بعدنا مَن يقصد الكروم؟!.. تجربتي مع أسعد طه

قال المعلم الكبير: سنبدأ بالتعرف على المتدربين، بعد أن عرّفنا في المساء على فريقه الذي اختاره في هذا المخيم.. لنبدأ التدريب على كيف تحكي الحكاية: الآن كل منكم يا معشر المتدربين سوف يعرف عن نفسه بأن يحكي حكايته بثلاث دقائق، وكان للحبيب الأستاذ معاوية أن يختار الترتيب، فاختارني أول المتحدثين

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/28 الساعة 01:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/28 الساعة 01:53 بتوقيت غرينتش

من وحي مخيم "كيف تحكي الحكاية" مع أسعد طه

طواحين تسع أقتربُ منها وتقترب منّي، وخيالات دون كيشوت لا تكاد تفارق ذهني، وأنا القادم من بلدي الذي يقاتل الوحوش البشرية لأقاتل طوَّاحين دون كيشوت؛ بل وأتفرس في عيون مجموعة من الحالمين تجمعني معهم حافلة لأول مرة، كلهم مثلي يترقَّبون وصولهم إلى الحالم الكبير.
ياااه عاد الدون كيشوت ليتساءل: هل كلهم مثلي خرجوا من الحرب كي يصارعوا الإلهام؟ دعني أتفرس في وجوههم، وأنا مَن أتقنَ معاني الوجوه والألسن، لم يسعفني الوقت أبداً، وأنا في طريقي أقطع الحدود والمسافات؛ كي أقرأ التعريف عن مكان المخيّم سوى موقع أرسله لي حبيب من بلد النيلَين، اسمه على اسم حاكم عاصمتي، عاصمة الياسمين.. نعم إنه معاوية.

اسم القرية "دكوز ديرمن"، وتعني بالتركية الطواحين التسع، عرفت معناها والحافلة تتهادى بنا، وهي تقترب من موطن دون كيشوت، وأخالها تبتعد عن شرودي وتفرُّسي بثلة الحالمين، وأول ما وقع نظري على كتاب داغستان بلدي بيد شاب بعيون قوقازية عمره بعمري عندما قرأت لرسول حمزاتوف.. هذا أول الحالمين، انطباع جيد بل متقدم لتلميذ يقطع المسافات؛ ليتعلم ويثني الركب لدى الحالم الكبير.

أتفرَّس في الوجوه مرة أخرى، وأسترق السمع تارةً وأسرح تارةً، وفجأة تطرق سمعي لهجة ألِفتها، استدرت يميناً وسألتها: أسورية أنتِ يا ابنةَ البلد؟ تبسَّمت ببراءة، وقالت: طبعاً من اللاذقية. قلت: أهلاً وسهلاً، أنا من حلب. أجابت بعفوية: أمي من حلب، وما هي إلا جملتان أو ثلاث حتى تعارفنا حتى الجد السادس عشر كشأن أغلب بني قومي.

عدت إلى شرودي في باقي الزملاء.. البنات من أُم الدنيا واضح من لهجتهن وشرودهن أحياناً كشأن المصريين في تركيا.. قطع عليَّ شرودي في حالنا نحن عرب الربيع في تركيا قيام قامة حجبت نور نوافذ الحافلة إنه (ديميس روسز) عاد شاباً أعادني مرة أخرى لذكريات الثمانينات، لكنه تكلَّم بلهجة تونسية أعادتني لواقع أُم الربيع نعم.. إنه عمر البشير، ليس حاكم النيلَين طبعاً.. هو من فريق إدارة المخيم.

عدت لتأمُّلي.. كل شيء في هذه الرحلة يعصف بي أعواماً وتواريخَ، وكل شيء في هذه الرحلة يسبح في فلك الملهِم الكبير بنقاطه الساخنة وحكاياته التي تجمع التاريخ والجغرافيا في حدقة تقاوم رماحاً لا مخرزاً وحسب.

أخيراً ها نحن قد وصلنا، نعم إنه الملهم الكبير أسعد طه، ها هو أمامك متن نص أنت حاشية عليه.. التقيت به قبل شهر، يشعرك أنك تعرفه منذ سنين، إنه في استقبالنا كجنرال أو ربَّان سفينة يستعجل فريقه ليبحر فينا أو كقائد يعد كتيبته للمعركة في عيونه حزن يختصر حزن السويس والبوسنة، لكنه حزنٌ ليس ككل الحزن.. حزن منتصر، وأول انتصار هو هذا المكان الساحر وفريق السفينة الذي معه.

