كيف يرتقي المُعلمون الفلسطينيون بطلابهم..تعرف على تجربتهم

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/28 الساعة 02:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/28 الساعة 02:12 بتوقيت غرينتش

جاءت والدة الطالب "ب. ر" لمعلمتِه في أحد الأيام، والدنيا لا تسعها فرحاً، قائلة: "في إحدى حفلاتنا العائلية أخذ أحد الأطفال من ابني علبةَ العصير، فقرّر أن يضربَ الفاعِل، وفي اللحظة الأخيرة قبل أن يفعلَ، قال لي: مِس حنان علمتني أن أعدّ للعشرة وأن أتحكم بنفسي قبل أن أتصرَّف، وأنا سيطرت على نفسي ولم أضربه، بل قلت له: لو طلبتها مني لأعطيتك إياها".

معلمة الفصل للمرحلة الأساسية حنان حامد الحروب (40 عاماً)، من مدينة بيت لحم الفلسطينية، هي تلك المعلمة التي شعرت بعظم المسؤولية على عاتقها حين شاهدت مدى عنف طالبها "ب. ر" الذي لم يفرّق بين زميلٍ ومُعلّم، والتي طبَّقت معه منهجها التعليمي الذي يحمل شعار "نلعب ونتعلَّم" لتحصد أفضل النتائج.

تقول الحروب لـ"عربي بوست": "ذلك الطالب الذي كنت أخاف من ترك زملائه الطلاب وحدهم فترة الاستراحة تحسباً لاعتدائه عليهم، تغيّر بعد 4 شهور من دخوله فصلي، لم أعد أسجّل له أي حالة عنف، بل وانتقل نقلةً نوعيةً سلوكية، ونقلةً في التحصيل العلمي".

وكانت أول خطوة اتبعتها الحروب أنْ نبشت ماضي ذلك الطالب، لتكتشف أن طريقَ طفولتِه خُطّ بممارسة أبشع أشكال العنف والاعتداءات، وبناءً على تلك المعلومات سارت لعلاجِه واستخدمت طريق "اللعب التعليمي" الذي يتناسب مع حالتِه، وشاركت معه الآخرين ليرتفع ذلك الذي أطلقوا عليه لقب "المجرم" من مستوى "D" إلى "B+".

طريقة محببة للطفل

وتقول الحروب عن برنامجها التعليمي إنه "عبارة عن استراتيجيات تربوية حديثة تُشكَّل وفق خصوصية الطالب والبيئة والظروف التي يعيشها، وبما أن اللعب سمة مرحلة الطفولة فقد قدمت له تعليماً بطريقة محبّبة لقلبه، فصمّمتُ ألعاباً جماعية وفردية لتحقيق أهداف أخلاقية سلوكية وتربوية وتعليمية".

وتضيف: "أجلس مع كل طالب على حِدة، وأتواصل مع أولياء الأمور لِأُلمّ بكل ظروف الطالب ومشاكله، وبذلك أحدد أين وكيف سيكون دوري، فأطفالنا محرومون من أدنى حقوقهم في فلسطين، فما البال إن كانت لديهم مشكلات أخرى؟!".

ومن ثم تُقرِّر الحروب في منهجِها أن تُدخِل الفرح في قلوب أولئك الطلبة، وتشعرهم بالاهتمام، وتصل معهم إلى لغةٍ مشتركة لبناء جسور الثقة والاحترام فيما بينهم، وتؤكّد: "هناك دورٌ لكل طالب من طلابي من خلال منهج (نلعب ونتعلم)".

وكانت الحروب قد غيّرت تخصصها من الأحياء إلى تعليم المرحلة الأساسية بعد أن تعرض أطفالُها ذات يومٍ لحادث إطلاق نارٍ كثيفٍ من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي سبب لهم صدمة نفسية منع أي مدرسةٍ من تفهم حالتهم، في حين لم يتوافر مختصون للتعامل مع الحالات الناتجة عن العنف، لكن الأسرة تعاملت مع أطفالها بعمقٍ واستطاعت معالجتهم حتى تمكنوا من تخطي الأزمة.

هذه الحادثة غيرت مجرى حياتها لتقطع عهداً على نفسِها بأن تكون المربية والمعلمةً الحقيقية للأطفال.
وصنفت الحروب مع معلمين فلسطينيين اثنين من أفضل 50 معلماً متميزاً في العالم، لتثبت بذلك أن اتخاذها قرار مهنة التدريس كان الأفضل في حياتها.

