على مدى ما يُقارب 60 عاماً، وَاجَه مُحمَّد شفيق بشجاعةٍ درجات الحرارة المرتفعة في مدينة نيودلهي، إلى جانب ركبته السقيمة، والأرواح الشريرة، آخذاً على عاتقه إيقاظ جيرانه لتناول وجبة السحور وصلاة الفجر قبل شروق الشمس طوال شهر رمضان المُبارك.
ولكن لم يُهيئ الرجل نفسه أو يستعد لإدراك الطفرة في شبكة الكهرباء والعديد من الهواتف الجوالة في المدينة.
يُعرف شفيق البالغ من العمر 68 عاماً بأنَّه مسحراتي البلدة، وهي المهنة التي أصبحت مُهملةً تدريجياً مع وصول إمدادات الكهرباء في المدينة منذ عشرات السنين، بالإضافة إلى التحسينات الأخيرة للشبكة، ما أدَّى إلى شحن الهواتف الذكية طوال الليل واستخدام المُنبهات المُلحقة بها لإيقاظ الناس للصلاة.
واجب ديني رغم التحديات
وقال شفيق لصحيفة The New York Times الأميركية، إنَّ إحساسه بالواجب الديني يفرض عليه مُواصلة عمله، مُضيفاً إليه لمسة شخصية من نوعٍ خاص. فهو يُفضل إيقاظ جيرانه عن طريق ندائهم بأسمائهم، بدلاً من تركهم لرنين المنبهات.
ومن داخل شقةٍ سكنية ضيِّقة تحوي غرفةً واحدة، شَرَحَ شفيق مخاطر وظيفته -وتتضمَّن صد تلك الأرواح الشريرة، ورجُلاً مقطوع الرأس، ومصَّاصة دماءٍ جميلة- بينما كان جالساً على الأرض، تُحيطُه جدرانٌ وردية اللون. وتتدلَّى خصلات الشعر الأبيض التي تُغطي رأسه بالكامل من قبعةٍ سوداء مُزينة بأحجار الراين والخرز المُلوَّن اللامع بكل تدرُّجات ألوان قوس قزح، وبطنه البارز المُغطى بسُترةٍ طويلة لونها أصفر خردلي.
وسيكون العام الجاري 2018 هو العام الأول الذي يقوم فيه السيد شفيق بجولاته بمفرده؛ إذ اعتاد أخوه مشاركته، لكنَّه توفي قبل ثمانية أشهر. وقرَّر ابنه عدم الاستمرار في ممارسة هذا التقليد، كان يذكر هذا بينما ترمقه زوجته بجدية.
تناقص أعداد المسحراتية
وفي الحي الصغير الذي يسكن به في دلهي القديمة -مركز المدينة الأصلي للعاصمة نيودلهي- كان شفيق في الماضي واحداً من عشرات الذين يعملون في مهنة المسحراتي في البلدة، والذين يخدمون آلاف المنازل، وكانت لكل واحدٍ منهم منطقةٌ خاصة به. أمَّا اليوم، فقد صاروا قِلة.
وقال شفيق: "حين كنَّا صغاراً نعمل مع والدي، كنَّا نُغطِّي 70 حارة، ومئات المنازل. أما اليوم، فلا تساعدني ركبتي المُتعبة إلَّا على تغطية 4 أزقة فقط. أقوم بهذا العمل بمُفردي، وحين توافيني المنية، سيموت التقليد معي أيضاً".
صد الأرواح الشريرة والكلاب
يبدأ شفيق مُهمته في الساعة الثانية والنصف صباحاً، مُسلحاً بالآيات القرآنية التي حفظها عن ظهر قلب لصدِّ الأرواح الشريرة، ومستخدماً عصا لإبعاد الكلاب البرية.
كان شفيق يجتاز أزقة نيودلهي الفارغة الضيقة صبيحة أحد الأيام القليلة الماضية -أسفل غطاءٍ من الأسلاك الكهربائية المكشوفة وكتلة متشابكة من أسلاك الإنترنت السميكة ذات الألياف الضوئية- ويقرع بدأبٍ أجراس أبواب جيرانه ويستمر في قرعها، ويطرق الأبواب المعدنية بيدٍ مُجعدة.
وصاح قائلاً: "أيها الصائمون، استيقظوا! استيقظ يا نسيم"، منادياً أحد الجيران باسمه.
"يا كل الجيران، من الأمام والخلف، استيقظوا! صلُّوا لله في هذه الليلة".
كان صوته يدوي على طول الزقاق.
بينما ظهرت مجموعة من الأطفال في الشارع يسخرون منه، مُرددين ما يتفوَّه به من عبارات، قبل أن يصطفّوا لمصافحته.
تقليد رمضاني أصيل
يُمثِّل شهر رمضان المُبارك بداية نزول الوحي على النبي مُحمَّد من الله عز وجل، ويُعَد صومه أحد أركان الإسلام الخمسة، وفريضة واجبة على المؤمنين.
وفي الكثير من دول الشرق الأوسط، يُطلَق على وظيفة شفيق اسم "قارع طبول السحور" أو "المسحراتي"، ولا يُوقَظ أهل الحي بقرع أجراس أبوابهم مثلما هو الحال في نيودلهي، ولكن باستخدام طبلة كبيرة. تعلو نداءات المسحراتي للمؤمنين ليستيقظوا من أجل تناول السحور وأداء الصلاة.
