على قارعة الطريق الوطني رقم 05 الذي يربط شرق الجزائر بعاصمتها، وبالضبط بقرية السمارة مدخل المدينة التجارية الأولى وطنياً "العلمة"، ينصب الصديقان أسامة رحايبي، وعبد المنعم جنان 15 عاماً، برميلاً حديدياً يتوقد ناراً وجمراً، بغرض إمتاع الزبائن بلذة الذرة المشوية، التي تعد مسترزقهم للموسم الدراسي.
وعلى نفس الطريق يصطف العشرات من الأطفال والشباب، تحت أشعة الشمس الحارقة، لا سيما في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب من كل سنة لبيع الذرة المشوية على الجمر، لكسب دنانير الدخول المدرسي.
ذكريات الجمر
تفتتح المدارس الجزائرية يوم 06 سبتمبر/أيلول 2017 أبوابها لأكثر من تسعة ملايين تلميذ، من بينهم عبد المنعم وأسامة اللذان استطاعا اقتناء أدوات وملابس الدراسة بعائدات الذرة المشوية.
وإذا كان المحظوظون من أبناء العائلات الميسورة الحال في الجزائر، قد احتفظوا بذكريات ساحرة على شواطئ البحر، ومختلف الأماكن السياحية داخل وخارج الوطن إبان عطلتهم الصيفية، فان أقرانهم من العائلات الفقيرة احتفظوا بذكريات يتمنون نسيانها عاجلاً.
عبد المنعم جنان ذو الـ15 ربيعاً، أخ لبنتين وولد، ظروف والده الصحية جعلته ينزل للطريق، لبيع الذرة، وتوفير مصاريف الدخول المدرسي له ولإخوته، خاصة وأن الدخول المدرسي هذا العام جاء موازاة مع مصاريف عيد الأضحى المبارك.
عبد المنعم يصرح لعربي بوست: "منذ أربع سنوات أقضي العطلة في بيع الذرة، لأعيل عائلتي، ولأضمن دخولاً مدرسياً بمستلزماته، باعتباري أدرس في المتوسط، ولي أختان بالمرحلة الابتدائية".
ويردف "أبي مصاب بحساسية مفرطة تجاه الغبا، ولا يعرف مهنة سوى مساعد بناء، نادراً ما يعمل، وبالتالي أصبحت ملزماً بمساعدته، ذكرياتي الصيفية دائماً نار وجمر".
السؤال المحرج
أسامة رحايبي اختار أن يرافق صديقه عبد المنعم في هذه المهنة المؤقتة، كما يرافقه كل يوم إلى المدرسة، ويجالسه في نفس الطاولة باعتبارهما يدرسان معاً بمتوسطة "بازر سكرة".
وبنبرة امتزجت فيها حرارة الشمس بلهيب النار المشتعلة فوق ذلك البرميل الحديدي، تحدث إلى الهاف بوست قائلاً "نلتقي كل صباح، نبحث عن الحطب لنوقد النار، قبل الدخول في مرحلة شواء الذرة واستقبال الزبائن، وعادة ما يبدأ ذلك في العاشرة صباحاً".
أسامة كل سنة يحرج من سؤال يطرحه عليهم الأساتذة: أين قضيتم العطلة؟ "أتصبب عرقاً من هذا السؤال، لأني في الواقع كل عطلتي تقريباً تكون على قارعة الطريق، وبين أكوام الذرة ولهيب النار، لأضمن مصاريف الدراسة ولأساعد والدي الذي يعيل عائلة من 12 فرداً".
دنانير الأمل
يتفق بائعو الذرة المشوية على مستوى الطريق السالف ذكره، بما فيهم عبد المنعم وأسامة، على توحيد ثمن ما يبيعون، من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الزبائن.
وفي هذه النقطة يقول عبد المنعم جنان "ارتفع سعر الذرة هذا العام بسبب نقص الأمطار الموسمية، والجفاف الذي ضرب المنطقة، ما أدى إلى جفاف عدد كبير من الآبار التي كانت تسقي هذا المنتوج".
