طُلب من مجموعة متطوعين عبور ممر من أجل الوصول إلى غرفة، لتنفيذ مهمة ما، وفي طريق عودتهم وجدوا أن الممر تحوّل بطريقة سرية إلى غرفة صغيرة، جدرانها مخططة باللون الأخضر وفي داخلها كرسي أحمر. تخيل ردة الفعل على وجوههم، هل تطابقت؟
هذه التجربة الانفعالية انتظرت عودة هؤلاء المتطوعين لتسجيل هذه اللحظة بالذات عبر الكاميرات ومقارنة تعبير كل منهم عن المفاجأة والذهول.
هل يعبر البشر عن مشاعرهم بنفس الطريقة؟ سجال علمي بدأ مع العالم تشارلز داروين في القرن الـ 19، وما زال مستمراً حتى الآن. تتفاوت فيه الإجابة بين من يقول نعم، التعبير عن المشاعر يتخذ شكلاً واحداً، وبين من يقول إن اختلاف الثقافات يؤدي إلى اختلاف تعابير الوجه.
فخلف كل عاطفة توجد آلية بيولوجية فريدة من نوعها، حيث أن كل عاطفة لا يصاحبها تعبير يتجسد على الوجه بشكل مميز فحسب، وإنما تفاعلات جسدية تختلف من شخص إلى آخر. فعلى سبيل المثال، يصاحب الشعور بالخوف، تسارع في نبضات القلب، في حين يرتفع ضغط الدم عند الشعور بالغضب.
تشارلز داروين طرح تشابه التعابير
تشارلز داروين، صاحب نظرية التطور، يعتبر أول من أدلى بدلوه في هذه المسألة. آنذاك، أرسل داروين العديد من الرحالة والعلماء والمبشرين كذلك، من الإمبراطورية البريطانية، من أجل دراسة ووصف ردود الأفعال المختلفة عند العديد من الشعوب.
من خلال هذه الطريقة، تعرف داروين على الأساليب التي يعبر الناس من خلالها عن مشاعرهم المختلفة على غرار التفاجؤ والسعادة والغضب، بدايةً من الماوري – السكان الأصليون لنيوزيلندا -، وصولاً إلى سكان قارة إفريقيا. وقد اكتشف داروين أن في قبيلة لبشا – من مزارعي الجبال التبت البورميين -، عادة ما يحمر وجه الفرد ويطأطئ رأسه عندما يفضح كذبه.
وفي كتابه "التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان"، الذي نشر سنة 1872، لخص داروين دراسته قائلاً، "تبين لي من كافة المعطيات التي جمعتها، أن طريقة التعبير عن الحالة العاطفية للأفراد من جميع أنحاء العالم متشابهة بشكل عجيب".
وإيكمان أيده بنظرية "شمولية العواطف"
وخلال القرن الـ 20، لاقت نظرية العالم الأميركي بول إيكمان المشابهة حول شمولية العواطف رواجاً واسعاً، ويرجع ذلك إلى اعتمادها على دراسات مختلفة للعديد من الباحثين.
في سبعينيات القرن الماضي، توصل العالم النفسي المتقاعد إيكمان، إلى نظريته بعدما سافر إلى عدة بلدان، على غرار غينيا الجديدة وجزيرة بورنيو والولايات المتحدة والبرازيل واليابان، لدراسة انطباع الأفراد في تلك الدول حول تعابير الوجه من خلال عرض مجموعة من الصور عليهم.
وأكد إيكمان أن جميع سكان هذه الدول اتفقوا على تعابير الوجه المتعلقة بالسعادة والخوف والغضب والحزن والمفاجأة والاشمئزاز. وقد أطلق إيكمان على هذه المشاعر الستة اسم "المشاعر الأساسية"، حيث تجسدها جميع الشعوب بنفس الطريقة، في حين يمكن لأي شعب آخر التعرف عليها.
ووفق تقرير نشرته صحيفة Die Welt الألمانية، ما زالت هذه النظرية حتى يومنا هذا تستمد مصداقيتها من روح نظرية التطور لداروين، حيث شبهت العواطف بالماديات الجوهرية التي تتشكل مع تطور الإنسان.
