثّل في التخلّص من أي مشاعر سلبية حيالها. لذا، فإنك في حاجة إلى مواجهة هذا الأمر بمكافآت أخرى. إذ تشير دراسة جديدة للباحثة كيتلين وولي، من جامعة كورنيل إلى أن المكافآت الفورية تحفز الأشخاص على بذل جهد أكثر من المكافآت التي يتعين عليهم انتظارها، لذا فإنك تحتاج إلى العثور على مكافأة فورية تجعل الأمر يبدو أسهل قليلاً.
وفي دراسة تحمل اسم "Holding the Hunger Games Hostage at the Gym"، توصّلت كاثرين ميلكمان من جامعة بنسلفانيا إلى أنه حين أُعطي الأشخاص كتب وقصص صوتية جذّابة يستمعون إليها في صالة الألعاب الرياضية، وفقط في صالة الألعاب الرياضية، فإنهم على الأرجح يعودون إلى الصالة مجدداً لمعرفة الأحداث التالية في العمل الذي يستمعون إليه، وبهذا، كانت القصص بمثابة مكافأتهم الفورية.
وكانت هناك تجربة لدورة تدريبية مدتها أسبوعين على الإنترنت تهدف إلى الحد من التسويف، وخلالها، قدم ماركوس إيكيرت من جامعة لوفانا في لونبورغ بألمانيا للطلاب مقاطع فيديو وتمارين يومية باستراتيجيات لم تقتصر فقط على مساعدتهم على تخطيط وقتهم بطريقة أفضل وعلى تحديد تكاليف وفوائد المماطلة في مهام مختلفة، بل ساعدتهم أيضاً على التعامل بمرونة مع أي مشاعر سلبية قد تنتابهم، فإن هذه الاستراتيجيات علّمتهم مثلاً أن يذكروا أنفسهم بمرونتهم في التعامل مع المهام في الماضي.
وتلقّى المتدربون أيضاً رسالتين نصيتين في اليوم، كانوا يُسألوا فيهما عن المهمّة التي ربما يكونوا أجّلوها في ذلك اليوم وأن يفكّروا في العواقب المحتملة. وبعد شهرين، كان الطلاب الذين أكملوا الدورة التدريبية عبر الإنترنت أقل مماطلة مما سبق.
بناء رؤية أكثر واقعية لنفسك في المستقبل
يميل معظمنا إلى الاعتقاد بأنه سيكون لدينا المزيد من الوقت في المستقبل، إذ نعتقد على نحوٍ متفاءل أننا سنكون نسخاً أكثر تنظيماً وحيوية من أنفسنا الحالية وسنعيش حياة لا تحيد فيها الأمور عن مسارها الصحيح، ولكن هذا لن يحدث بالطبع، وهذا هو السبب في أن تقييمنا للوقت الذي تستغرقه المهام يكون أقل مما هو عليه في الواقع، وهذا يعرف باسم مغالطة التخطيط.
ومثالي المفضل على مغالطة التخطيط هو الإصدار الأول لقاموس أوكسفورد الإنكليزي؛ ففي عام 1860 جرى الإعلان عن أن الأمر سيستغرق عامين، ولكن العمل بدأ أخيراً في عام 1879، وبعد خمس سنوات لم يكونوا قد أضافوا سوى كلمة "ant". وفي عام 1928 جرى الانتهاء منه أخيراً، ولكن بحلول ذلك الوقت، صار القاموس قديماً وبدأت مراجعته.
ونحن نحتاج إلى تجنب هذه التصوّرات غير الواقعية عن أنفسنا في المستقبل، إذ يؤكّد بحث فوشيا أنه ما لم نكفّ عن ذلك، فإننا نمهّد طريقنا لخيبة الأمل وحتى المماطلة أكثر.
وتقول فوشيا: "نحن نصوّر أنفسنا في المستقبل كأبطال خارقة، وفجأة نجد أن من تصوّرنا أننا سنكون عليه في المستقبل غير واقعي للغاية ونظري لدرجة أننا لا نتعرّف عليه على أرض الواقع".
كن أكثر لطفاً مع نفسك
قد يبدو هذا هو آخر شيء يجب عليك فعله إذا كنت تتصفّح الإنترنت لنصف اليوم الذي عليك أن تعمل خلاله، لكن تبيّن في الحقيقة أن الأشخاص المماطلين لديهم مستويات من التعاطف الذاتي تقل عن المتوسط.
إنهم بالفعل قساة إزاء أنفسهم ومن الواضح أن هذا لا يفلح.
في دراسة أجريت مع الطلاب الذين لم يتمكنوا من المراجعة الجيدة لأجل الامتحانات، كان من المرجح أن يراجع أولئك الذين يسامحون أنفسهم بسبب تسويفهم في المرة القادمة أكثر من أولئك الذين شعروا بأنهم غير قادرين على مغفرة ما فعلوا في حق أنفسهم ولا على تجاوز الأمر. وبالفعل ينتاب الناس شعورُ سيئ حيال المهمة التي يؤدونها، لذا فإن إضافة المزيد من المشاعر السلبية للأمر لن يساعد.
وكما تشير فوشيا، نحن لا نتّسم بتلك القسوة مع أصدقائنا مثلما نفعل في الغالب مع أنفسنا. وتقول: "هل تضايقهم بشأن ما فعلوا ثم تمضي؟ هل تقول: ما الخطب معك؟ لماذا تماطل؟ انهض وأنجز الأمر!". لا، بل تقول: "هيا، لقد كان أسبوعاً عصيباً، أنا أتفهّم أن الأمر صعب بالنسبة لك، فقط خذ الأمور ببساطة وأنا سأكون هنا لدعمك". وأعتقد أننا في في حاجة لفعل هذا مع أنفسنا.. أن نبدي مستوى الطيبة نفسه مع أنفسنا".
تحدث عن نفسك بالطريقة الصحيحة
حتى الأشياء الصغيرة مثل اللغة التي تستخدمها يمكن أن تحدث فرقاً. مثلاً، قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2008، أجريت دراسة في كاليفورنيا، وخلالها، طُلب من الأشخاص الذين سُجِلت أسماؤهم للتصويت ملء استطلاع يطرح عليهم أسئلة بصيغة شعورهم تجاه "التصويت" أو بصيغة شعورهم تجاه "كونهم ناخبين".
قد يكون الاختلاف في اللغة بسيطاً، لكن عندما يتعلق الأمر بالخروج فعلياً للإدلاء بأصواتهم، فإن 95٪ من المجموعة التي سئلوا بصيغة الاسم شاركوا، مقارنة بـ 82٪ في مجموعة ممن سئلوا بصيغة الفعل. فإن مجرّد النظر إلى أنفسنا باعتبارنا نوعاً معيناً من الأشخاص يمكن أن يؤثر على سلوكنا.
لذا، صف نفسك ليس بكونك شخص يركض أحياناً، بل بأنك "عدّاء"، وحينها تزداد احتمالية أن تكون عدّاءً. وبدلاً من أن تقول إنك "تتبع نظاماً غذائياً"، قل إنك "شخص يأكل طعاماً صحيّاً أكثر"، مثلما يقول إيان تايلور إن السبب وراء نجاح هذا الأمر هو أنه يشكك في الرابط بينك وبين السلوك المعني، "فإن لم تعد تفعل هذا السلوك بعد الآن، فأنت فقط تعيش حياتك بالطريقة التي تريدها".