لكنه في طريقه للاندثار
لكنَّ هذا التقليد يندثر كذلك، إذ تحل محله المنبهات التي يمكن الاعتماد عليها، أو ازدهار المدن الكُبرى، التي جعلت إيقاظ الأشخاص من منازلهم أمراً مستحيلاً نظراً إلى ازدياد عدد البنايات مُتعددة الطوابق.
تغيَّر الكثير منذ بدأ شفيق القيام بتلك الجولات مع والده وأخيه حين كان في سن العاشرة؛ إذ كانت مجموعات من حَفظة القرآن الكريم يتجولون في تلك الأزقة وهم يتلون آياتٍ قرآنية، لكنَّ الناس تعبوا من طلب هؤلاء المتجولين للصدقات الليلية وتوقفوا عن إعطائهم أموالاً.
أضف إلى هذا أنَّ الكهرباء حوَّلت كذلك شوارع دلهي القديمة والهادئة بدرجةٍ مُخيفة إلى مزيجٍ من الأسواق الليلية الصاخبة. وتحت وهج المصابيح الكهربائية، يبتاع المتسوقون الدجاج المقلي الدهني، والعصائر من الأكشاك، فضلاً عن شراء الهدايا لأحبائهم، أو سلع البقالة للمنزل.
الكهرباء أضاعت مهنته
تذمَّر شفيق قائلاً إنَّ استخدام الكهرباء لم يؤدِ فقط إلى موت مهنته، بل اندثار الأعمال التطوعية المُتوقعة من جميع المسلمين خلال شهر رمضان.
فمع وجود مصدر دائم للكهرباء، بدَّل المسلمون ساعات يومهم؛ ينامون طوال النهار ويمارسون حركتهم ليلاً، ما يسمح لهم بتجنُّب مشقَّة الامتناع عن الطعام والشراب طوال النهار.
وأكَّد شفيق أنَّ وظيفته التطوعية صارت تعني تحوُّل السلوان الذي كان يجده وهو يجوب الحارات الهادئة المُتعرِّجة، إلى تمرين في تفادي الدراجات النارية المُزعجة، والأولاد الذين يُمارسون رياضة الكريكيت في الشوارع، ما يراه جواً احتفالياً غير روحاني.
تهدأ الشوارع بينما يُنهي شفيق جولاته ويعود إلى المنزل، ويَهرع البائعون والأُسر إلى أداء صلواتهم وتناول السحور.
وقت الأرواح الشريرة
وهذا بالتحديد هو الوقت الذي يَلقى فيه العناء الأكبر من الأرواح الشريرة.
إذ يجد امرأة جميلة تنتظره في زوايا الشارع المُظلمة، ترتدي خلخالاً مُزيناً بأجراسٍ تُصدر أصواتاً مرحة، إلى أن يلاحظ أنَّ قدميها مختفيتان، وأنَّها تتحدَّث من خلال أنفها، على حد وصفه.
وقال شفيق: "رأيت أشياء مُخيفةً للغاية، لكنَّني أقرأ السور القرآنية، فتنصرف. لكنَّ تلك المرأة، خُلقت جميلة لكي ينظر لها الرجال، ما يسمح لها بمص دمائهم بعينيها".
وبينما كان شفيق يسير نحو منزله، في ممشى تعلوه فوانيس ورقية وشرائط فضية وذهبية، استمرَّ في إيقاظ السكان فيما تبقَّى من منازل. كانت الساعة الثالثة فجراً، لكنَّ درجة الحرارة كانت مُرتفعة جداً، وكان شفيق يتصبَّبُ عرقاً ويلهثُ بسبب صرخاته التي كان يُصدرها بلا توقف.
لكن لا يزال هناك احترام للمهنة
مرَّ شفيق على مجموعةٍ من الشباب الذين كانوا مُستلقينَ على "دكَّاتٍ" ومقاعد دراجات بخارية مُتعطِّلة، فرحَّبوا به بكل احترامٍ.
وقال مُحمَّد الكاشف (23 عاماً): "لقد عهدناه منذ طفولتنا، لذا لدينا تعلقٌ به. فهو ليس مُجرد أداة تنبيه على هاتفنا".
وحين سُئل الكاشف عن سبب عدم اهتمام جيله بالحفاظ على هذا التقليد وتولِّي مسؤوليته بعد شفيق، هزَّ كتفيه قائلاً: "من المُحرج بعض الشيء أن تتجوَّل، وتصيح منادياً على الناس ليستيقظوا. إذ يملك الناس الآن برامج تنبيه على هواتفهم".
وفي الوقت المناسب تماماً، أطلقت مكبرات الصوت في المسجد المُجاور صوتاً مُدوياً مماثلاً لصوت التنبيه الذي كان يدوي في أرجاء العاصمة البريطانية لندن في أثناء الحرب العالمية الثانية، لإخطار المواطنين بالاحتماء أثناء قصف العدو.
وقال الكاشف مُتأذياً من ذلك الصوت الصاخب: "والآن لدينا هذا أيضاً".
ثم عاد إلى منزله ليأكل ويُصلي.