دقائق على الاستقبال الحنون، وصعدنا إلى عرزال، كلّ منّا، إنه العرزال الذي في سفحنا يرف سحيّ الغصون كما غنَّت فيروز تماماً.. بعدنا من يقصد الكروم؟!

قلت لكم كل شيء في هذه الرحلة مفعم بالمعاني؛ بل والذكريات، كيف لا ونحن نتعلم كيف نحكي الحكاية؟! نزلنا من أكواخنا بسرعة لدرجة أنني لم أتعرف على شريكي في الكوخ العرزالي جهاد ابن بلدي، سوى أنه من الزبداني، بلد التفاح وبردى (آه على بردى).. ها هو النهر أمامنا نحن على ضفَّته، لكنه يتدفق كبردى منذ ثلاثين عاماً، إنه نهر (بيوك ميلين)، وتعني المشاجرة الكبرى.. آه عدنا إلى الحرب ودون كيشوت أيضاً: طواحين تسع ونهر يصارعه المجدّفون من كل حدب وصوب، فالقوم كلهم محاربون على طريقة الدون كيشوت.. منتجع طاهورة وقريته الطواحين التسع ونهره؛ بل وصاحبه (امرح) هو الدون كيشوت بذاته تعرفه من الجديلتين المتدليتين من طرف لحيته، ها هو مصارع الطواحين إذاً.

وعلى عزف الكمان ومزامير القِرب التي أشعرتني بأنني في اسكتلندا (ويليام والس)، ذلك الشمالي الثائر الحر، ولم يعدني إلى تركيا سوى الدبكة وثياب الراقصين الخالية من التنانير وضحكات صديقي الحمصي عبد الرحمن، كل هذا الدفق أشعرني بالخدر بل بالدهشة.. هل يعقل أن تصل الاحترافية عند هذا الملهم المعلم إلى أن يعلمنا صناعة الأفلام الوثائقية في هذا المكان وأن يحشد كل هذه القصص في وجداني في ساعات؟!! لِم لا وهو من ألهمني لسنوات كانت كفيلة بشيب شعري وشعره؟.

في الليل وفي عرزالي المعلق في السفح بين أشجار البندق حزمت أمري على أنني سأنهل من بحر، وعدت لحنيني القديم، هاتفت ملهمتي وملهميَّ الصغار فقد لدغني شوقهم هذا المساء، وكأني لم أرَهم منذ عشرين عاماً بدل العشرين ساعة!! كيف لا وكل هذا الشجن استحضرني في سويعات؟.. نمت على دردشتي مع جهاد، وأنا أقرأ عن شعب البحر الأسود، وقلبي وفكري معلق في بلدي الذي لا يفارقنا على أمل أن نقبس ناراً تؤنس كرومنا.. فبعدنا مَن يقصد الكروم؟!

بعد نوم عميق لم أحرزه منذ سنين استيقظنا لصلاة الفجر دون منبهات، إنها السادسة والنصف، ولم تطلع الشمس بعد إذ نحن في الشمال.. حديث قصير، وتأملات كثيرة، وترقب لصعود الشمس فوق أغصان البندق، نزلنا من سفحنا مع التراخي، فوجئت بالأستاذ أسعد ينتظرنا على الفطور ويقول: أهلاً أستاذ إياد.. متأخر خمس دقائق، تذكيراً فقط بأنه ربان دقيق ضليع.

تناولنا فطورنا بعجالة، فالقهوة والنهر والسجائر تلحّ عليَّ بشدة، أيضاً الشمس التي ننتظرها لتدفئة عظامنا ولنبدأ العمل في الثامنة.
جلسنا جميعاً على كراسيّ مصفوفة على العشب على ضفة النهر بطريقة الصندوق المفتوح، وبعد ذلك بدأ التدريب.

قال المعلم الكبير: سنبدأ بالتعرف على المتدربين، بعد أن عرّفنا في المساء على فريقه الذي اختاره في هذا المخيم.. لنبدأ التدريب على كيف تحكي الحكاية: الآن كل منكم يا معشر المتدربين سوف يعرف عن نفسه بأن يحكي حكايته بثلاث دقائق، وكان للحبيب الأستاذ معاوية أن يختار الترتيب، فاختارني أول المتحدثين، قمت وكلي ثقة فقد اعتدت الإلقاء واشتهرت بأنني حكَّاء، لكن ما هي إلا خطوات واقتحمني تردد لم أعرفه من قبل، فلا بد أن أحكي حكايتي هذه المرة، لكني شعرت بضيق الوقت، فلديّ الكثير ابتدأت باسمي وببلدي وعمري وتعليمي وعائلتي،

