أبناء الموت في غزة.. 300 ألف طفل بحاجة إلى دعم نفسي

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/18 الساعة 09:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/18 الساعة 09:44 بتوقيت غرينتش

بمجرد أن يعود الطفل طلال الفيري من مدرسته يهرع إلى البيت ليلتصق بوالدته، فهو لا يرغب في البقاء وحيداً لشعوره الدائم بالخوف نتيجة ما تعرّض له في الحرب الأخيرة على غزة، حينما رافق والده في رحلة البحث عن جثة عمّه وسط جثث المدنيين الملقاة على الأرض، ما أثر عليه بعد الواقعة.

انتهت الحرب على غزة، ولم يستطع الفيري البالغ من العمر 10 سنوات مواصلة حياته بشكل طبيعي، يصرخ ليلاً مردداً: "لا أريد الموت"، ويشعر بالخجل من إخوانه لتبوله اللاإرادي يومياً، أما مستواه الدراسي فقد غدا ضعيفاً بعد أن كان متفوقاً في سنواته الأولى.

وفي مقابلة مع "عربي بوست" تحدث الطفل طلال بكلمات قليلة قائلاً: "أخشى عودة الحرب، لا أريد أن أفقد عائلتي وصديقي كرم".

والده يقول إنه أصبح عدوانياً بين زملاء مدرسته، فبدأوا في مقاطعه ما يدفعه للاعتداء عليهم مرة أخرى انتقاماً.

ورغم أن فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي في قطاع غزة تعد وصمة عار عند كثيرين، إلا أن أهل الفيري قرروا اللجوء إلى أحدهم، وتدريجياً تسجل حالته تحسناً بطيئاً، فمستواه الدراسي يتحسن ولكنه لا يزال يخشى حرباً جديدة يقول إن أصدقاءه يتحدثون عن اقتراب موعدها.

الدراسات النفسية المتداولة في القطاع تشير إلى أن 15% من الأطفال يعانون مشاكل نفسية وسلوكية، وذلك نتيجة الظروف الاقتصادية والسياسية التي تعيشها غزة.

كوابيس ليلية وأفلام أكشن

وإلى الشمال من قطاع غزة، يعيش الطفل "منصور" على أنقاض بيتهم المقصوف في العدوان الأخير على غزة، فهو يقيم في غرفة واحدة مع جميع أفراد أسرته الكبيرة برفقة الحشرات والجرذان.

يعاني "منصور" تبولاً لا إرادياً وكوابيس ليلية، ويمارس هو الآخر عنفاً دائماً ضد إخوانه وأصدقائه، لكن أهله لم يعرضوه على طبيب نفسي، إلى أن تم اكتشاف حالته من قبل مؤسسات تُعنى بالطفل كانت تجري بحثاً ميدانياً عنهم بعد الحرب الأخيرة.

في بداية معالجة الطفل كانت هناك صعوبات في التواصل معه، كما كان أهله يطردون الباحثين رفضاً لفكرة أن يكون ابنهم مريضاً نفسياً.

حاول الباحثون التعامل مع مدرسة "منصور" بدلاً من بيته، فعلموا أنه بسبب الصدمات التي تلقاها بعد قصف بيتهم ومعيشته طيلة الحرب رفقة عائلته داخل مدارس الإيواء جعله كل ذلك غير قادر على النطق الصحيح، بل بدأ في التأتأة، ما جعله يعزف عن الكلام لتفادي السخرية منه.

أخبر الطفل معالجه بأنه لا يستطيع النوم خشية أن تعضّ الجرذان رجليه كما يحدث دوماً، هو أيضاً يكره البقاء في البيت بسبب أفلام الأكشن التي يدمنها شقيقه الذي يكبره بعام وتذكره بأجواء الحرب والموت، وعادة ما يتشاجر معه لمنعه دون فائدة.

لم يستطع "منصور" أن يكمل علاجه، فقد علم أهله بالتعاون بين مدرسته والباحثين النفسيين فمنعوهم من الاقتراب منه لأن ابنهم ليس "مختلاً عقلياً"، كما يقولون.

شيماء بنت حي الشجاعية ذات الثلاثة عشر عاماً هي حالة أخرى، اصطحبها والدها إلى مركز الصحة النفسية بغزة، لمعاناتها من اضطرابات سلوكية ونفسية، بسبب ما تعرضت له في الحرب الأخيرة على غزة حينما رحلت عائلتها من حيّهم الواقع شرقي القطاع ذات ليلة انهالت فيها الصواريخ عليهم حتى ملأت جثث القتلى المدنيين الشوارع.

يروي والدها أنه في ذات الليلة قُطع التيار الكهربائي بسبب القصف، وكان الناس يهرعون إلى سيارات الإسعاف للنجاة، لكنه فقد "شيماء"، وبقيت الفتاة تبحث عنهم وظنت أنهم قتلوا حتى وجدوها مع أحد جيرانهم في مستشفى الشفاء التي تحولت إلى ملجأ.