المُعلّمة الرَّحالة

المُعلّمة سلوى محمد مطير (29 عاماً) تُدرّس اللغة الإنكليزية، دارَت بين العديد من المدارس الفلسطينية في قطاع غزة، بأنواعها المختلفة ومراحلها وأجناسها، كونها تعمل بعقدٍ يوميّ، الأمر الذي شكّل لديها خبرةً واسعةً في التعامل مع الطلبة على اختلافهم واختلاف ظروفهم، لتخلص بكلمةٍ مفادُها أن الشرط الأول لدخول الشخص حقل التعليم أن يكون "إنساناً" بكل ما تحمله الكلمةُ من معانٍ أخلاقية سامية، وإلا فإنه سيشكل عبئاً على الطالب ومستقبلِه وعلى العملية التعليمية برمّتها.

وتضع مطير لنفسِها منهجاً تعليمياً شعاره "الإنسانية والضمير"، والذي ينبثق منه – حسب قولها لـ"عربي بوست" – مئات الأساليب التي تُغني عن العقاب، وتؤدي لأفضل النتائج التعليمية والنفسية على الإطلاق.

توجيه طاقته

ومن تلك الأساليب التي جرّبتها تقول مطير: "توجيه طاقة الطالب، فالطفل السّويّ ينبوعٌ فياضٌ بالطاقة ولن يهدأ ما لم توجّهها للاتجاه الصحيح، فهو ليس جندياً مُدرَّباً، إنما يتعامل بفطرته وسجيته، وبالمقابل فإنه ليس بالضرورة أن يبقى طالبك صامتاً هادئاً؛ لأنك ببساطة لن تكون قادراً على توجيه طاقته في كل دقيقة، وهو أيضاً لن يخرج عن طبيعته ليكون كما أنت تريده "هادئاً" في كل دقيقة، فعليك أن تصبر على إزعاجاته وضجّته في أحيان كثيرة".

إشراك الجميع

"اللعب التعليمي" أسلوب مهم للغاية، حيث تقول مطير: "في فصلي الكلّ يشارك، فحين أعلمهم مثلاً أسماء الألوان بالإنكليزية، فإني أوزع الألوان جميعها على كل الطلبة، وحين يسمع الطالب صوت اسم لونه يخرج ليرينا إياه، وبانتهاء مناداتي لأسماء الألوان يكون الجميع شارك في اللعبة التعليمية".

حتى في الإذاعة المدرسية، لابد من مشاركة الجميع، وتوضح: "هناك من الأطفال من يحلمون بالوقوف على المنصّة المدرسية وإلقاء كلمة، لكنهم لا يجرؤون على البوح بذلك، وهنا يأتي دور المُعلّم، ليشرك كل الطلبة، فالخجول أشرِكه في أنشودة جماعية فإن أخطأ لن يُكتَشفَ خطؤه وسيكون حقّق شيئاً يدعمه نفسياً ومن ثمّ تحصيلياً، وإن أصابَ ازدادت ثقته بنفسه أيضاً".

اللطافة

"اللطافة هي الموقف السائد"، حيث ترى مطير أن ذلك الأسلوب هو الأصل في التعامل مع الطالب خاصة في المرحلة الأساسية، فلا عبوس ولا صراخ ولا استهزاء ولا ألفاظ سيئة، بل ألفاظ إيجابية مادحة حتى وإن كان الطلبة يتسمون بالفظاظة وغيرها من الصفات السيئة.

وتُوضح: "في أحد الفصول التي علّمت فيها، كان الطلاب يُنعَتون بـ"أفشل صفّ" من قبل معلماتهم الأخريات، فجئتُ بدوري أغير فكرتهم التي بصموها عن أنفسهم ورحت أنعتهم بأفضل صفّ وأشطر صفّ وأهدأ صفّ.. وما إلى ذلك من كلمات المديح، حتى باتوا يقتربون من تلك المواصفات الإيجابية بمشاركاتهم ونشاطهم وحسن أخلاقهم، فالأمر لا يحتاج لصراخ أو انتقام بكلمات الإحباط".

