توقف كريس كيلي، من مدينة باث الإنكليزية، في أحد الأيام الأخيرة لتناول طعام الغداء في مدينة الدار البيضاء، وهو في طريقه إلى عطلة ركوب الأمواج بالطائرة الورقية في جنوبي المغرب، وقال: إنَّه أعجبته الطريقة اللطيفة التي كان المكان القديم مُرمَّماً بها. كان هذا المقهى مثل ذلك الذي كان في فيلم Casablanca.
ومثل العديد من الزائرين هنا، فُوجئ كيلي حين علم أنَّ Rick's Café Américain لم يكن موجوداً قط، فيما عدا في فيلم من هوليوود؛ حيث أُنتِجَ الفيلم الكلاسيكي، بطولة همفري بوغارت وإنغريد بيرغمان.
في عام 1942، عندما كان العالم في حالة حرب، كانت المدينة التي تستحق اسمها عن جدارة واقعةً تحت احتلال قوى المحور. وكان مقهى ريك مُجرد نسجِ خيالٍ من كاتب.
حلمت بتحويل الخيال إلى واقع
مالكة ومُؤسسة مقهى "ريك" الحقيقي في الدار البيضاء هي دبلوماسيةٌ أميركية سابقة، تُدعى كاثي كريغر. قالت لصحيفة The New York Times الأميركية: "أردنا أن نجعل المقهى كما كان في الفيلم، ونضيف عليه بعض الأشياء".
العشرات من الأقواس البيضاء المدعومة بالأعمدة تلف غرفة الطعام، تحت قبةٍ من ثمانية أضلاع بارتفاع ثلاثة طوابق، ومصدات من الجلد الأخضر تُزين الجزء العلوي من مكان البار المُنحني. يُوجد نخيل في الزوايا، وثُريات نحاسية مُعلَّقة، ومصابيح مُزيَّنة بالخرز على الطاولات، وفي ممرٍ قوسي آخر يوجد بيانو كبير، والمشهد كله يبدو كأنه مشهدٌ سينمائي من حقبةٍ حقيقية.
ليس من قبيل الصدفة أن نجد كاثي في معظم الليالي واقفةً عند زاوية البار، والنُدُل لديهم تعليماتٌ بإعادة ملء كأس النبيذ الخاصة بها بالماء حتى الساعة 11 مساءً، وفي ذلك الوقت يُسمَح لرجلٍ مغربي يُدعى فال دارجان بلانك بالدخول. وهناك الكثير من الزبائن الذين يأتون إلى المقهى بشكلٍ مُنتظم ينادونها باسم "مدام ريك".
إنَّ الهيئة التي يبدو عليها مقهى ريك لا علاقة لها بالحرب العالمية الثانية، ولكن الكثير منها مُتعلِّقٌ بالحرب المُعاصرة على الإرهاب، ودور كاثي الصغير في الأمر. لديها الكثير لتقوله عن القوة الصامدة لعملٍ فنيٍّ عظيم يُؤثِّر على الأقدار في الحياة الحقيقية.
ومثل الكثير من الأميركيين، كانت كاثي من أشد المعجبين بفيلم Casablanca، الذي غالباً ما كان ضمن قوائم النُّقاد لأعظم 10 أفلام في كل العصور. شاهدته كاثي لأول مرة في عام 1974 في مهرجان سينمائي في مسقط رأسها، مدينة بورتلاند بولاية أوريغون الأميركية.
وقالت: "في نهاية الفيلم، وقف الجميع وصفَّقوا".
أرادت تغيير الصورة النمطية بعد أحداث سبتمبر
انضمَّت كاثي لاحقاً إلى وزارة الخارجية الأميركية، التي عيَّنَتها كمُلحقٍ تجاري لهذا الميناء الساحلي في المحيط الأطلسي، والتي تُعد مركز الأعمال في المغرب وأكبر مُدنها.
فوجئت كاثي عندما اكتشفت أنَّه لا يوجد مقهى ريك هنا، وبدا الأمر لها وكأنَّها فرصةٌ تسويقية مُفتَقَدة.
ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وما اعتبرته كاثي ردة فعل عنيفة في أميركا ضد المسلمين. وقالت: إنَّها تريد مُحاربة رد الفعل العنيف هذا.
قرَّرَت كاثي أنَّ طريقة جيدة للتعامل مع الأمر كانت بأن تُظهِر أنَّ امرأةً أميركية، تعمل بمفردها في مجتمع إسلامي، يمكنها أن تبدأ عملاً تجارياً مثل مقهى ريك، للعمل كنموذجٍ التسامح، والذي كان بمثابة ملاذٍ في عالمٍ مضطرب.
استخدمت كاثي خطة مال التقاعد الخاصةِ بها وعثرت على حطام منزل قديم فخم في المدينة العتيقة، وهي مدينة الدار البيضاء القديمة، التي كانت وما زالت مكاناً رثاً تملؤه القمامة.
وجدت المكان لكنها احتاجت للأموال
لم يكن للمنزل هيئة، ولكنه كان يواجه الميناء، وكان يتضمَّن نخلتين ملكيَّتَين على جانبي بابه الأمامي، وداخله جوهرة معمارية في الخفاء. استعانت كاثي بالمُصمِّم الداخلي الشهير بيل ويليس ليساعدها في ترميمه، وذهبت إلى أحد البنوك المغربية للحصول على قرض.
لم يكن القرض كافياً؛ لذلك بدأت كاثي ببعث رسائل إلكترونية إلى أصدقائها في الولايات المتحدة بكلامٍ يبدأ بعبارةٍ مثل: "من بين جميع الأماكن التي تُقدِّم مشروب الجن في جميع المدن في جميع أنحاء العالم، هذا هو المكان".
استجاب كثيرون منهم لفكرة إنشاء مقهى ريك حقيقي. وأشارت كاثي إلى جهودها في جمع الأموال اللازمة بأنَّها "تجميع الأشخاص المشتبه بهم المُعتادين"، وهي العبارة التي ألهمت اسم الشركة التي تمتلك النادي الليلي.
لكن كان هناك قلق بسبب تحويلات الأموال
في عام 2002 عندما كانت تقوم بجمع الأموال، وسط الكثير من الشكوك في أميركا حول تمويلات المُتطرِّفين الإسلاميين، ذهبت كاثي بشكلٍ استباقي إلى وزارة الخزانة لتشرح لماذا كان الناس يقومون بتحويل الأموال إلى مؤسسة Usual Suspects Société Anonyme في الدار البيضاء.
وقالت إنَّه على الرغم من ذلك، تلقى أحد مستثمريها، في مدينة لنكن في نبراسكا، زيارةً من مكتب التحقيقات الفيدرالي المحلي لطرح أسئلة عليه عن استثماراته.
وجدت عازف البيانو
وكانت كاثي تُجري مقابلات مع المرشحين المغاربة لوظيفة المدير عندما قابلت عصام شباع. وذكر أنَّه يمكنه العزف على البيانو. قالت كاثي: "طلبت منه أن يُسمعني عزفه. جلس وعزف أغنية As Time Goes By، ومن ثم عُيِّنَ على الفور".
وهو معها منذ أن افتتحت المقهى منذ 14 عاماً.
ولا يزال شباع يلعب موسيقى الجاز على البيانو عدة ليالِ في الأسبوع، بالإضافة إلى إدارة الـ60 موظف الذين يعملون في النادي الليلي. لا يكاد يمر أسبوعٌ من دون أن يطلب منه أحد الزبائن "اعزفها مرةً أخرى يا عصام".
وبالفعل يعزف شباع "هذه الأغنية" كثيراً، ولكنه رجل فخور بنفسه؛ عندما يقول الزبائن: "اعزفها مرةً أخرى يا سام"، يُصحِّح لهم القول: "اسمي عصام".
(ملاحظة تاريخية: لم تُقل عبارة "اعزفها مرة أخرى يا سام" في الفيلم، شخصية إنغريد بيرغمان، إلسا، تقول في الفيلم: "اعزفها مرة واحدة يا سام، من أجل الأيام الخوالي").
آسفون.. الطاولات كلها محجوزة
وتقول كاثي: إن ما تشعر بأنَّها صنعته هو مكان يمكن أن يُبرِز ما هو عظيم في أميركا والأميركيين، عندما تكون البلاد مرةً أخرى في مُنحنى حمائي وانعزالي.
