رغم أنها تلقت 7 تلقيحات وهي في الثانية من عمرها، فإن ذلك لم يكن كافياً وانضمت الطفلة "مدينة" إلى ضحايا مرض شلل الأطفال في أفغانستان الذين يزدادون بشكل يومي.
ففي زيارة أخيرة للطبيب تبين أن الطفلة "مدينة" مُصابة بشلل الأطفال، لكن "مدينة" المسكينة ليست سوى واحدة من ملايين الأطفال المعرّضين لخطر شلل الأطفال في أفغانستان.
شلل الأطفال في أفغانستان.. أرقام مليونية لا يعرفها مكان آخر في العالم
ولا تزال أفغانستان وباكستان تشكلان المنطقة الوبائية الكبيرة الوحيدة لفيروس شلل الأطفال، حسب منظمة الصحة العالمية.
وفي الوقت الحاضر، يخلو معظم أفغانستان من شلل الأطفال.
إذ يقتصر انتشار المرض على 13 مقاطعة تفتقر إلى الأمن، وبالتحديد في ولايات هيملاند، قندهار وأروزكان في مناطق الصراع الجنوبية، حيث يؤدي عدم استقرار الحالة الأمنية إلى الحد من تقديم اللقاح للأطفال.
ولكن هذه المناطق تضم ملايين الأطفال المعرضين للخطر.
ويقول عاملون في القطاع الطبي إنَّ ما يقرب من مليون طفل في مقاطعة قندهار وحدها، يحتاجون إلى جرعةٍ واحدة على الأقل شهرياً من اللقاح الفموي لحمايتهم من الإصابة بالفيروس، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأميركية.
لكنَّ كثيراً من هؤلاء الأطفال يعيشون في أسوأ مناطق جنوب أفغانستان في ما يتعلق بمعدلات العنف والاضطرابات الاجتماعية، حيث تسيطر طالبان على مساحاتٍ شاسعة وترفض انتقال العاملين في القطاع الطبي الحكومي من منزلٍ لآخر لتطعيم الأطفال.
وللأسف يبدو أن أفغانستان توشك على خسارة المعركة
وتمثل أفغانستان الدولة الأهم في الجبهة العالمية لمحاربة شلل الأطفال.
تجتمع هذه الحقائق لتجعل من إطلاق حملة تطعيم مستمرة ضد الفيروس مسألةً غاية في الصعوبة.
ولكن توشك أفغانستان، وهي واحدةٌ من 3 دول يستوطن فيها شلل الأطفال، على خسارة المعركة ضد الفيروس، حسب الصحيفة الأميركية.
فقد سجلت السلطات حتى الآن 19 حالة إصابة بشلل الأطفال خلال العام الحالي، مقارنةً بـ13 إصابة لكلٍّ من العامين الماضيين، وفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية.
خليط من الخرافات والظروف الأمنية والاقتصادية أوصلت أطفال البلاد لهذا الوضع
يعاني مقدمو لقاحات شلل الأطفال من الكثير من العراقيل أمام عملهم، حتى في المناطق التي استطاع فيها عمّال الصحة تقديم خدماتهم.
وشملت تلك العراقيل: المخاوف الأمنية والجفاف والفقر المدقع، والتقاليد الخانقة وانتشار الأمية والخرافات.
ومع ذلك، تنطلق طواقم تقديم اللقاحات مباشرةً عقب فجر كل يوم لأداء عملها، آملين في الوصول لعددٍ أكبر من الأطفال.
أعطونا خبزاً بدلاً من التلقيح
غالبية السكان فقراء ويشغلهم قلقٌ عارم حول إطعام أطفالهم كل ليلة، حسبما يقول ويقول مولوي عبدالرشيد، وهو رجل دين من مدينة قندهار وعضو في أحد هذه الفرق.
ويشكل الجفاف عبئاً آخر ضمن قائمة الأعباء اليومية، إذ تضطر الأسر في كثيرٍ من الأحياء إلى شراء المياه من الناقلات بعد جفاف الآبار.
ونتيجةً لذلك، يقول رشيد إنَّهم "لا يهتمون كثيراً للقاحات شلل الأطفال".
ومن جانبه، قال محمد شاه (38 عاماً) إنَّه من خلال مشاركته في حملة التطعيمات في المدينة كان يزور أكثر من 100 منزل يومياً في درجة حرارة تصل إلى 55 درجة مئوية تقريباً.
وأشار إلى أنَّ العائلات كانت تطلب الحصول على طعامٍ وغيرها من الاحتياجات بدلاً من اللقاح، وهو ما أعرب شاه عن تفهُّمه كونه والداً لخمسة أطفال.
وأضاف: "يظلون يطلبون أن نحضر لهم قمحاً ومرقاً وغيرها من الضروريات".
كما أن السكان يرتابون في لقاحات شلل الأطفال والبعض يعتبره حراماً
وقال شاه إنَّه رغم الجهود المبذولة لدفع رجال الدين إلى إعلان دعمهم للقاحات، لا تزال الشكوك بشأنها تراود السكان.
إذ يخشى كثيرٌ منهم ما إذا كانت التفاسير المشددة للإسلام تُجيز اللقاح أم لا، في حين يتساءل آخرون حول محتوياته، ويصدقون نظريات المؤامرة حول تلاعب الغرب به لإصابتهم بالعقم.
من جانبه، علَّق عبدالرزاق (65 عاماً)، الذي كان يشرف على عمل فريق اللقاحات في منطقة لويا فيالا قرب قندهار، التي ينتمي غالبية سكانها إلى العائلات النازحة من جراء القتال، قائلاً إنَّ نحو 10 عائلات من إجمالي 200 عائلة تقطن هناك رفضت أن نعطي اللقاحات لأطفالها.
وتابع: "من الصعب جداً إقناع العائلات التي ترفض اللقاحات، لكنَّنا نفعل ما بوسعنا".
ويجب أن يكون هناك نساء داخل الحملة، وهو أمر لو تعلمون عسير في أفغانستان
تعتنق غالبية الأسر هنا أفكاراً تقليدية تتخوف من السماح لأي رجلٍ غريب بالدخول إلى المنزل في حالة غياب أيٍ من الرجال في الأسرة.
ولهذا السبب، يحاول العاملون الطبيون ضم امرأة واحدة على الأقل لكل فريق لقاحات، لكن ليس هناك عددٌ كافٍ من النساء، وغالباً ما يرفض السكان خدمات الفرق التي يكون جميع أعضائها من الذكور.
وقال ديستاغير نزاري، أحد العاملين في وزارة الصحة الأفغانية، إنَّ الدول الغربية نجحت في القضاء على شلل الأطفال قبل الألفية الثالثة، لكنَّه لا يزال يمثل مسألةً حرجة في أفغانستان.
وأضاف: "يسعى العالم للقضاء على هذا الفيروس نهائياً. لذا تقع على عاتق أفغانستان مسؤولية دولية للقضاء عليه، ونحن نبذل ما بوسعنا لتحقيق ذلك".
10 ملايين طفل يحتاجونه، والفرق تنتقل من منزل إلى آخر للبحث عنهم
ويصل عدد الأطفال الذين يحتاجون إلى اللقاح المضاد لفيروس شلل الأطفال في أنحاء أفغانستان إلى أكثر من 10 ملايين طفل.
وتأتي الولايات المتحدة وكندا واليابان من بين أكبر الدول المانحة لحملة اللقاحات في هذا البلد.
ويحظى مقدمو اللقاحات بيومٍ حافل؛ إذ يبدأون عملهم في الساعات الأولى من كل صباح بالتجمع داخل المرافق الطبية لكل حيٍ في مدينة قندهار لجمع اللقاحات وأقراص فيتامين هـ التي يحملونها داخل مبردات.
وبعدها تتوجه الطواقم في سيارات أجرة أو على دراجات نارية، مُزوَدين بقوائم العائلات التي لديها أطفال أقل من 5 أعوام في المناطق الموكلة إليهم.
وينتقلون من منزلٍ لآخر، ثم عقب فترة استراحة لتناول الغداء وأداء الصلاة يعودون إلى المنازل التي لم يكن الأطفال يتواجدون فيها أثناء الجولة الصباحية.
ويلجأون إلى فتاوى دينية لإقناع الأسر بأنه ليس حراماً
وفي أحد المنازل، أصرَّت سيدة على رفض حصول ابنتها مرسال ذات الثلاثة أعوام على اللقاح. ولم تعطِ سبباً لرفضها، لكنَّ أعضاء الفريق ظنوا أنَّها كانت قلقة لأسبابٍ دينية.
