تأمُّلات مُنقذة (7): ماتيلدا أوفيلان

إنني في عرض البحر منذ شهر ونصف حتى الآن، ولم أتصل بعائلتي بعد. والآن، وبينما أتجه نحو اليابسة تاركةً "أكواريوس" في ميناء كاتانيا، أستطيع أن أسمع صوت أبي في أذني، كان يقول دائماً إنَّ وظيفة الصحفي هي أن يعرف كل شيء.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/30 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/30 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش

كانت ماتيلدا أوفيلان على متن سفينة "أكواريوس" (واحدة من 23 سفينة نُشرت للمساعدة على إنقاذ مهاجرين في المتوسط) لمدة 9 أسابيع، وهي فرنسية تعيش وتعمل في إيطاليا منذ أعوام عديدة.

كنت أعتقد أنني أعرف ما كان يحدث.

إنني في عرض البحر منذ شهر ونصف حتى الآن، ولم أتصل بعائلتي بعد. والآن، وبينما أتجه نحو اليابسة تاركةً "أكواريوس" في ميناء كاتانيا، أستطيع أن أسمع صوت أبي في أذني، كان يقول دائماً إنَّ وظيفة الصحفي هي أن يعرف كل شيء.

لقد عملت صحفيةً في إيطاليا لمدة عشر سنوات، وحتى وقت قريب كنت أعتقد أنني أعرف ما كان يدور في البحر الأبيض المتوسط. لمدة عشر سنوات كنت أُنتج تقارير لوسائل إعلام عالمية عن وصول المهاجرين واللاجئين إلى الشواطئ الإيطالية، وعن المآسي التي يأتون بها، والتي تتصدَّر عناوين الصحف. المأساة الجارية في المتوسط ​​لم تعُد حدثاً جديداً، وقد كان الحال هو نفسه عندما جئت إلى إيطاليا قبل عشر سنوات.

لكن كارثة "لامبيدوزا" (غرق عبارة تُقِل لاجئين قبالة جزيرة لامبيدوزا) يوم 3 أكتوبر/تشرين الأول 2013، والتي أدت إلى مقتل وإصابة 400 شخص، كانت نقطة تحوُّل. فالرعب كان يحدث أمامنا مباشرةً على الساحل الأوروبي، ولم تعُد بعيداً في أعالي البحار بعيداً عن الكاميرات والمصورين. وكانت الأشهر القليلة التي تَلَت دليلاً على عجز أوروبا؛ فقد حاولت الحكومات تفادي اللوم، وحُرِمت إيطاليا الدعم في عملية الإنقاذ التي قامت بها (ماري نوسترم).

ثم كانت هناك كارثة أكبر في الربيع الماضي. كابوس حقيقي حين أُحضِر حطام القارب الذي كان قد انقلب أمام السواحل الليبية في أبريل/نيسان 2015 إلى ميناء أوغستا، تمَّ انتشال أكثر من 700 جثة.

لذلك، وقبل أن أصعد على متن "أكواريوس" في 15 أكتوبر/تشرين الأول، باعتباري موظفة اتصال بمؤسسة SOS MEDITERRANÉE، كنت أعتقد أنني أعرف ما كان يحدث، ولكن بحلول أول عملية إنقاذ أدركت أنني لم يكن لديَّ أي فكرة عمَّا يحدث في الحقيقة. أدركت أن لا أحد يستطيع أن يتصور حقاً ما يحدث هنا. أمام ليبيا أو أمام الحدود الأوروبية. إن الأشخاص الوحيدين الذين يعرفون حقاً ما يحدث هم الذين يرونه بأعينهم إنهم اللاجئون، وفرق الإنقاذ من SOS MEDITERRANÉE، وأعضاء منظمة "أطباء بلا حدود" المسؤولون عن الرعاية الطبية على السفينة، وطاقم "أكواريوس"، والصحفيون الذين هم على متن السفينة.

كل عملية إنقاذ تُمثل صدمة لا تدع مجالاً لأحدٍ للشعور بعدم الاكتراث، هذه التجارب لا يمكن صياغتها في كلمات، اللحظة التي نرى فيها قارباً مطاطياً في الأفق، الناس الذين تتعالى صرخاتهم وينجرفون في الماء، والأطفال الباكين الذين نُحضرهم على متن السفينة، وروائح الجسم اللاذعة، ورائحة البنزين، والتجارب المؤلمة في ليبيا، والاغتصاب، والتعذيب. إنَّ من المستحيل وصف الأجساد التي نحاول يائسين إعادتها إلى الحياة، الذين يموتون بين أيدينا، ونُسلمهم إلى الراحة في حقائب أجساد الموتى، إنَّه من المستحيل وصف ألم رفاقهم الذين تطاردهم الصور الرهيبة لما حدث، من المستحيل وصف دموع رجل يتشبث بقطعة من القماش أعطتها أمه له، أو صراخ صبي يبلغ من العمر 10 أعوام في الليل وهو يسافر وحده.

ولكن هذه هي مهمتي، وهي إحدى مهام SOS MEDITERRANÉE؛ يجب علينا نقل ما يحدث هنا، علينا أن نجد الكلمات لوصف وشرح ما يحدث. علينا أن نوضح لماذا لا يُمكن للناس أن يكونوا غير مبالين أو غير مهتمين؟ لماذا علينا أن نفعل شيئاً؟ لماذا نحن مذنبون إذا سمحنا بمرور بتدابير سياسية معينة مثل التي تجري مناقشتها على المستوى الأوروبي؟

يقول أمير من غينيا بعد إنقاذه بيومٍ واحد: "يجب أن تنقل وسائل الإعلام ما يحدث حتى يتغير أي شيء". يروي لي عن العنف غير المفهوم الذي تعرَّض له في رحلته، وخاصة في ليبيا. قصة أمير وقصص أكثر من 10 آلاف شخص حملناهم على متن السفينة منذ فبراير/شباط تطاردنا لعدة أيام، لعدة أسابيع. لم نعد نستطيع أن نقول إنَّها لا تعنينا.

كنت أعتقد أنني أعرف ما كان يحدث، لم أكن أعرف شيئاً، لديَّ مهمة واحدة قبل أن أعود إلى "أكواريوس" في يناير/كانون الثاني، أن أشهد بما رأيت، وأن أنشر المعلومات حتَّى يسمع مواطنو أوروبا بما يحدث أمام أبوابهم، أمام حدود الإنسانية.

– هذا الموضوع مترجم عن موقع SOS MEDITERRANÉE؛ للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد