بعد 6 شهور عمّ فيها الدمار والخراب أرجاء اليمن، تعود المحلات والورش في حي كريتر بمدينة عدن إلى حركتها الطبيعية بخجل. وما أن تدخل الشارع حتى تشتم رائحة البخور تنضح في أرجاء المكان، فتعيد عبر حاسة الشم ذكريات كاد اليمنيون أن ينسوها لولا فسحة الأمل.
لا شيء إلا البخور إذا احترق بالنار يزداد طيبة، خصوصاً ذلك المسمى بـ"العرايسي"، أو البخور العدني، الذي يتميز بتنوع الخلطات الدهنية والعطرية وتفرده في طريقة التحضير.
ويعتبر سوق حي كريتر قطب أسواق البخور المحلية والعربية، إلا أن الحرب الأخيرة تسببت بركود في الصناعة والتصدير متسببة بأضرار على أصحاب المحلات.
طارق عبد الله سعيد صاحب أحد محلات البخور في سوق كريتر، أوضح في حديثه لـ "عربي بوست" أن متوسط دخله من البخور العدني انخفض كثيراً على الرغم من انتهاء الحرب، لكن الحياة لم تعد إلى مجراها الطبيعي، حيث أن متوسط ما يحصل عليه في اليوم الواحد قرابة 20 ألف ريال يمني (98 دولار أميركي)، مشيراً إلى أن متوسط ما كان يتحصل عليه قبل اندلاع الحرب يصل لأكثر من 100 ألف ريال يمني في اليوم الواحد (500 دولار).
إما التاجرة أم محمد، فترى أن ركود تجارة البخور ناجم عن الحظر الجوي والبحري على اليمن، والذي حدّ من تصدير أهم سلعة وطنية في الجنوب العربي إلى الدول العربية. كما أن نزوح السكان خارج مدينة عدن، فضلاً عن استمرار الحرب في المناطق الشمالية، أغلق عشرات الورش، في حين تقاعس الآخرون عن إصلاح محلاتهم المدمرة.
واستطردت أم محمد قائلةً، "كان يقصدني الكثير من المغتربين في اليمن لشراء البخور العدني كهدايا لأهاليهم في دول الخليج قبل الحرب، كما كنت أيضا أعمل على تبخير العروس وصنع البخور للمجالس النسوية".
سر الوصفة العدنية
ويعتمد تحضير البخور العدني على "خماسية" لا بد منها هي، الظفر والعفص والمسك والعطر والعود، إضافة إلى رشات من السكر النباتي وماء الورد.
صانع البخور خالد الشيباني شرح لـ "عربي بوست" طريقة تحضير البخور قائلاً، "تطحن المكونات بمقادير معينة لتصبح كالمسحوق ويطلق عليها (الحوائج)، ثم تخلط جيداً بدرجة حرارة هادئة في كمية من ماء الورد أو الماء العادي مع كيلو من السكر، وبعدها تصب بقية المكونات عليها حتى تختلط جميعها وتتصاعد الفقاعات".
وللعملية عدة مراحل أولها صب عطر يسمى عطر العنبر، والذي يستخرج من سمكة العنبر مع ماء الورد عندما تكون النار هادئة، ثم تفرغ الحوائج على السكر والعطر والماء تدريجياً بكميات قليلة إلى أن يتخثر الخليط ويصبح متماسكاً كالعسل.
تُطفئ النار بعدها ثم يضاف العطر الكيميائي. عندئذ تكون طبخة البخور جاهزة، وتشكل في قوالب معدنية أو بلاستيكية إلى أن تتصلب.
يوضح الشيباني، "تتوقف جودة البخور وثمنه على جودة العود والعطر المستخدم في تحضيره، وللبخور العدني عشرات الأنواع أجودها العرائسي والملكي".
