منذ 13 عاماً مضت، كان صانع آلة الكمان شحادة شلالدة طالباً عادياً بالثانوية العامة في رام الله، حين سمع أنين أوتار كمان يعلو قادماً من مَدرسة موسيقى افتُتحت حديثاً قرب منزله.
سلبت الموسيقى عقله وحواسه في تلك اللحظة، وتغيرت حياته بالكامل.
وبعد رحلة مع الموسيقى قادته إلى إيطاليا وفرنسا وبريطانيا، يُعتبر شلالدة الآن (28 عاماً)، صانعَ الكمان المحترف الوحيد في فلسطين.
يوجد العديد من صانعي الآلات الموسيقية هناك، لكنهم جميعاً مختصون في الآلات الشرقية.
وحده شلالدة هو الذي تعمّق في علاقته مع الكمان.
منذ ذلك اليوم الذي تسمّر فيه أمام الألحان الصادرة عن الكمان، قضى شحادة ساعاتٍ بمدرسة الكمنجاتي الموسيقية، متهرباً أحياناً من مدرسته الثانوية ليكون في حضرة الموسيقى.
صانع آلة الكمان شحادة شلالدة يجد فيها سبباً للحياة
تعلَّم كيف يُصلح ويُنظف الآلات وكيف يحول قطعةً من الخشب إلى كمانٍ، صاقلاً الحواف لإبراز المنحنيات والتجاويف، ومبرزاً الثقوب على شكل حرف F ومراعياً انحناءات الخصر الدقيقة.
فمدرسة الكمنجاتي الموسيقية عبارة عن جمعية غير ربحية، تأسست في عام 2002 لتقديم وغرس وتعزيز التربية الموسيقية وتذوقها على قاعدة عريضة، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الحياة الفلسطينية.
يوضح الموقع الإلكتروني للجمعية رسالتها، وإيمانها بأن التربية الموسيقية يجب أن تكون متاحة للجميع، "فالموسيقى لغة عالمية ومَنفذ إبداعي وآمن، خاصة للأطفال".
قال شحادة: "كبرت في منطقة حرب. لم أعتقد أني سأنجو. وفَّرت لي صناعة الكمان سبيلاً لأظل على قيد الحياة. كانت فرصةً لأرى العالم وأقدم شيئاً لمجتمعي، وهو محاولة إحلال السلام عبر الموسيقى".
لقاء مع صانع كمان إيطالي قلب حياته رأساً على عقب
قابل شحادة في مدرسة الكمنجاتي صانع الكمان الإيطالي باولو سورغينتون، الذي دعاه لدراسة الوتريات في فلورنسا عام 2008.
وأوضح: "حين وصلت إلى إيطاليا صُدمت ودُهشت حين لم أر نقاط تفتيشٍ وجنوداً يحملون أسلحةً ناريةً كما في شوارع فلسطين. كنا أنا وأصدقائي نتخيل أنَّ العالم بأَسره كبلادنا".
وهناك في فلورنسا صنع كمانه الأول.
عاد إلى رام الله ليوزع موسيقاه للعالم أجمع
أكمل دراسته في مدرسة نيوآرك لصناعة الكمان في بريطانيا.
ولاحقاً، عاد شحادة إلى فلسطين عام 2012، وأسس ورشةً في مدرسة الكمنجاتي، التي ما تزال على ناصية الشارع الذي يقع به منزله.
تحت صورة الرئيس الراحل ياسر عرفات، يستعرض الشاب الفلسطيني الآلات الني صنعتها يداه، ويشير إلى أن الآلة الواحدة تستغرق شهرين كاملين، من مرحلة التصميم على الورق حتى آخر ضربة من الدهان.
أما اليوم، فتُباع آلات شحادة إلى زبائن في العالم أجمع.
ولأول مرة يشارك كمان فلسطيني في مسابقة عالمية
ويقول الشاب الفلسطيني لصحيفة The Guardian، بعدما عاد إلى رام الله بعدما شارك في مسابقة أنطونيو ستراديفاري الدولية المرموقة لصناعة الكمان، والتي تقام كل 3 سنواتٍ في كريمونا بإيطاليا: "هذه طريقةٌ لإظهار أنَّ بلادي تُنتج أشغالاً يدوية جميلةً. تشتهر فلسطين بالصراع فقط، لكن لنا كذلك تراث ثقافي قوي".
كانت تلك هي المرة الأولى التي يشارك فيها كمانٌ مصنوعٌ بفلسطين في المسابقة.
يأمل أن توصل الموسيقى رسالة من شعبه وعنه
وشحادة دائماً تُحركه رغبة في جلب الموسيقى إلى حيث لا يُسمع إلا دوي الحرب.
لقد كان يصلح الآلات الموسيقية بمخيم اللاجئين في مسقط رأسه برام الله، كما فعل في صبرا وشاتيلا بلبنان.
ويُخطط لمتابعة جهوده مع صديقه صانع الوتريات الإيطالي ألبيرتو دولتشي.
ويقول: "لا يملك اللاجئون مياهً صالحةً للشرب ولا كهرباء. ولا يُسمح لهم بالعمل. الموسيقى أداةٌ مهمةٌ للتعبير عن مشاعرهم؛ لكونها لغةً عالميةً".
ومهمته المقبلة إصلاح الآلات الموسيقية في غزة.. إن سمحت له إسرائيل
وفي فبراير/شباط 2019، يخطط لزيارة غزة، وإصلاح الآلات بالمدارس الموسيقية القليلة الباقية على حالها بعد الغارة الجوية الإسرائيلية في 9 أغسطس/آب، والتي دمرت مؤسسة سعيد المسحال للثقافة والعلوم، وهو مركز ثقافي في غزة.
يفصل رام الله عن غزة نحو 100 كم، تقطعها السيارة في قرابة الساعة، لكن شحادة سيقضي يوماً كاملاً تقريباً في السفر؛ لأنَّه لا يستطيع المرور عبر إسرائيل.
سيتوجب عليه -على الأرجح- الطيران إلى مصر؛ ومن ثم السفر إلى غزة بالسيارة.
لكنه يخشى أن تُغلق القوات الإسرائيلية الحدود، حينها لن يتمكن من العودة إلى الضفة الغربية، حيث تنتظره زوجته بثينة، وأبناؤه الثلاثة: نبيل، وجوري، وعمر.
ويقول: "الموسيقى أداة سلامٍ فعَّالة. لن أتوقف عن بناء الجسور بين الثقافات بفضل هذه الآلة الجميلة، الكمان".