ربما لا تعرف الأجيال الجديدة شفيق جلال، فيما تعرف الأجيال السابقة أشهر أغانيه مثل "أمونة" و"شيخ البلد"، رغم أن دوره الفني أكبر من اختزاله في أغنية أو في شكله المميز من الجلباب والطاقية والخاتم. فمن أجل أن يحقق شفيق تلك المسيرة الطويلة من بداية الأربعينيات وحتى التسعينيات، كان عليه الظهور بشكل مختلف وسط فطاحل الغناء بشكل عام والشعبي بشكل خاص، واستطاع المغني المصري أن يصبح واحداً من أهم مطربي الموال في الأغنية المصرية.
حياة شفيق جلال: كاد يموت يوم ولادته، ويُطرد من مدرسته
وُلد شفيق جلال في منطقة الدرب الأحمر في القاهرة في عام 1929، وكانت تلك اللحظة درامية يتذكرها من حكي أهله عنها؛ إذ قال في البرنامج الإذاعي "حديث الذكريات" مع المذيعة أمينة صبري، إن عمر والدته كان 13 عاماً فقط عندما حملت به، وسقط من بطنها دون أن تدري، وجاء الدكتور لإنقاذها هي والمولود، وبدأ الدكتور شفيق في محاولة إعادة الحياة للمولود، حتى عاد التنفس وبكى الطفل، فقال لهم الدكتور لو عاش لمدة أسبوع أطلقوا عليه اسمي، وسُمي الطفل شفيق، وكان الأهل ينادونه بـ"دكتور شفيق".
في سنواته الأولى في المدرسة؛ فُتن شفيق بصوت الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد مشاهدة فيلم "الوردة البيضاء"، حتى إنه يطلق عليه في أحاديثه التلفزيونية والصحفية لقب "آدم الموسيقى المصرية"، لكن موال "سبع سواقي" لم يفارق ذهن الطفل الصغير وبدأ في غنائه في أغلب الأوقات، ومع هذا الافتتان بالصوت العذب، تولدت رغبة شفيق في أن يصبح مطرباً، حتى إنه كان يغني الموال في المدرسة لدرجة إنه تم رفده من المدرسة.
على كلٍّ، لم يستمر شفيق في المدرسة كثيراً، خاصة مع طلاق والديه، إذ بدأ في العمل في إحدى ورش صناعة الأحذية، لكن ذلك لم يبعده عن الغناء، حتى أصبح يُلقب بـ"مطرب الورشة"، ويغني في أفراح زملائه وفي أوقات الراحة في العمل، وكان مغرماً ومقلداً جيداً لآبائه الروحيين في الغناء؛ محمد عبد المطلب ومحمد الكحلاوي.
ورغم صغر سنه فإن والده رأى به موهبة يعوض فيها ما فشل فيه، خاصة أن والده كان يعمل في كورس الغناء في فرق مثل "علي الكسار" و"نجيب الريحاني"، لكن من الواضح أنه لم يستطع النجاح بشكل كامل، ورأى في ابنه شفيق الأمل الجديد.
الغناء في الأفراح الشعبية ثم انتخابات مجلس الشعب!
انطلاق شفيق في الغناء بدأ من أفراح معارفه، وفي فرح زميل له في الورشة في العام 1940، استمع له متعهد أفراح محمود النحاس، وبعد فترة قابله بالصدفة في أحد المقاهي، حيث وطد علاقته به وطلب منه الغناء في أحد الأفراح مقابل 20 قرشاً ونصف "نقوط" الفرح (أموال يمنحها الحضور للفرقة الموسيقية لترديد اسمها على المسرح).
حضر شفيق فرحه الأول بمقابل، وبدأ رحلته المهنية في الغناء بالأفراح الشعبية، لكن في المقابل كان شفيق يعيش ظروفاً صعبة مع والده خاصة بعد الطلاق، إذ كان يسكن معه في "لوكاندة" (نزل أو فندق صغير) في حي الموسكي (حي تجاري بالقاهرة)، ويقول عن تلك الفترة إن والده كان ينام على سرير بـ 11.5 قرش لأنه كان يعاني من زيادة الوزن، بينما كان يستأجر هو فراشاً بـ 5.5 قرش، وكان يستيقظ فجراً من البرد ويجد خادم "اللوكاندة" أخذ غطاءه لزبون آخر، وعند شروق الشمس كانا ينزلان إلى حديقة الأزبكية ليكملا النوم هناك على مقاعد وسط التجار والباعة.