البخور العدني والروحانيات
بدوره قال الشيخ أحمد بن سلم أستاذ القرآن وعلومه لـ "عربي بوست" إنهم في "الصوفية المعتدلة والأشاعرة، نستخدم أجود أنواع البخور لتطييب الحاضرين في مجالس الذكر التي نعقدها ومجالس المديح والإنشاد في المولد النبوي. وعندما نحضر إلى أضرحة أولياء الله نقرأ سورة ياسين ونطيب الحاضرين معنا بالبخور كرمز للخير والبركة والريح الطيب الزكي، الذي يبعث في الأنفس الطمأنينة ويجدد الحيوية والنشاط للإكثار من التعبد لله وذكره، وليس هناك أية علاقة مباشرة تتصل بالضريح أثناء استخدام البخور. يخلط أيضاً البخور باللبان الدكر واللبان الحاسكي لتبخير وتحصين البيوت من الشر والجن وطردهم".
ومن جانبه أوضح د. عبدالله بانافع، الأستاذ المساعد في جامعة عدن، أن لكل صانع أو صانعة بخور في مدينة عدن طريقة سرية تميزه في صناعة البخور، وكلا يخفي عن الآخر سر خلطته أو إضافاته حتى يلاقي لبضاعته رواجاً كبيراً.
وأضاف، "بعض الجماعات الدينية تواظب على تبخير أضرحة الأولياء الصالحين بشكل دائم، على سبيل المثال ضريح الإمام أبو بكر العيدروس في عدن، وضريح النبي هود في حضرموت، وضريح الشيخ عبيد بانافع في محافظة شبوة، وضريح الشيخ أحمد بن علوان في مدينة تعز، ويوحي تبخير هذه الأضرحة بالارتباط روحيا بالولي الصالح".
وروى بليغ أحمد ناجي" لـ "عربي بوست"، وهو أحد الشغوفين بشراء البخور، عن طقسه قائلاً "لإجازة نهاية الأسبوع طابع نفسي خاص مع البخور، فهو يجعلني أكثر انفتاحاً وانتشاء، فأنتقي يوم الخميس بخوراً عالي الجودة وأعود به للبيت لأحرقه على الفحم بواسطة (المبخرة) فتتنقل روائحه الزكية في سائر البيت، فهذا اليوم حصل فيه زفافي ويوم إجازتي، وباتت سعادتي مقرونة به. عندما أعود من العمل يجب أن أدخل بيتي وهو ينضح بالبخور وإلا فكأني ما عدت للبيت وتبقى أعصابي مشدودة حتى أشتم البخور. زوجتي حريصة جداً على هذا الطقس".
وعلى الرغم من راتب بليغ المتواضع كونه يعمل أستاذاً (300 دولار)، فإنه يقتطع منه ما لا يقل عن 90 دولار لشراء البخور، فالبخور بالنسبة له شيء أساسي كالأكل والشرب، على حد وصفه.
بدوره قال الباحث الاجتماعي خالد أحمد الصلوي، "قدم الوثنيون بين أيديهم أجود أنواع البخور في الهند تقرباً من معبوديهم، ثم أتى البخور إلى جنوب اليمن وتحديداً إلى مدينة عدن مع الاستعمار البريطاني الذي كان يسيطر آنذاك على الهند، فانتشر بين الناس وأضحى له سمته الخاصة".
أنواع وأسعار
تتفاوت أسعار البخور العدني بحسب الاستخدام والنوع، فهناك ما يسمى بالبخور المنزلي، وهو يستخدم لتغيير رائحة المنزل بعد طبخ السمك أو أي طعام آخر ذو رائحة نافذة، ويعد من أردأ أنواع البخور.
وهناك أيضاً بخور خاص بالأطفال حديثي الولادة، تبخر به ملابسه الأولى، وآخر للحفلات والأعراس، وآخر لرجال الدين لطرد الجن أو للجلسات العلاجية بالقرآن، وأيضاً لاستحضار الأرواح الشريرة والجن.