لذا حاول كلٌّ من أفراد الفريق الثلاثة إقناعها، حتى أنَّهم استشهدوا بفتاوى من كتاب ديني تُجيز تناول اللقاح.
وكان آخر من حاول منهم هو عبدالرزاق، الذي سألها بصراحة فجّة: إذا أصريتِ على رفض اللقاح، هل ستكونين قادرةً على الاعتناء بابنتك إذا أُصيبت بشلل الأطفال؟ وحاول إقناعها مؤكداً أنَّه هو نفسه ملتزم دينياً، ومع ذلك أصر على أن يحصل جميع أطفاله الصغار على اللقاح. وأخيراً، نجح في مهمته وتلقت مرسال جرعة اللقاح اللازمة لذلك الشهر.
حتى إن هناك رجال دين يصاحبون الفرق الطبية، لكن البالونات أحياناً تؤدي الغرض
ويرافق أحياناً رجال الدين هذه الفرق الطبية لمساعدتها على طمأنة الأسر.
وقال عبدالرزاق: "وفقاً لتعاليم الإسلام، صحة الإنسان مهمة جداً، ويمكننا استخدام أية وسيلة لضمان البقاء أصحاء. ونجحنا خلال الشهر الجاري في إقناع 70 عائلة رفضت سابقاً اللقاح ضد شلل الأطفال".
وفي أحيانٍ أخرى، تؤدي البالونات الغرض. إذ كان ذلك كافياً في منزلٍ واحد رفضت فيه سيدة اللقاح، لكنَّ الصبي الذي كان معها أراد الحصول على بالونة؛ لذا حصل على الاثنين معاً.
والبعض يخشى من انتقام طالبان
ومع ذلك، هناك مخاوف هنا أكبر من مجرد نفور الأطفال من الدواء، تعرقل الحرب ضد شلل الأطفال في أفغانستان.
إذ يدرك الكثير من الأسر أنَّ حركة طالبان ترتاب في حملة الحكومة الأفغانية لتقديم اللقاحات المضادة لشلل الأطفال.
ومن ثم تخشى الأسر من أن تُستهدَف من قبل هذه الحركة التي تنتشر جنوب البلاد إذا شوهدت وهي تسمح بدخول الفرق الطبية إلى منازلها.
غير أن الحركة تقول إنها لا تعارض اللقاحات، ولكن ترفض طريقة تقديمها للأطفال
لكن من جانبه، قال ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم حركة طالبان، إنَّ المسلحين ليسوا ضد اللقاح بل دعموا توزيعه في المناطق الخاضعة لسيطرتهم>
غير أنه قال إنهم لن يسمحوا لطواقم حكومية بالتنقل من منزلٍ لآخر في مناطقهم، زاعماً أنَّ هؤلاء العاملين يكونون أحياناً جواسيس.
وتصرُّ حركة طالبان عادةً على توزيع اللقاح مركزياً من خلال المساجد.
لكنَّ العاملين في قطاع الصحة يقولون إنَّ الانتقال من منزل لآخر لتقديم اللقاح هو الطريقة الأنسب لضمان توزيع جرعات كافية كل شهر.
ورغم أنه عام صعب فإن أعداد الرافضين للتطعيم تتراجع
وقال شاه، الذي يعمل في خدمات تقديم اللقاح منذ 12 عاماً، إنَّه بقدر ما كان العام الحالي صعباً، كان الوضع يتحسَّن على الأقل في المنطقة التي يعمل بها؛ إذ انخفض عدد العائلات الرافضة حصول أطفالها على اللقاح من 25 عائلة العام الماضي إلى 8 فقط خلال هذا العام.
وأضاف شاه: "حين أرى مصاباً بشلل الأطفال أشعر بالأسف عليه، وأتفهم السبب الذي يجعل وظيفتي مهمة جداً".
ومع ذلك، أعرب مسؤولون في الحكومة الأفغانية عن أسفهم لتعثر محاولات إحراز تقدم رغم كل الجهود المبذولة لمحاربة شلل الأطفال في أفغانستان.
وفي هذا الصدد، قال عبدالقيوم بُخلة، رئيس دائرة الصحة العامة في مدينة قندهار، إنَّه حتى من دون الضغوط التي تتسبب بها الحرب سيستغرق القضاء على شلل الأطفال هناك ما لا يقل عن عامٍ أو عامين، مضيفاً: "نحتاج إلى بيئة آمنة لتنفيذ حملة التطعيم ضد فيروس شلل الأطفال".