وبعد انتهاء الحرب لم تعد "شيماء" كما كانت فهي غير قادرة على النطق، وتدنى مستواها الدراسي كثيراً، وانتشر البهاق في وجهها لسبب غير مؤكد.

والدها رفض التقاط صورة لطفلته أو الحديث إليها، فلو عرف أحد أنها تخضع لعلاج نفسي لعيّرها أصحابها ولتراجعت حالتها التي بدأت في التحسّن بعد شهرين من المتابعة.

الطفلة "إسراء السموني" التي قتلت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عائلتها وبقيت دون والدين، تعرضت لموقف جعلها تجهش بالبكاء وذلك عندما وزعت مدرستها بطاقات معايدة على التلميذات ذات مرة وطلبت منهن كتابة معايدة لأمهاتهن.

السموني تذكرت والدتها التي ماتت في القصف وكانت تميل إلى عدم استدعاء مشهد موتها، وهي بصورة عامة تميل إلى الانطواء وعدم الحديث منذ فقدت أهلها.. مدرّستها احتوت الموقف واحتضنتها وطلبت منها كتابة معايدة لأفضل مدرساتها.

4 سنوات مرّت على مقتل والدي السموني، ولكن مستواها الدراسي لم يعد كما كان، وهي تجد صعوبة في الحفظ والانتباه، وتسأل معلمتها دائماً: "هل هناك حرب قادمة؟!".

يعيرونه لأنه "أعرج"

أطفال غزة يعانون ذات السلوكيات النفسية كالتبول اللاارادي والتأخر في الكلام والخوف الشديد من اقتراب عدوان جديد على غزة، إلا أن هناك أسباباً أخرى تجعل لديهم السلوكيات ذاتها كحكاية الطفل جمال نصر (11 عاماً)، فهو يعاني مشاكل في رجليه ولا يستطيع السير كبقية الأطفال.

لا يرغب الأطفال في اللعب مع جمال ويصفونه بـ"الأعرج" ويضربونه، فيعود لأمه التي تلومه لحرصه على اللعب معهم، فيقاطعها معلقاً: "بحب ألعب معهم، أتمنى لو كانت أرجلي مثلهم".

لم تعترض عائلة جمال حينما قرر ترك المدرسة، فوافقوا بذريعة تدني مستواه الدراسي، وتبوله اللاإرادي في المدرسة ما يثير اشمئزاز زملائه.

تقول والدته: "وجوده في البيت أمامي أفضل، بدلاً من الذهاب يومياً برفقته للمدرسة، فهذا يتعبني رغم أنني أفضل أن يكون مميزاً".

عائلة جمال تعيش في منطقة ذات مستوى تعليمي ومادي سيئ، وبالنسبة لهم فالرعاية النفسية لطفل معاق ليست أكبر أولوياتهم، فالبحث عن لقمة العيش الصعبة لا تدع وقتاً للحديث عن أشياء أخرى.

25 % من الأطفال يعانون مشاكل بالنطق

يصف أشرف أبوعنزة، مدير برنامج حماية الطفولة لحل النزاعات بغزة، الوضع النفسي للأطفال هناك بأنه سيئ بسبب الظروف الاقتصادية المتدهورة جراء الوضع السياسي المتأزم، فهم لا يحصلون على أدنى حقوقهم الأساسية.

ويوضح أنه وفق دراسة أعدها برنامج حماية الطفولة العام الماضي من خلال استهداف 2416 طفلاً من مختلف مناطق قطاع غزة، اكتشف أن 842 طفلاً يعانون مشاكل سلوكية كالعدوانية والتبول اللاإرادي ونتف الشعر وقضم الأظافر، و854 طفلاً يعانون مشاكل نفسية تظهر عليهم أعراض ما بعد الصدمة ومخاوف من الظلمة وشعور بالقلق والحزن.

ويشير أبوعنزة إلى أن المؤسسات المهتمة بالطفل تبذل جهوداً لوقاية الطفل كي لا يقع في أمراض مستقبلية، وذلك من خلال الدعم النفسي.

ويلفت إلى أن العدوان الأخير على غزة سبّب للأطفال مشاكل في النطق بنسبة ليست أقل من 25% لأعمار ما بين 4 إلى 11 عاماً، إلى جانب عدد كبير من الأطفال الذين يتلقون سوء معاملة من قبل ذويهم نتيجة الضغوط المعيشية.

وبحسب أبوعنزة، فإن تقديرات المؤسسات الدولية المعنية بصحة الطفل، فإن هناك ما يقارب 300 ألف طفل بقطاع غزة بحاجة إلى دعم نفسي، مشيراً إلى أن 10% منهم بحاجة لعلاج دعم نفسي فردي وخدمات عميقة وأدوية.

ومن خلال متابعة أبوعنزة، فإن أهالي الأطفال بعد العدوان الأخير على غزة أصبح لديهم وعي أكثر في عرض أطفالهم على مختصين نفسيين بخلاف الحروب السابقة، موضحاً أن تعاون الأهالي واحتضانهم لأبنائهم أتاحا الفرصة لمعالجتهم سريعاً.

تحميل المزيد