شَهِدَتْ مدينة الموصل العراقية أحداثاً سياسية وعسكرية غيرت المشهد الاجتماعي والثقافي فيها، وذلك بعد سيطرة تنظيم الدولة على المدينة في العاشر من يوليو/تموز 2014 ، عقب انسحاب قطعات الجيش العراقي منها؛ إذ دخلت المدينة في منعطف تاريخي غيَّر مجرى الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، فيما لم تترك العمليات العسكرية وممارسات تنظيم الدولة ركناً في المدينة إلا ووضع بصمته فيها، وقد نالت جامعة الموصل النصيب الأكبر من الدمار والتخريب والإهمال.
وبحسب شبكة "زدني" للتعليم، فقد مرت جامعة الموصل بالكثير من الأحداث والمتغيرات السياسية منذ تأسيسها، وكانت أكثر الأحداث تأثيراً فترة الغزو الأميركي للعراق في عام 2003؛ إذ تعرض الكثير من أساتذة كليات ومعاهد جامعة الموصل للقتل والتهجير من قِبل الجماعات المسلحة؛ ما اضطر الكثير منهم إلى الهجرة خارج العراق حفاظاً على أرواحهم؛ الأمر الذي أدى إلى تدني المستوى التعليمي فيها إلى أبعد المستويات؛ بسبب هجرة أغلب الكفاءات العلمية والثقافية منها.
رغم أن جامعة الموصل تعتبر من أكثر جامعات العراق والشرق الأوسط التي تحتوي على مراكز الدراسات والبحوث والتطوير، وتقع الجامعة في الساحل الأيسر من مدينة الموصل، وقد تأسست عام 1967، ويبلغ عدد الكليات والمراكز الاستشارية فيها 51 مركزاً استشارياً وكلية، وأكثر من 8000 عدد التدريسيين والأساتذة المساعدين فيها.
فيما يبلغ عدد طلاب الدراسات الأولية: 35000 طالب، وعدد طلبة الدراسات العليا: أكثر من 1200 طالب، بحسب الإحصاءات الرسمية من رئاسة الجامعة. وتتخذ اليوم من محافظتي كركوك ودهوك وجامعة النور في برطلة مقرّاً بديلاً لها بعد سيطرة التنظيم على المدينة وتفجيره الكثير من مبانيها قبل سيطرة القوات العراقية عليها.
وقد كان لجامعة الموصل النصيب الأكبر من نسبة الدمار الذي لحق بالمدينة، فمعالمها المعمارية الشامخة ومكاتبها الزاخرة بمختلف كتب العلوم والمعرفة، أصبحت مدمرة جراء الحرب الدائرة في المدينة؛ إذ كان للحرب الدور الأكبر في تدمير المدينة الجامعية التي يعود تاريخها لأكثر من نصف قرن مضى على تأسيسها؛ لتغرق المدينة في مستنقع الجهل والتخلف بعد فقدان أبنائها مقاعدهم الدراسية 3 سنوات مضت، فضلاً عن تدمير مدارسها ومعاهدها التي كان آخرها تدمير مباني ودور الجامعة.
كما تعرضت معاهد وكليات جامعة الموصل للقصف المستمر من قِبل الطيران الحربي العراقي وطيران التحالف الدولي، بعد أن اتخذ التنظيم من مبانيها ورشاً ومصانع لتصنيع الأسلحة والصواريخ؛ ما جعلها هدفاً لقنابل وصواريخ تلك الطائرات، فضلاً عن تفخيخ التنظيم لما تبقى من مباني الجامعة قبل أن يقوم بنقل محتوياتها من أجهزة ومعدات طبية وهندسية وبيعها إلى جهات أخرى، بحسب تقرير نشرته شبكة "زدني".
وتعتبر جامعة الموصل من كبرى جامعات العراق وأقدمها وقد كانت تستقطب الكثير من الطلبة العراقيين والعرب قبل الغزو الأميركي للعراق، وبمعالمها العمرانية الشامخة أصبحت اليوم أثراً بعد عين، وتم تسوية مبانيها مع الأرض جراء آلة الحرب العسكرية، فأغلب مباني الجامعة طالها الدمار والخراب لما شهدته من أحداث وعمليات عسكرية حدثت فيها وتعرضها للقصف الجوي والمدفعي المستمر، كما قام عناصر التنظيم بتفخيخ بعض المباني وتفجيرها تزامناً مع دخول القوات العراقية إليها.
دخل مراسل شبكة "زدني" إلى جامعة الموصل وتجول في مختلف أنحائها واطلع على الكليات والمعاهد التي نال منها الدمار الذي طال معظم أجزائها، وأصبح من الصعب إعادة تأهيلها في المستقبل القريب، وفتح جميع أقسامها وكلياتها؛ نظراً لنسبة الدمار الكبيرة التي لحقت بها، بحسب ما صرح به بعض المسؤولين العراقيين من المدينة.
مستقبل الطلاب بعد تدمير مباني الجامعة
رئيس جامعة الموصل الدكتور أُبَي سعيد الديوه جي، في حديثٍ مع شبكة "زدني"، قال: تعرضت الكثير من مباني الجامعة لدمار كامل، ولكن نحن الآن نعمل على ترميم وإعادة المباني التي لم تلحقها أضرار كبيرة، كما أن هناك عدداً من المختبرات لم تدمر أيضاً وبإمكاننا العمل على إعادتها"، وأضاف رئيس جامعة الموصل بأن نحو 10 الآف طالب يباشرون العمل بجامعة النور- الموقع البديل لجامعة الموصل، إضافةً إلى 15 ألف طالب في مقرات الجامعة البديلة بمحافظتي دهوك وكركوك.
وأضاف "الديوه جي" في تصريحات لشبكة "زدني": "لعدم ضياع مستقبل الطلبة للسنتين الماضيتين، سنستمر في الدوام حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ونحن بانتظار تحرير الساحل الأيمن من المدينة؛ لضمان التحاق الطلاب المحاصرين والمباشرة في دوامهم بالكليات والمعاهد"، وأشار إلى أنه سيتم فتح أبواب الجامعة للعام الدراسي الجديد واستخدام المباني التي لم تتعرض لنسب تدمير كبيرة، مبيناً أن جامعة الموصل فيها مبانٍ كبيرة وكثيرة وبإمكانهم استخدام الكثير منها، مؤكداً أن إعادة إعمار المباني المدمرة يحتاج إلى سنوات؛ لكون المباني المدمرة كبيرة جدّاً وتحتاج لأموال طائلة.
إحراق المكتبة المركزية
وقد عمد تنظيم داعش إلى إحراق المكتبة المركزية وإتلاف جميع الكتب والمجلدات التي تحتويها المكتبة، والتي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 200 سنة لأسباب قال إنها مخالفة للشريعة الإسلامية، وفق تصوره.
ورأت شبكة "زدني" أن إحراق الكتب والمجلدات في المكتبة المركزية لا يقل سوءاً عن تدمير كليات ومعاهد الجامعة إن لم يكن أكثر تأثيراً.
شهود عيان قالوا للشبكة إنه عندما قام عناصر التنظيم بإحراق المكتبة المركزية تشكلت في سماء المدينة سحابة سوداء، غطت معظم أجزاء المدينة؛ دلالة على ما كانت تحتويه المكتبة من كميات كبيرة ووفيرة من الكتب العلمية والثقافية والفلسفية التي أصبحت رماداً، ولم تعد تملك جامعة الموصل أي رصيد علمي أو ثقافي بعد فقدانها المكتبة المركزية التي كانت تعد أحد أهم أكبر المراجع العلمية والثقافية في العراق.
أغلب مباني الجامعة دُمرت
أكد مسؤولون عسكريون لشبكة "زدني"، أن نسبة الدمار التي تعرضت لها مباني جامعة الموصل تجاوزت الـ75% جراء العمليات العسكرية التي حصلت في أغلب مبانيها، واتخاذ التنظيم مقرات ومصانع لصنع العبوات والسيارات المفخخة؛ ما جعلها هدفاً عسكريّاً ، وأضافوا أن التنظيم أبدى مقاومة شديدة في الجامعة؛ ما زاد من نسبة الأضرار فيها، وأضافوا أن مسلحي التنظيم قاموا بنقل الأجهزة الطبية والهندسية من مباني الجامعة ونقلها إلى أماكن مجهولة قبل بدء العمليات العسكرية في المدينة.
شهود عيان من مدينة الموصل قالوا إن هناك عمليات نهب وسطو تتعرض لها جامعة الموصل لما تبقى فيها من أجهزة ومعدات من قِبل مجهولين، وأضافوا عن دخول سيارات شحن تقوم بنقل الأجهزة من مباني الجامعة ونقلها إلى جهات خارج المدينة، وأكدوا ضرورة نشر قوات منضبطة حول المدينة؛ لمنع سرقة ما تبقى فيها من أجهزة ومعدات، وأشاروا إلى أن الكثير من بنايات الجامعة كانت تخلو من عناصر التنظيم، ولكن تم استهدافها أيضاً من قِبل الطيران الحربي لأسباب مجهولة، بحسب أقوال الشهود.