وأطلقت العنان لذاكرتي المتشظية مع ابني عزام والتواريخ المفصلية، لم أستطِع أن أكمل بدون ذكر مدينتي حلب مالئة الدنيا وشاغلة الناس، ومسقط رأسي مدينة الطبقة على ضفة الفرات التي تمثل سوريا المصغرة مع كثير من التلعثم للاختصار، وفعلاً انتهت الدقائق الثلاث، وعدت إلى مقعدي محبطاً؛ لأنني لم أكمل ولم أستطِع اختزال مفاصل حكايتي، لكن عدت إلى تفرُّسي في شركائي الحالمين، كان بعدي باسل ابن تعز، شقيقة حلب، كما رواها باقتدار.

عدت لمراجعة تفرّسي وقراءة الوجوه واحداً واحداً لم أعد أذكر الترتيب لكن انسابت حكاياتهم، كنت أركز على الأسماء والحكايات وأي قصة تصلح أن تكون فيلماً، لا أخفي أنني مشغول بالسوريين، لكن لا أنسى إبداع عقبة ابن بلدي في حديثه عن حكايته، مع أنه أصغرنا سناً، لم أستغرب فهو صاحب داغستان بلدي.. 19 ربيعاً مفعماً بالحيوية والتوثُّب، تلاه عتبة الذي لا يكبره بكثير، وحكايته عن استبداله البندقية بسلاح الكاميرا، بعد نصيحة ثالثهم عبد الرحمن، لن أنسى جملة عتبة بأن "تأثير شاترات الكاميرا أشد وقعاً من طلقات البندقية".. تأملت فيهم ربيع شباب بلدي مع كثير من الرضا والطمأنينة على مستقبل ثورتنا وأثرها في أجيال قادمة.

لم تخِب ظني في يارا بحكايتها المليئة بالرموز والغرائب والحزن والثورة، لكنها أوصلت قصتها وعبَّرت على الأقل بالنسبة لي عن حكاية وطني المؤلمة.

مع البنت الفلاحة دعاء هكذا ابتدأت تعريفها عن نفسها باقتدار مع كثير من البهجة التي تشع منها رغم الشجن والحزن الدفينين في حكايتها، لن تنسى همومها وتحديها للحياة، رغم أن الوقت لم يسعِفها أن تكمل فهي تنهل من بحر الفلاحين.

انبرى بعدها أحد المُعاذَين؛ أحدهما من المغرب من أغادير أذهلني بوضوح لغته العربية الفصحى مع اللكنة المغاربية المحببة، ثم معاذ الآخر التونسي الحبيب الخجول، لكن لمعة الذكاء تقدح من نظارته.. محمود ابن النيل يكاد قلبه يتفطّر على فراق مِصرِه.

ريم انبرت متحدثة بتعدد تجاربها ومشاربها، لكنها تلعثمت لكتم البوح في حكايتها، لكنها أبلغتنا التحدي في مشوارها.. تلتها نشوى ببساطة بليغة وبلسان مصري بديع في حديثها الداخلي، وعن المشاركة في المخيم والسفر ووالدتها وحتى والدها المرحوم كان حاضراً في حكايتها، كيف لا وكل فتاة بأبيها معجبة؟! أما مريم فقد انتهت حكايتها مع صوتها الخافت، ووجهها الخجول، لكنها توحي لك بأن وراء الأكمة ما وراءها.

أما جهاد فقد روى حكايته باقتدار، وكأنه يقود سيارته التي اعتاد، وأشعلت عنده موهبة التصوير والشغف، فأتى إلى المخيم؛ كي يكمل هذا المشوار.

إيهاب البغدادي المهموم حدَّثنا عن نفسه بجفنين كسيرين صامتين، ذكّرنا بصوته بصلف العراق الجريح والمثقل، طبعاً لا أنسى عبد الرحمن ووجهه الحمصي البسّام، وحديثه عن رحلته في الثورة من عاصمتها حمص إلى قصة حبه مع يارا.. إلى إسطنبول ذات القارتين.

مع سلمى عدنا إلى حلب مالئة الدنيا وشاغلة الناس، سلمى الفتاة المصرية التي تزور حلب لأيام وتحت القصف؛ كي تصنع فيلماً! ألم أقُل لكم إنهم مجموعة فريدة من الحالمين.

هذه أولى حكايات الكروم.. وبعدنا مَن يقصد الكروم؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد