رحلة لا يمكن وصفها إلا برحلة العمر، تلك التي قضاها أحد السياح في مصر من مدينة الأقصر إلى أسوان، على متن قارب شراعي يبحر عكس التيار في نيل مصر، وبهدوء أيضاً، كما وثقتها صحيفة Financial Times البريطانية.
تستغرق هذه الرحلة ثلاث ساعات براً، أمَّا بالطريق النهري، عكس اتّجاه مجرى شريان مصر الأيقوني، فتستغرق الرحلة خمسة أيام. هذا ما يحدث على الأقل عندما تسافر على متن مراكب شراعية نيلية تقليدية، أو "دهبية" حسمبا تسمَّى، مع شركةٍ صغيرة تُدعَى نور النيل.
أسطول مكون من 4 قوارب فقط
يوصف إنريكي كانسينو، وهو مكسيكي مِن المُلَّاك المشتركين للقوارب الأربعة (قريباً تصبح خمسة) التي تشكِّل أسطول شركة نور النيل، بأنه مدافعٌ شغوفٌ عن أهمية خوض الرحلة الطويلة، إذ يؤمن -وهو محقٌّ تماماً- أنَّ الوقت هو مفتاح خوض تجربةٍ أصيلة لحياة النهر في النيل. ويسمي الظاهرة "انغماراً كاملاً"، وهو ما قد يكون وصفاً حرفياً، إذ إنَّه دائماً ميالٌ لأن يخلع ثيابه ويرتدي سروال سباحةٍ أسود أنيقاً، ويغطس في الماء. سوف نرجع لهذه النقطة فيما بعد.
استُخدِمَت الدهبيات -وهي قوارب نقل ركابٍ عميقة من الداخل وأشبه بالزوارق- على مدار آلافٍ الأعوام (إذ تُصوَّر مركباتٌ مشابهة في مقابر الفراعنة). قبل مجيء عصر البواخر وما ظهر بعده، أي السفن السياحية في يومنا الحالي، كانت الدهبية وسيلة نقلٍ معتادة للسائحين القدماء. يسرد السير جون غاردنر ويلكنسون في كتابه Handbook for Travellers in Egypt أي "كتيّب المرتحلين في مصر" الصادر عام 1847 ملحوظاتٍ مفصَّلة عن تأجير الدهبيات، وينصح قائلاً: "أوَّل ما يجب فعله بعد استئجار قاربٍ هو أن تُغرِقه في الماء، كي تتخلَّص من الفئران وغيرها، ممَّا قد يسكنه من مخلوقاتٍ ضارة"، بحسب الصحيفة البريطانية.
قوارب قديمة في حلة جديدة
اتَّضح أنَّ افتراضي بأنَّ قوارب نور النيل الأربعة -وهي أسوان، والنيل، وملوكة، ومروي- هي دهبياتٍ قديمة مجدَّدة في حلةٍ جديدة لبداياتٍ جديدة كان خاطئاً. فقد بُنِيَت الدهبيات من الصفر في الحقيقة تحت إشرافٍ شريك إنريكي، ممدوح سيد خليفة (وهو بحَّار وبنَّاء قوارب متمرّس)، باتّباع أساليب وتصميماتٍ قديمة، لكنها خضعت لتعديلاتٍ لتضمّ مقصوراتٍ داخلية للركاب وسطحاً علوياً فسيحاً يتعدَّى طوله ما يمليه التقليد. ومع ذلك، فإنَّ الحداثة -مِن لُطف الأقدار- لم تسمح بأن يحمل القارب محركاتٍ على متنه. وبدلاً من ذلك، يسحب المركبة زورق سحب في سكون النيل، وتحرّكها الرياح متى أمكن ذلك، من خلال الأشرعة البيضاء والحمراء الضخمة المنبسطة لاستقبال الريح.
وظَّفت الشريكة الأخرى، وهي مصممة الديكور الفرنسية إلينور كامير، أسلوبها الأنيق في المساحات الداخلية بالقوارب، إذ يتَّبع كلٌّ منها نمطاً مشابهاً من أرائك مقلَّمة، وأسرّةٍ نهارية، وأرجوحات على سطح القارب المفروش بالسجَّاد والوسائد، ومقصوراتٍ مكسوة بالبياض في الدور السفلي.
طابع الذهبيات ذو توجه بوهيمي
ومع ذلك، الغالب على طابع الذهبيات هو شعور قوي بالتوجُّه البوهيمي، ويُلحَظ ذلك متجسداً في إنريكي نفسه وهيئته المبهرجة، ذاك الذي يتقلَّد دور المدير بأريحيةٍ بارعة. التقيت به للمرة الأولى في إسنا، التي تقع على بعد نحو 30 ميلاً (48 كيلومتراً) جنوب الأقصر وتشتهر بمعبد خنوم المغمور في الماء، حيث رست الدهبيات الأربع جنباً إلى جنب. لا مقارنة بين بنطاله الجينز وقميصه المنقوش عندئذٍ والأزياء التي سيُبهرنا بها على مدار الأيام المقبلة. لم يُفصِح عن شخصيته الاستعراضية حينها سوى شعره الأسود الطويل المربوط أعلى رأسه، لكنَّ هذه كانت أيضاً اللحظة التي تجتمع فيها المجموعة الأسبوعية من ركَّاب دهبيات نور النيل للمرَّة الأولى، إذن كان مناسباً أن يُكبَح جماح المكسيكي المتمرد فيما يتعرَّف الضيوف على قواربهم ومقصوراتهم المحجوزة.
كان مكاني في قارب مروي ذي المقصورات العشر، وهو الأحدث في أسطول نور النيل والأنسَب تجهيزاً لاعتبارات المساحة والراحة، إذ تصغُر الدهبيات الثلاث الأخرى عنه حجماً بفارقٍ صغير، وصولاً إلى أصغرها أسوان، ذي الثماني مقصورات. بينما ينتقل إنريكي بخفة من سطح مركبٍ إلى آخر، في تحدٍّ رشيقٍ لسِنِّه التي جاوزت الستين عاماً، ينظر الضيوف بعضهم إلى بعض علماً أنَّهم سيعيشون في جوارٍ وثيق على مدار الأيام الخمسة المقبلة. كنتُ محظوظاً بجيراني الركَّاب، الذين كان من بينهم طالبان أستراليان متفوقان يقضيان إجازة لمدة سنة، ومهندس معماري مكسيكي وزوجته محرّرة الموضة، ومجموعة صغيرة من الفنَّانين وتجار الأعمال الفنية -أغلبهم أمريكيون- يسافرون مع عائلاتهم وأصدقائهم. كانت مجموعةً مميزة، وعلى ثقافةٍ عالية، ومتمرّسة في السفر، يجمعهم أنهم أوصاهم بتجربة دهبيات نور النيل أصدقاء ذوُو عقليات مشابهة.
رحلة بين البر والبحر
كان التواصل محدوداً بين قارب وآخر، مع أنَّا نُبحر معهم في شكل أسطولٍ صغير، والموكب المتمهِّل المُكون من أربع دهبياتٍ زاهية مُبسطَة الأشرعة تخترق صفحة النهر. إلى اليمين واليسار، يهب النيل متعةً وروعةً للنظر على الضفّتين، إذ تُرتسم أحياناً لوحات توراتية في وجود نبات عشب البرك، ورعوية أحياناً بجموع الحمير، والبط، والأبقار الراعية في الأرض. نتوقَّف بشكلٍ منتظم لنمشي على الأرض، يرشدنا دليلٌ عبر القرى المغبّرة حيث يسبح الأطفال ويرشون مياه النهر، ونمر عبر مزارع كثيفة من شجر المانجو والنخيل، وعبر حقول الأرز، والقمح، والقطن، والكتان المنتشرة في المنطقة. وعندما يتطلَّب الأمر خبرةً في المعالم ذات الأهمية الخاصة، يظهر عالم مصرياتٍ مدرَّب ليترجم لنا حروف الهيروغلفية المعقَّدة ويملأ رؤوسنا بحكايات الآلهة والفراعنة.
كانت إدفو، التي وصلناها في اليوم الثاني، أولى المحطَّات المهمة في الرحلة. هنا تكون عرباتٌ متهالكة تجرُّها الأحصنة، في انتظار قدومنا إلى رصيف الميناء كي تنقلنا بسرعةٍ متهوّرة وسط زحامٍ خانق إلى معبد حورس، الذي ربما يكون أفضل آثار مصر القديمة احتفاظاً بحالته القديمة. هنا أعداد السائحين ضئيلة، كما سأرى في الأقصر، حيث وجدت مقبرة نفرتاري المُحتَفى بها في وادي الملكات شبه مهجورة. قد تكون مصر الآن بصدد عملية إنعاشٍ بطيئة للسياحة، بعد اضطرابات الربيع العربي عام 2011 وما تلاه، ولكن ما زال شعورٌ مُلزِمٌ بتقلُّب أحوال البلاد يردع قدوم الحشود الزائرة. لهولاء المستعدّين للقدوم، ثمة مكافآت متعددة من التعرُّف على مصر القديمة، غير منزعجين بغيركم من حشودٍ محدّقة فظَّة. وبالطبع، في مدينة إدفو، شكَّل أي حصان وعربته خطراً مباشراً على الحياة أكثر بكثيرٍ من أي رجلٍ أو سلاح.
رحلة جديرة بالتذكرة
مضينا قدماً بعد إدفو، مُبحرين في الأشعَّة الذهبية لأوَّل المساء، إلى مكانٍ منعزل على ضفَّة النيل لنرسو فيه حتى الصباح. ففي وقتٍ كهذا، بينما تمرُّ السفن السياحية النهرية الكبيرة الصاخبة قاطعةً النهر بسرعة، ندرك حِكمة السفر على متن دهبية. ومثلما وعدنا إنريكي، نشعر بالفعل أنَّ الرحلة أكثر حميمية، وجديرةً بالتذكُّر، وأكثر واقعية، وفي الوقت الذي تتشكل فيه صداقاتٌ بيننا نتجمَّع حول طاولة طعامٍ مشتركة في أوقات الوجبات (وهي عادةٌ لا تُفرَض على مَن يفضّلون الأكل وحدهم) لنأكل طعاماً شهياً. وهو في الحقيقة ليس طعاماً راقياً، لكنَّه يتكوَّن من يخناتٍ وسلطاتٍ معدَّة طازجة من الطماطم والكوسة، ومعها الطحينة والفلافل بالإضافة للسمك النيلي في بعض المناسبات.
ما بين وقتٍ وآخر، يظهر إنريكي من العدم، في زيٍّ يتوافق مع اليوم ومزاجه الشخصي، على استعدادٍ لإثارة حديثٍ أو إثارة جدال، أو يمتّعنا بقصصٍ من مصر، أو يقودنا في تمشية. عند جبل السلسلة، وهي أضيق نقطةٍ في مجرى النيل، حيث يُمنَع رسو القوارب الكبيرة، اصطُحبنا في تمشيةٍ مسائية إلى ما وراء ضفاف النيل الخصبة نحو الصحراء الزاحفة، حيث المشهد الشبيه بسطح القمر، والمكون من رمالٍ وصخور، يمتد إلى الأفق الضبابي البعيد عن النظر.
وفي الصباح التالي، يظهر إنريكي في رداء بني حافي القدمين، وشعره ينساب في خصلاتٍ تطابق رداءه السارح، ليقود مجموعةً صغيرةً منَّا في طريقٍ طويل تجاه الجنوب بدايةً من معبد حورمحب. تصحبنا هذه الجولة مروراً بمحاجر الحجر الرملي المدهشة التي أمدَّت أحجاراً بُنِي بها العديد من أشهر معابد مصر، ومقابر وأضرحةٍ لملوكٍ وشخصياتٍ مرموقة أقل شأناً. الشمس حامية وطريق العودة طويل، لكنَّ حلَّ إنريكي كان بسيطاً: نسبح، تابعين نبيَّنا كقوارض اللاموس في النهر. المياه باردة، والتيَّار قويٌّ عنيف، فيما نندفع بسرعةٍ في طريق العودة إلى مروي، واثقين مع ذلك أنَّ سدّ أسوان الجبَّار قد حَبَس بالفعل كلّ التماسيح في بحيرة ناصر وراءه.
اليوم الأخير
نشهد لمحةً عمَّا أمكن أن يكون مصيرنا في اليوم الأخير في كوم أمبو، في المعهد البطلمي العظيم المكرَّس جزء منه للإله التمساح سوبيك، راعي الجيش المصري، ونصير الفراعنة، وإله القوة والجبروت. كان ذاك الموقع الأثري مثيراً للإعجاب بحق، ما زاد على ذلك هو أنَّه في السابق كان يتنافس 80 قارباً على إيجاد مكانٍ بالواجهة البحرية للمعبد كي تُطلِق سياحاً ومتفرّجين بالآلاف، ولكن حينئذ كانت دهبيات نور النيل الأربع هي الوحيدة على مد البصر. وفي المعرض خافت الضوء في متحف التمساح المجاور، تبرز أمامنا جثثٌ محنَّطة لأشدّ وحوش النيل فتكاً على مقربةٍ غير اعتيادية.
حينما أتى ليودعنا قبل الوصول إلى أسوان، كان إنريكي يرتدي ملابس قرصان في زي محتالٍ يبدو كما لو كان يجمع بين شخصيَّتي كابتن هوك وجاك سبارو. يأخذ لحظةً يحدّثنا فيها عن تفاصيل عامة حول دهبية نور النيل الجديدة، والتي تَقرَّر تدشينها في بداية الخريف المقبل. لم تُمنح اسماً بعد، لكنَّ القارب سيكون الأكبر بين الأسطول، بإجمالي مقصورات قد يصل إلى 24 مقصورة. يشعر إنريكي، ويأمل المرء أن يكون على صواب، أنَّ مصر تنشط من جديد، ما سيصاحبه ازديادٌ في الطلب على دهبيات شركته للاستخدام الحصري، وهو خيار رائج بالفعل، برغم أنَّ الحفلات الأكبر تتطلَّب قارباً أضخم. سوف ينطلق إنريكي مع إلينور (شريكته في الحياة كما في العمل) لتفقُّد تقدُّم القارب الجديد قبل أن يرحلا معاً لقضاء الصيف في فرنسا، قبل بداية الموسم الجديد في سبتمبر/أيلول.
يُكمل بقيتنا الرحلة طوفاً تحت النجوم متجهين إلى أسوان، حيث نفترق، فالبعض سيقضي وقتاً في المدينة، والبعض الآخر سيتَّجه إلى المعابد النوبية في أبو سمبل، وغيرهم يسرعون بالسفر براً إلى الأقصر لانغماسٍ أكثر في العالم القديم. أما أنا، فأسافر جواً إلى القاهرة مباشرةً، لأتفقَّد حال مدينةٍ كان اسمها "قاهرة" هو للأسف ذات وصفها منذ عهود طويلة؛ كي أُعيد التعرُّف على مساجدها وكنائسها، ومتاحفها، وأسواقها. بمجرَّد وصولي، يقع انفجارٍ أسفل حافلة سياحٍ قرب الأهرامات ولا يُصاب أحد لحسن الحظ، لكنَّه يظل تذكيراً بمدى هشاشة مصر. ومع ذلك، كانت تجربتي إيجابية وكانت الأيام الخمسة المتمهّلة على متن دهبية مروي شكلاً من أشكال الهروب النقي من الواقع، بعيداً عن الحشود والصخب، مبحرين برفقٍ فوق صفحة نهر النيل.