فيما قال الدكتور بجامعة الموصل علي الشمري، في تصريحاتٍ لشبكة "زدني": "شكّلنا لجنة خاصة لجرد الأضرار التي لحقت بمباني وأقسام والجامعة وما زلنا نعمل على تقويم الأضرار"، متحدثاً عن أن الدمار الذي لحق بمباني الجامعة كان بنسب متفاوتة، وأشار أنه تم دمار بعض الكليات بالكامل، وتسويتها بالأرض أهمها كلية الطب البيطري، وبعض أقسام كليات الإدارة والاقتصاد والآداب، وسرقة أكثر من 75 مليون وحدة إلكترونية مشفرة، ودمار أكثر من 90% من المكتبة المركزية، إضافة إلى تدمير وحرق مطبعة الجامعة.
وتابع بالقول: "لم يتم الآن تقييم قيمة الأضرار أو موعد انطلاق عملية إعمار الجامعة، خصوصاً أن الدولة تمر بحالة حرب وتعاني أزمة مالية".
إعادة إعمار جامعة الموصل
في خضم الأزمة المالية التي يعانيها العراق ودخوله في صراعات وحروب استنزفت أمواله واحتياطاته النقدية، إضافةً إلى الفساد المالي والإداري المستشري في البلد- لا يبدو أن إعادة بناء جامعة الموصل سيكون قريباً؛ بسبب عدم اهتمام الحكومة العراقية بالجانب العلمي، بحسب ما يراه مراقبون ومهتمون بالشأن العراقي.
المهندس أحمد عبد الله، الذي يعمل في هيئة إعادة إعمار المناطق المنكوبة، قال لشبكة "زدني": "إعادة إعمار جامعة الموصل يستغرق وقتاً طويلاً، ويتطلب أموالاً كثيرة؛ نظراً لحجم الدمار الذي طال معظم مبانيها"، مضيفاً أن إعادة إعمار الجامعة تتطلب مبلغ أكثر من 4 مليارات دولار، إضافة إلى الأجهزة الطبية والهندسية التي سُرقت ودُمرت بسبب العمليات العسكرية، واستبعد أن تكون جامعة الموصل مؤهلة لاستقبال الطلبة إذا لم تحصل الحكومة العراقية على معونات من الدول المانحة لإعادة إعمار الجامعة أو تتكفل الدول بإعادة إعمارها باعتبارها صرحاً علميّاً وحضاريّاً مهمّاً.
فيما أكد مسؤولون بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية أن هناك لجاناً تشكلت لرصد الأضرار التي لحقت بجامعة الموصل وتقدير حجم الأموال المتطلبة لإعادة إعمارها؛ من أجل البدء في بنائها وإعادة تأهيلها لاستقبال الطلبة.
وأضافوا أنه إلى الآن لم يتم وضع موازنة مالية من أجل البدء بإعادة إعمار الجامعة لحين اكتمال تحرير المدينة وإرسال اللجان المختصة لرصد تكاليف إعادة إعمارها"، وأشاروا إلى أن الرصد الأولي للأضرار أظهر تدمير مباني العمادات التي تضم الأرشيف وكل ما يحتوي على قاعدة بيانات للطلبة، لا سيما في كليات الصيدلة والإدارة والاقتصاد والمكتبة المركزية.
الدكتور أحمد الفكاك رئيس الموقع البديل لجامعة الموصل في كلية النور بناحية برطلة، أكد لشبكة "زدني" أن الجامعة في طور التنظيف من بقايا المتفجرات وبعض الكليات تم تنظيفها من قبل الأساتذة والطلبة، مؤكداً أنه سيكون اللقاء فيها حال جاهزيتها الأمنية وخلوها من المتفجرات والعبوات الناسفة، إضافة إلى التأكد من عدم سقوط ووصول القذائف والصواريخ إلى أراضيها؛ لأن حياة الطلبة والمنتسبين يجب أن تكون هي الأمر الأول، مبيناً أن هناك إمكانية لفتح أبواب الجامعة لاستقبال الطلاب خلال العام الدراسي المقبل
ويبقى الجانب العلمي في العراق هو الخاسر الأكبر من جميع هذه الأحداث؛ فتدمير البنى التحتية للمنشآت العلمية يتطلب سنين طوالاً لإعادة إعمارها في بلد مثل العراق، مع غياب الخطط الاستراتيجية للنهوض بالواقع العلمي والتربوي وتفشي سرطان الفساد الذي بات ينخر بجميع مؤسسات الدولة العراقية، ولا سيما الجانب العلمي فيها الذي أصبح ضحية الصراعات والنزاعات بين الأطراف المتصارعة.