إلا أن والده كان يبحث عن أي فرصة أو طريقة كي يستمع الناس لابنه، وعندما عرفوا أن المحامي سيد وهبي صاحب سينما وهبي في الحلمية ينوي الترشح لانتخابات مجلس الشعب ويقدم أسبوعاً مجانياً كدعاية انتخابية، فذهبا إليه من أجل أن يغني شفيق في تلك الحفلات، فما كان من المحامي إلا أن أخذ شفيق على المسرح، وقال: "فيه مطرب هيغني، لو عايزينه هنخليه، مش عايزينه حنطرده"، وغنى شفيق موالاً للكحلاوي بدون موسيقى وخلفه كورس من والده وفراش السينما، فأعجب به الجمهور، فوافق المحامي على أن يغني في حفلتين لمدة أسبوع، لم يكتفِ والده بذلك لكن طبع العديد من الكروت بها كل المعلومات عن ابنه وبدأ في توزيعها على كل الحضور يومياً.
التقديم في الإذاعة بفضل رسائل الجمهور
اكتشف والده مجلة "الصباح" التي كانت تحتوي على باب للتعارف بين الشباب في جميع بلاد الوطن العربي، فأرسل بها بطاقة تعارف لابنه وأنه مطرب، وعندما جاءه رد من أشخاص عن طريق المجلة وأنهم لا يستمعون له في الإذاعة، طلب منهم أن يكتبوا للإذاعة مطالبين بأغاني شفيق جلال. وأن يكتبوا لعبد الوهاب وأم كلثوم ومصطفى رضا مدير الإذاعة، وقدم شفيق أول أغنية أول خاصة به؛ "يا عم يا جمال " تلحين نجيب السلحدار.
ومن باب المزاح، أخبره صديق له بأن المخرج والممثل محمود ذو الفقار جاء للمقهى وسأل وبحث عنه، فجُنَّ جنون شفيق وطار يبحث عن مكان محمود ذو الفقار حتى وجده مع زوجته عزيزة أمير في استوديو جلال، وعندما عرَّفه بنفسه وأنه جاء بناء عن سؤال عنه في المقهى، فقال له محمود إنه لا يعرفه ولا يعرف المقهى من الأساس، لكن والده اعتبر أنها فرصة وطلب منه أن يستمعوا له، وبعد إلحاح وإصرار وافقوا، وأعجبهم صوته وقدرته على محاكاة الكحلاوي، وقرروا أن يغني في ثلاثة أفلام، أولها عودة طاقية الإخفاء 1946.
ثم أذاعت الإذاعة أغاني الفيلم، لكنهم ذكروا اسمه خطأ، فقال والده: "روح لهم في الإذاعة واطلب أن يصححوا الاسم"، وعندما ذهب هناك وجد مدير الإذاعة مصطفى رضا يمسك فيه ويقول له: "انت بقى شفيق جلال اللي عمالين الناس تبعت تسأل عنه"، ونجحت خطة والده وتم تحديد موعد اختباره واعتماده في الإذاعة.
لينطلق شفيق جلال في عالم الغناء والتمثيل، بعد رحلة شاقة وطويلة من الاجتهاد والعمل والبحث عن أنصاف الفرص، ويقدم أغاني جيدة كثيرة ويبدأ تدريجياً في الخروج من عباءة الكحلاوى وعبد المطلب، وتظهر شخصيته وخصوصية صوته في أغانٍ مثل: "لما رمتنا العين"، و"آه وآه آهين"، و"بهانة"، و"شيخ البلد"، و"أمونة"، والمشاركة في العديد من الأفلام، لكن سنوات قليلة حتى تغيرت خريطة مصر بشكل كامل مع ثورة 1952، وظهر نجوم جدد على الساحة، وبدأت الأغنية العاطفية تأخذ مساحة أكبر خاصة مع ظهور مطرب الثورة عبد الحليم حافظ.
الفن الشعبي بعد الثورة المصرية
مع عودة الفن الشعبي لمكانته بعد استقرار الثورة المصرية، كان شفيق ضمن نجوم الغناء الشعبي والموال، بصحبة محمد عبد المطلب ومحمد رشدي، وخلال إحدى الحفلات التي أقيمت في العام 1961، عندما تأخر عبد الحليم حافظ عن الحفل، قرر مسئولو الحفل تقديم شفيق الذي كانت فقرته تتأخر حتى منتصف الليل.
حينها غنى شفيق موال الصبر وشيخ البلد، وصفق الجمهور له وطلب منه الإعادة، ومن هنا كانت إعادة شفيق جلال مرة ثانية لمكانته المستحقة، وكان موال الصبر في الأصل لمحمد الكحلاوي، لكنه نجح وانتشر بصوت شفيق.
مع بداية السبعينيات كانت النقلة السينمائية لشفيق جلال مع حسن الإمام في فيلم "خلي بالك من زوزو"، ثم "حكايتي مع الزمان"، و"بمبة كشر"، واستمر في العمل في السينما حتى رحيله في العام 2000، فيما كانت آخر حفلاته في دار الأوبرا المصرية، ورغم تقدمه في العمر فإنه كان قادراً على الغناء بكل قوة وعذوبة كما كان طوال عمره.
قد يهمك أيضاً: "مدد مدد مدد.. شدي حيلك يا بلد".. محمد نوح فنان ما بعد "نكسة 67" الذي صنع أرشيفاً خُلد منها أغنية واحدة!