وزينفت طرح اختلاف التعابير لاختلاف الثقافات
من هذا المنطلق، يعتقد العلماء أنه يجب دراسة وظائف الأعضاء وتعابير الوجه في ذات الوقت، من أجل الوصول إلى فهم موضوعي للمشاعر الداخلية والحالة الذهنية. ولكن تظهر في هذا الصدد معضلة أخرى، لاحظها أخصائي لغوي نفسي من معهد "ماكس بلانك لعلم اللغة النفسي" في مدينة نايميخن، يدعى غونتر زينفت، تتمثل في أن الأفراد الذين لا ينتمون للثقافات الغربية تتباين عندهم التفسيرات بشأن تعابير الوجه.
سافر زينفت إلى بابوا غينيا الجديدة من أجل التعرف على السكان الأصليين لجزر تروبرياند، التي تقع قبالة شواطئ دولة بابوا غينيا الجديدة. يعيش سكان هذه الجزر دون كهرباء أو ماء، ويعيش أغلبهم من مهنة الصيد، في حين لا يكادون يعرفون شيئا عن الحضارة الغربية. عرض زينفت على سكان هذه الجزر مجموعة من الصور لبعض الأشخاص الذين كانوا بصدد التعبير عن شعور معين من خلال وجوههم، على غرار السعادة أو الاشمئزاز.
السعادة شعور متعارف عليه عالمياً بعكس الاشمئزاز والغضب
عقب ذلك، عمد زينفت إلى معرفة رأي المتطوعين بشأن هذه الصور وما استنتجوه بشأن كل صورة. في الحقيقة، تعرف جميعهم على الصور التى كانت ملامح أصحابها تعبر عن الشعور بالسعادة. في المقابل، اختلف سكان جزر تروبرياند حول الصور التي تعبر عن الاشمئزاز، حيث وصفها بعضهم بأنها تعبر عن الغضب، في حين قال البعض الآخر إنها تعبر عن الحزن. وكان من الغريب أن أورد بعضهم أنها تحيل إلى الشعور بالسعادة.
فما الذي يعنيه ذلك؟ هل بالفعل لا يتفق العالم حول طريقة التعبير عن مختلف المشاعر؟ في الواقع، ذلك ما يعتقده الخبراء منذ 40 سنة.
استغرق الأمر عدة عقود قبل أن يتوصل غونتر زينفت إلى نتيجة مغايرة تماما لنظرية إيكمان. ولم يتفاجأ زينفت بتاتا من هذه النتيجة، حيث يعتبر من بين العلماء الذين شككوا في نظرية إيكمان منذ البداية. وحيال هذا الشأن، أورد زينفت أن "ثقافاتنا مختلفة بشكل كبير، ومن غير الممكن أن تكون هناك مشاعر أساسية موحدة تشمل كل الثقافات".
لكن الأدلة العملية لا تدعم النظرية
وتعتبر أخصائية علم النفس لدى جامعة نورث إيسترن في مدينة بوسطن الأميركية، ليزا فلدمان باريت، من بين أشهر المنتقدين لنظرية شمولية العواطف لبول أيكمان أيضاً. ففي خريف سنة 2011، استقلت باريت طائرة خاصة للذهاب إلى أدغال ناميبيا لمقابلة الرعاة من قبيلة الهيمبا، التي تعد إحدى أكثر القبائل المعزولة في القارة السمراء.
عرضت باريت على أهالي قبيلة الهيمبا 36 صورة لتعابير وجه مختلفة تعود لأميركيين من أصول إفريقية. ومن المفترض أن يصنف أهالي القبيلة الصور التي تعبر عن الشعور نفسه ضمن مجموعة واحدة، بحيث يكون لديهم عدة مجموعات من الصور، كل مجموعة تشمل شعوراً مختلفاً. ولكن لم تحصل باريت في نهاية المطاف على ست مجموعات واضحة للعواطف الست الأساسية.
فقد كان لبعض الأشخاص الذين خضعوا للتجربة، أكثر من ست مجموعات، في حين صنفوا صوراً لوجوه مبتسمة وسعيدة في مجموعات مختلفة. سارت التجربة التي شملت قبيلة الهيمبا بشكل جيد. وقد كان التصنيف بالاستناد إلى ستة مشاعر رئيسية: السعادة والخوف والغضب والحزن والتفاجؤ والاشمئزاز، وفقاً لنظرية بول إيكمان.