وتروي المُعلّمة حكاية إحدى الطالبات الهادئات التي لم يسبق لإحدى المُدرّسات أن سمعتها تتكلّم داخل الفصل، فكان كل حديث المعلمة مطير مع الطالبات "أجيبي يا حلوة.. قفي يا أميرة.. هيا يا مميزة.. دورك يا قمر.. إلخ"، فإذ بتلك الطالبة تنطق على غير عادة وتقول: "والله أنتِ القمر"، لتفاجئ بكلمتها كلّ الطالبات اللواتي ضحِكن عالياً، وتبدأ الصغيرة من بعد ذلك بالمشاركة كطالبةٍ جديدة في الصفّ، وكأن القطّ الذي أكل لسانها أعادَه من جديد!

متعة الواجب المدرسي

خطوة مهمةٌ في أسلوب مطير التعليمي وهي "ضرورة جعل الواجب المدرسيّ ممتعاً وشائقاً، وليس انتقاماً أو عقاباً من الطالب، فالواجب المدرسيّ ليس إلا لدعم المادة في ذهن الطالب، وإن لم يكن شائقاً سيكون بلا فائدة، وسينساه الطالب بمجرد الانتهاء من الدرس أو الامتحان".

وتضيف: "إن نسي أحدهم حلّ الواجب فليس هذا جُرماً، فلا يعتبر النسيان استهتاراً، فالطفل ومشاعره عالم واسعٌ ليس من السهل فهمه بمجرد سؤال وإجابة".

تشجيع

وتكمل مطير "وفي حال جاء وليّ أمر أحد الطلبة ليسأل عن ابنه الكسول مثلاً، فيستحيل أن أذكر أنه كسول أو فاشل أمام ولي أمره أو الطلبة، بل أمتدحه وأبحث عن شيء إيجابي له، وبالمقابل أخبر ولي أمرِه بمستواه الحقيقي على انفراد وأتناقش في كيفية التعاون".

وتوضح: "حين يصل الطالب لمرحلةٍ من الثقة مع معلمه ويصبح جسر التواصل مشيداً بدقّة، يبدأ الطالب بالتصرف كما لو أنك قريبُه وليس معلمه ذا السلطة الرسمية، وهذا برأيي نتيجة طبيعية للأسلوب اللطيف التربوي والناجح في التعليم، فحينها إن وضع الطالب يده على كتفك فلا تزجره أو تمتعض بل كن إنساناً، فهو ينتظر ردّ فعلِك".

وتطمح مطير إلى أن يحالفها الحظّ لتكون مديرة التربية والتعليم لتنشر قوانين الرأفة والإنسانية وتلغي كل ما له علاقة بالعنف، وحينها تؤكد بابتسامة: "لن تجدوا طفلاً فاشلاً أبداً، بل مبدعين".

بلا حواجز

ومن غزة إلى الخليل حيث المدرس عماد صالح أبوتركي (26 عاماً)، ويدرس اللغة الإنكليزية في مدرسة الرحمة الأساسية للبنين.

ويرى أبوتركي أن رفع الحواجز بين الطالب والأستاذ هو الذي يمهد الطريق أمام الطالب للاستيعاب والفهم، لذلك تتسم أجواء حصته التدريسية بالمرح والأريحية، كما يقول.

ويضيف أبوتركي: "بعض الكلمات البسيطة تغير من نفسية الطالب وتشعره بالقرب، الأمر الذي ينعكس على تحصيله العلمي بشكل ملحوظ".

بالون وكلمة حب

وكثيراً ما يلتقط أبوتركي لنفسه ولطلابه صور "السيلفي" وينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أهالي الطلبة الذين يعلّقون على صورهم بحبّ.

وفي مرة أخرى قام أبوتركي بتصوير الطلب وطباعة صورهم ثم تقديمها هدية على حسابه لكل طالب، ويوضح أن المعلم إذا ما وصل لمرحلة القرب من الطالب استطاع أن يشكّله كيفما شاء، حيث سيكون قدوته، ويروي: "ذات مرّة سألتني وليّة أمر أحد الطلاب من الصف الثاني إن كنت أصلي أم لا، فتعجبت لسؤالها، لتوضح لي فيما بعد أن ابنها أخبرها إن كان أستاذ عماد يصلي فهو سيصلي أيضاً"، وهذا كله من شأنه أن يرفع من المستوى الدراسي للطالب.

المعلم أبوتركي الذي حصل على معدل ممتاز في الثانوية العامة رفض دخول كلية الهندسة، رغم تمنّي الكثيرين دخولها؛ لأنه يعلم أنه قادرٌ على الإبداع في اللغة الإنكليزية مقارنة بغيرها من التخصصات.

تحميل المزيد