وكان فيلم Casablanca في بادئ الأمر فيلماً دعائياً، في وقتٍ كان الأميركيون يناقشون فيه ما إذا كانوا سيرسلون قوات إلى شمال إفريقيا، وفي وقتٍ لاحق إلى أوروبا. وهناك تلميحاتٌ حول مُعتَقَدات كاثي السياسية الخاصة في قائمة المطعم، والتي تشمل أطباق مثل طبق "عائلة أوباما التشيلي الحار". وهذا الطبق حار بشكلٍ مُفاجئ.
ويبدو أنَّ مقهى ريك الخاص بكاثي ناجح؛ حيث تمتلئ طاولاته في خمس غرف طعام في طابقين لتناول طعام الغداء والعشاء في معظم الأيام. وفي أيِّ جلسةٍ، هناك زبائن من أماكن مُتنوِّعة للغاية لدرجة أنَّ بإمكانهم أن ينافسوا مجموعة الشخصيات العالمية الموجودة في الفيلم وطاقمه.
في أحد أيام الجمعة الأخيرة، كان الزبائن في المقهى يضمون جنسياتٍ من إيطاليا، وبريطانيا، وأميركا، والصين، وكولومبيا، وتشيلي، وفرنسا، بالإضافة إلى طاولة رفضوا فيها الكشف عن جنسيتهم (وكان واحد منهم على الأقل يتحدَّث بالروسية).
وكانت سفيرة صربيا في المغرب قد أتت من الرباط، وكانت جالسةً في مكانها المُعتاد بجوار طاولة الروليت، وهي موجودة على سبيل العرض فقط؛ لأنَّ القمار غير قانوني في المغرب. وقالت السفيرة سلادجانا بريكا: "أنا أعرف التاريخ، ولكنني أُفضِّل أن أعتقد أن هذا هو المكان الحقيقي".
ولا يزال Casablanca هو البطل
على شاشة قريبة، يُعرض فيلم Casablanca باستمرار.
ويأتي العديد من زبائن المقهى مِمَّن ينتمون إلى عصرنا الحديث الراهن بسبب حبهم الدائم للفيلم.
وقالت بريدجيت دونفن، 21 عاماً، من نيوزيلندا، والتي كانت برفقة شقيقتها ماري، التي تبلغ من العمر 24 عاماً: "لقد ربانا والدانا ونحن نُشاهد دائماً فيلم Casablanca. لا أعتقد أن هناك عاماً مضى دون أن نُشاهده".
على الغداء، أرسلا إلى والديهما عشرات من صور الهاتف المحمول للمقهى.
قررت الابتعاد بعد انتخاب ترمب
أما ليكيثا أندرسون، 49 عاماً، فهي تُعتَبَر منفية أكثر من كونها سائحة؛ إذ إنها أميركية قرَّرَت بعد انتخاب الرئيس ترمب أنَّها ستغادر البلاد وتأخذ معها تجارتها في التوظيف.
قالت وهي تتناول طعام العشاء: "أحب الإحساس الذي يُولِّده المكان وكأننا في واحة. خاصةً بالنسبة للأشخاص الذين ليسوا من ذوي البشرة البيضاء، نحتاج إلى استراحةٍ من كلِّ شيء".
ولكن ألم يكن الهدف من الفيلم هو أن الواحة لم تكن قادرة على التملُّص طويلاً مِمَّا كان يحدث في العالم الأوسع؟
قالت ليكيثا: "قد يكون الأمر ذلك، ولكنني سأبقى بعيداً لأطول فترة ممكنة".
وقالت كاثي، التي تبلغ من العمر 72 عاماً، وهي مطلقة، إنَّها تعتزم قضاء بقية أيامها في مقهى ريك، وهي جالسة في زاويتها في البار عندما لا تكون تختلط مع الزبائن. وقالت مازحة: "هذا هو مركز العيش الذي يُقدِّم المساعدة الخاص بي"، أو كما قالت شخصية همفري بوغارت، ريك بلين، في الفيلم: "سأموت في الدار البيضاء. إنَّه مكانٌ جيِّد لذلك".