الذعر المجتمعي تجاه التكنولوجيا يتجذر في تاريخ الحضارة البشرية، وكلما ظهر اختراع جديده قابله الناس بالخوف والحذر؛ كما هو الحال مع الذكاء الاصطناعي في عصرنا الحالي.
في أي يوم عادي، بعد الشوط الكبير الذي حققته البشرية من تطورات، تستيقظ صباحاً لتستقل سيارتك أو تركب الحافلة استعداداً ليوم عمل طويل.. تشرب قهوتك الصباحية أو تبدأ في تصفح الأوراق المطبوعة. تقوم ببعض المكالمات الهاتفية المهمة ثم تشرع في العمل، ولكن.. هل فكرت يوماً بأن تلك الأنشطة التي تفعلها ببساطة وبشكل يومي سببت ذعراً مجتمعياً كبيراً وقت اختراعها؟
كان لدى العديد مخاوف من أن تحل الاختراعات الحديثة محل إنسانيتنا عوضاً عن تعزيزها.
فما هي التطورات الحديثة التي سببت ذعراً مجتمعياً ورفضتها الغالبية في البداية؟
الذعر المجتمعي تجاه التكنولوجيا .. المطبعة ستدمِّر الكنيسة والدولة!
سبَّب اختراع المطبعة في أربعينيات القرن الرابع عشر خوفاً مجتمعياً كبيراً.
إذ ظنّ المثقفون حينها أن هذا الاختراع الحديث سيؤدي في نهاية الأمر لاندثار الأعمال اليدوية للكتبة الذين يقومون بنسخ المخطوطات باليد.
كما أن مكابس الطباعة تعني أنَّ الكتب يمكن أن تُطبع بثمنٍ رخيص وبكمياتٍ أكبر من المخطوطات المنسوخة يدوياً.
كان التخوف وقتها من فتح الباب ووصول المعلومات إلى غير مستحقّيها من أشباه المثقفين والمتشدقين بالعلم، الذين لن يستطيعوا فهم أغوار تلك العلوم بعمق وسيكتفون بالمعرفة السطحية.
كما كان هناك ذعر أخلاقي من اختراع المطبعة؛ فقد كانت هناك مخاوف من أن التعاليم الدينية التقليدية سيتمّ تحريفها وستنشر نسخاً مهولة من الإنجيل المزيف.
ووصل الخوف إلى مدى أبعد، ظناً بأن الصحافة المطبوعة ستدمِّر الكنيسة ومن ثم الدولة أيضاً.
وكان هناك قديسٌ من القرن الخامس عشر – وهو الأب يوهان تريثيميوس الذي كان ضد اختراع المطبعة.
إذ كان يرى أنها ستؤثِّر على أرواح الرهبان وتجعلهم كسالى بسبب توقفهم عن نسخ المخطوطات الدينية بأيديهم.
وبالرغم من كل الذعر الذي سببته اختراع المطبعة، إلا أنها لعبت دوراً محورياً في تشكيل عصر النهضة.
الكهرباء تصعق مستخدميها.. حتى الرئيس الأميركي خاف منها!
عندما بدأت الكهرباء تصل لبعض المنازل في دول أوروبا وفي أميركا خلال القرن التاسع عشر كان الكثير من الناس يخافون من استخدامها وعلى رأسهم الرئيس الأميركي السابق بنجامين هاريسون.
ففي عام 1889، وبعد فترة قصيرة من اختراع توماس أديسون أول مصباح متوهج قابل للتطبيق التجاري في عام 1879، تم تركيب مصابيح كهربائية دائمة في البيت الأبيض من قبل شركة إديسون العامة للكهرباء.
ولكن الرئيس هاريسون تلقَّى صدمة مدوية من مفاتيح الأضواء وكان يخاف جداً من استخدامها، وبعد ذلك خافت عائلته من لمس المفاتيح.
وفي الواقع لم تستخدم السيدة الأولى كارولين هاريسون الأضواء الكهربائية أبداً، وكانت تستعين بالخدم من أجل تشغيل الأنوار وإطفائها ليلاً، وفق موقع Gizmodo.
بغض النظر عن الغرابة التي قد تبدو عليها تلك المخاوف الآن، ففي ذلك الوقت، كانت مخاوف الناس حقيقية جداً ولكنهم لم يكونوا على علم بأن الكهرباء ستؤدي إلى إحداث تغيير جذري في نوعية حياة الفرد ذاتها.
فوفقاً لإحصائيات التنمية للبنك الدولي، ترتبط الكهرباء بخمسة مؤشرات للتنمية البشرية، وهي: معدل التحضر ومعدل القراءة والكتابة ومتوسط العمر عند الولادة ونفقات الاستهلاك والناتج المحلي الإجمالي.
إذ تبين أن الكهرباء تعمل على تعزيز الصحة العامة والرفاهية وذلك من خلال زيادة الكفاءة والأمان والبيئة النظيفة.
القطارات تفصل أرحام النساء عن أجسادهن
تحوم مخاوف حول السفر منذ أن طوَّر البشر القدرة على الانتقال من مكانٍ إلى آخر.
لكنَّ مخاوف اليوم تنحصر في أن يقودنا نظام GPS إلى غير وجهتنا، وهي مخاوف تبدو لنا أكثر واقعية من مخاوف النقل منذ أكثر من 100 عام.
فقد كان هناك قلقٌ كبير منذ قرنٍ ونصف من الزمن، وتحديداً بعد افتتاح أول خط سكة حديد ستوكتون – دارلنجتون في عام 1825.
فقد كان لدى المجتمع خوف كبير تجاه هذا الاختراع الجديد، إذ ظن أغلب السكان أنَّ جسد المرأة لم يُصمَّم لتحمُّل سرعة 80 كلم/الساعة.
ووصل الحد إلى القلق من أنّ أرحام السيدات المسافرات على متن القطارات قد تطير خارج أجسامهن بينما تتسارع بهنَّ القطارات.
كما ظن آخرون أن القطارات ستؤدي إلى إذابة جسم الإنسان بسبب السرعة العالية!
وقد أوضح عالم الأنثروبولوجيا الثقافية جينيفيف بيل مدير شركة "Interaction and Experience Research" التابعة لشركة Intel أنّ ذعر المجتمع تجاه التطورات الحديثة كان غالباً ما يتم إسقاطه على النساء والأطفال؛ لأنهم الحلقة الأضعف في المجتمع.
فعندما زودت المنازل بالكهرباء في الولايات المتحدة ساد الخوف المجتمعي بأن الكهرباء ستضر النساء والأطفال، لأنّ الحيوانات المفترسة ستتمكن من رؤيتهم بسهولة ولأنهم ضعفاء ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
وبعيداً عن هذا الذعر المجتمعي فقد أحدثت السكك الحديدية ثورة اقتصادية كبيرة؛ إذ غيرت من شكل المجتمعات العمرانية وساهمت في سهولة التواصل بين المدن والقرى.
كما زادت من فرص الحياة البشرية، وذلك عبر سهولة نقل الأغذية والسلع والأشخاص بأعداد كبيرة وبسرعة.
السيارات تحركها الجان وتسبب الضعف الجنسي للسيدات!
في أوائل القرن العشرين، كانت وسائل النقل تتألَّف بشكلٍ رئيسيّ من عرباتٍ تجرها الخيول.
وكانت العربات الكهربائية هي البديل المثالي للخيول، فقد كانت هادئة لا تُحدث الكثير من الجلبة كما لم يكن هناك حاجة إلى إطعامها.
حتَّى ذلك الحين كانت تعتبر بديلاً "نظيفاً"، ولكن في مطلع القرن العشرين كانت الكهرباء لا تزال تعتبر شيئاً جديداً.
3 % فقط من المنازل في بعض دول أوروبا وفي الولايات المتحدة مزودة بالطاقة الكهربائية، وعليه كان من الصعب إيجاد طريقة لشحن بطاريات السيارات.
حاول توماس أديسون بقوة الحصول على الكهرباء من أجل صناعة السيارات، ولكن كانت السيارات الكهربائية مكلفة للغاية في ذلك الوقت.
إذ تعدى سعرها بين 1000 دولار و3000 دولار مقارنة بـ 25 إلى 100 دولار للعربة التي تجرها الخيول.
فيما بعد استثمر فورد الذي كان في طريقه ليكون واحداً من أغنى الرجال في العالم من خلال إنتاج سيارات مزودة ببطاريات من صنع شركة أديسون.
إذ طلب فورد حينها 100 ألف بطارية من الشركة K وكما اتضح فيما بعد فإن بطاريات أديسون كانت في حاجة إلى الكثير من التعديل، وحينها طلب مهندسو فورد استخدام بطاريات أفضل.
لكنّ فورد رفض ذلك واكتشف أن اثنين من الموظفين اختبرا النموذج الأولي الكهربائي الجديد مع بطاريات الحمض الرصاصية الثقيلة من شركة مختلفة.
قام فورد بإغلاق المشروع بدلاً من الاستثمار في بطاريات جديدة.
وبشكلٍ غريب بما فيه الكفاية كان أحد أهم أسباب فشل تجربة السيارات الكهربائية هو الذعر المجتمعي من السيارة، إذ فشل فورد في عملية تسويق منتجه فشلاً ذريعاً.
ساد الاعتقاد حينها بأن السيارة تحركها الجان وليس الكهرباء.
كما أن قيادة المرأة لتلك "العربة الشيطانية" سوف تسبب إصابتها بالإغماء والضعف الجسدي والهستيريا.
ولكن وخلافاً لمخاوف ذاك الزمان، ساهم هذا الاختراع في إحداث الكثير من التغييرات في طريقة عيش وتنظيم المجتمعات.
إذ ساهمت السيارات في تقريب المسافات، بالإضافة إلى نقل السلع والخدمات وازدهار التجارة؛ وبالتالي التقدم الاقتصادي للمجتمعات وتحسين رفاهيتها.
الهاتف يسبب الصمم ويحرق المنزل
في القرن التاسع عشر، وتحديداً عام 1876 أثار اختراع الهاتف الكثير من المخاوف.
فهذه الأصوات غير المجسّمة التي تأتي من السلك نشرت الذعر بين الناس.
وكان الخوف الرئيسي هو أن استخدام الهواتف سيمزق نسيج المجتمع عن طريق إزالة الحاجة إلى مقابلة الناس وجهاً لوجه.
كما شملت المخاوف الأخرى فكرة أن الهواتف تجعل الناس كسالى، وبمرور الوقت سيصيبهم الصمم التام.
ووصل الذعر المجتمعي إلى حدّ اعتبار الهواتف جاذبة للأرواح الشريرة من خلال الرعد والبرق.
وأطلق عليها الكثير حينها اسم أدوات الشيطامن أولى تجارب الهاتف
خلال عام 1876 نشرت صحيفة New York Times سلسلة مقالات مثّلت هجوماً شرساً على هاتف ألكسندر غراهام بيل بسبب غزوه للخصوصية.
كما ذكرت تلك المقالات أن الأسلاك الكهربائية الموصلة للهواتف قد تتعرض للضرب من عاصفة رعدية فتدمر المنازل.
وأدت تلك المقالات إلى إحجام الكثير من الناس عن شراء الهاتف في ذلك الوقت، ولكن ما لم يدر في خلد هؤلاء أن الهاتف سيلعب مستقبلاً دوراً محورياً في تحقيق تنمية المجتمع وتحسين مستوى المعيشة.
التلفزيون يصيب المشاهدين بالعمى
جلب اختراع التلفزيون خوفاً جديداً معه وهو الخوف من غسيل الدماغ.
إذ اعتقد الكثير حينها أن مشاهدة التلفزيون ستجعل الناس أغبياء، كما ألقي باللوم على التلفزيون كونه السبب الرئيسي في تدهور أخلاق الشباب بسبب المحتوى غير الأخلاقي لبعض المحافظين.
كما وصل خوف المجتمع من التلفزيون حينها إلى اتهامه بإصدار أشعة ضارة ستسبب العمى للجميع في غضون سنوات قليلة.
وقال المخرج والكاتب الأميركي الهوليوودي داريل فرانسيس زانوك عام 1946: "لن يستطيع جهاز التلفزيون الصمود كثيراً، إذ سرعان ما سيمّل الناس من التحديق في ذلك الصندوق الخشبي كل ليلة".
وعلى الرغم من تلك المخاوف، إلا أن تأثير التلفزيون على الثقافة الأميركية والعالمية أضحى قوياً.
أدى البث المحلي للبرامج التلفزيونية والأخبار والأحداث الرياضية إلى وجود تجربة معرفية مشتركة؛ إذ وجد الباحثون أن الجميع يتحدثون عن نفس الأشياء وهذا بسبب التجربة البصرية والسمعية التي سمح بها التلفزيون.
هذا المضمون المعروض أدى في نهاية المطاف إلى الحد من الاختلافات الثقافية الإقليمية، وخلق نوعاً من الثقافة المجتمعية أكثر تماسكاً.