وأردف "استقرت حبة الذرة المشوية هذا العام عند 50 ديناراً جزائرياً (3.2 دولار)، كما نقوم أحياناً ببيع الذرة وهي غير مشوية، بسعر 40 ديناراً جزائرياً للحبة الواحدة (2.8 دولار)"
ويعتمد هؤلاء على ما تجود به أراضيهم من حبات الذرة، لكن يرغمون في بعض الأحيان على اقتنائها من التجار الذين وجدوا ضالتهم بهذه الطرق لبيع حبات الذرة الطازجة، يضيف عبد المنعم.
أما أسامة رحايبي فتوقف عند تحصيل اليوم الواحد من العمل، والذي يتراوح بين 1000 إلى 2000 دينار جزائري في اليوم (بين 9 و18 دولاراً) "نتعب كثيراً، ولا نتحصل على أموال كبيرة، لكننا على العموم نضمن مواصلة الدراسة، بشراء الأدوات والملابس، وحقوق النقل".
ظاهرة وطنية
لم يعد مشهد بيع الذرة المشوية مقتصراً على ولاية، أو بلدية في الجزائر، بل امتد ليشمل جميع المناطق، حتى في قلب المدن الكبرى.
فقد أظهر تقرير مصور لقناة النهار في الجزائر، عدداً من أطفال ولاية المسيلة 350 كلم جنوب شرق العاصمة، وهم يقومون ببيع الذرة المشوية وسط درجات حرارة مرتفعة للغاية، وهدفهم الأول حسب التصريحات الواردة في ذات الفيديو، هو تأمين مصاريف الدخول المدرسي، من أدوات وملابس.
المنحة هي السبب
تقوم الحكومة الجزائرية بتقديم منحة التمدرس الخاصة بأبناء العائلات الفقيرة والمعوزة، وكذا التلاميذ اليتامى والمعاقين، وتبلغ هذه المنحة 3000 دينار جزائري (23 دولاراً) .
ضعف هذه المنحة في نظر الحقوقي والمحامي مصطفى بوشاشي، كان سبباً في ارتفاع عمالة الأطفال في الجزائر صيفاً، خاصة في تجارة الذرة المشوية "أسعار الأدوات المدرسية المرتفعة في الجزائر، تجعل هذه المنحة لا تكفي حتى لشراء محفظة ومئزر، وقد طالبنا أكثر من مرة برفع هذه المنحة ولو إلى الضعف، لكن ذلك ما لم يحدث رغم حديث الحكومة سابقاً عن اقتراح لرفع المنحة إلى 7000 دينار جزائري (54 دولاراً).
بوشاشي يعتبر أن ظاهرة بيع الأطفال المتمدرسين الذرة لتأمين مصاريف دخولهم الاجتماعي تفاقمت بشكل كبير، وعلى الدولة في نظره أن تتدخل لإنقاذهم، وتضمن لهم استقراراً تعليمياً "التقارير الواردة في هذا الشأن تفيد باعتماد ما يزيد عن 20 % من الطلاب على المهن المؤقتة خلال الصيف لتأمين مصاريف الدخول المدرسي".
وتعد تجارة الذرة المشوية في نظر بوشاشي من بين هذه المهن التي يلجأ إليها الطلاب في الأطوار الثلاثة، ابتدائي، متوسط وثانوي، خاصة في الولايات الساحلية والداخلية للبلاد.
ورغم أن القانون الجزائري بحسب بوشاشي، يحارب مثل هذه الظواهر التي تندرج في إطار عمالة الأطفال لحمايتهم باعتبارهم معرضين في الغالب للاختطاف والاغتصاب، وحوادث الطرقات، إلا أنها ما زالت تتمدد بسبب تساهل أولياء الأمور "أغلب هؤلاء قصر، ويمتهنون هذه المهنة المؤقتة على حافات الطرقات، ونحن نعلم جيداً ما يحمله الطريق من أخطار، فإن لم تكن هذه الأخطار اختطافاً أو اغتصاباً، فالخطر الأقرب هو حوادث السير والطرقات".
إلى جانب المخاطر فإن هؤلاء الأطفال معرضون أيضاً لمشاكل صحية حسب لهلالي موفق، الطبيب المختص في الإنعاش في تصريحه لعربي بوست "الطفل عندما يكون صغيراً يكون عرضة لضربات الشمس الحارقة صيفاً، كما أن تعرضه للدخان المنبعث من الحطب أو مختلف المواد الأخرى يؤثر سلباً على صحته، دون نسيان -طبعاً- أخطار الحروق".