وكانت المصطلحات التي تعبر عن هذه المشاعر مختلفة وفقاً للغة قبيلة الهيمبا. لذلك، كانوا في حاجة إلى أن يقع توجيههم من قبل باريت، وتحديد مختلف التصنيفات. ومع ذلك، لم يكن هناك ست صور فقط ضمن كل مجموعة، على غرار ما قام به المتطوعون الذين خضعوا للتجربة في الولايات المتحدة. وفي خلاصة التجربة، أكدت باريت أنه "في المجمل، لا تدعم الأدلة العلمية نظرية شمولية العواطف".
و"كلما ابتعدنا عن الغرب، تعمقت المسافة بين العاطفة والتعبير"
من جانبه، عكف أخصائي علم النفس من جامعة غرايفسفالت الألمانية، راينر رايزنتساين، على مقارنة سبل التعبير عن المشاعر ضمن الثقافات المتعددة. وقال رايزنتساين إنه كلما ابتعدنا عن الثقافة الغربية، تعمقت المسافة بين العاطفة وتعابير الوجه المعروفة المرتبط بها.
وتربط هذه الثقافات بين تعابير الوجه للشعور ذاته إلى درجة معينة، على غرار الثقافات الغربية. ويبدو أننا ندور في فلك قاعدة عالمية، ولكن كيفية صياغة هذه القاعدة لا تزال لغزاً كبيراً. ويزداد الأمر صعوبة عندما لا يستطيع أشخاص من الثقافة ذاتها إدراك شعور ما من خلال تعابير وجه الشخص المقابل، وهو ما أثبتته دراسة رايزنتساين.
وأحياناً.. يمتنع البعض عن التعبير!
رايزنتساين هو من طلب من مجموعة المتطوعين العبور في الممر. وأفاد بعد انتهائها أنه لم يتمكن من الربط دائما بين تعبير الوجه والمشاعر، الأمر الذي طرحه إيكمان. فعلى الرغم من أن جميع المتطوعين لم يظهروا تعابير المفاجأة، إلا أنه لا يمكن إنكار مراودة الجميع الشعور ذاته.
مرة أخرى، تفشل التجربة في إثبات نظرية شمولية العواطف، وذلك ليس فيما يتعلق بتعابير الوجه المميزة لكل عاطفة فحسب. فقد فشلت الفحوصات، التي أجريت حول ردود الأفعال الجسدية المتعلقة بشعور معين، في إثبات نظرية المشاعر الأساسية.
وقد يفسر البعض الجوع على أنه شعور بالوحدة!
ذكر راينر رايزنتساين بعد القيام بمقارنة لطرق التعبير المرتبطة بالمشاعر في الثقافات المختلفة، أن المواقف المتشابهة تثير مشاعر معينة. وأضاف أن "توجيه تهديدات لشخص ما يثير الخوف داخل النفس مهما اختلفت الثقافات، كما أن شعور المفاجأة يظهر عن حدوث أمر غير متوقع، ويعبر الشخص عن الاشمئزاز عند رؤية الكائنات التي تسبب العدوى بمرض ما".
من جانبها، تعارض ليزا باريت هذه الفرضية، قائلة: "في حال حدوث موقفين مختلفين ينجم عنهما الشعور ذاته، تكون حركة الوجه والتغيرات الفيزيولوجية، التي تطرأ على الجسم وأنماط الدماغ، مختلفة في كلا الموقفين. وبالتالي، كيف يمكن تعميم تعابير الوجه التي تقترن بمشاعر معينة؟".
فعلى سبيل المثال، يعبر سكان جزيرة روسل التابعة لبابوا غينيا الجديدة عن دهشتهم برفع أنوفهم، بينما ذكر إيكمان أن رفع الأنف إشارة إلى الاشمئزاز. إذن، تفسر الثقافة معنى شعور ما.
الشعور بالجوع مثلاً عند قبيلة البانينغ في بابوا غينيا الجديدة تعبير عن الشعور بالوحدة، حيث يشير إلى سوء الحالة العاطفية لدى شخص ما، وليس عن حالة جسدية. وترى قبيلة البانينغ أن الشعور بالألفة والأنس أمر ضروري، لذا يجب تناول الطعام وسط مجموعة للشعور بالألفة. ولذلك، فهم يعتبرون الجوع شعوراً طبيعياً يقترن "بالجوع" إلى وجود رفقة أثناء تناولهم الطعام.
حتى في حال أدركت الثقافات الغربية هذا الشعور جيداً، وفهمت ما يعنيه بالنسبة لهذه القبيلة، إلا أنه من المستحيل أن يصف أحد في الغرب صورة لشخص يشعر بالوحدة على أنه "جائع".