على امتداد عشر سنوات تمكنت بلقيس فتحي ابنة اليمن والإمارات من رسم ملامح فنانة متفردة في الوطن العربي، وخاصة بالخليج. فالجمهور أحبها مشدوداً إلى اختياراتها التي زاوجت بين الطرب والبوب آرت، هذا اللون الذي استخدمته سمعياً وبصرياً، وهو أسلوب نادر في الأعمال الخليجية.
تمكنت بلقيس بنباهتها وحرصها على التكوين الذاتي فكرياً، ومشاركة الأفكار إلى جانب الأعمال الإبداعية الغنائية من توسيع قاعدتها الجماهيرية، وهو ما مكنها أيضا من أن تصنف إحدى أهم الشخصيات المؤثرة دون سن الثلاثين سنة 2018.
بلقيس التي برعت أيضاً في أداء الكلاسيكيات ونجحت في الأداء الأوبرالي وولجت مختلف دور الأوبرا العربية وكانت نجمة مسرح، تواصل هذه السنة المشوار بشغف، واختارت أن تطل في ثاني شهر الحب فبراير/شباط 2021 بـ"حالة جديدة" وهو عنوان أولى أغاني ألبومها الرابع الموسوم بالاسم نفسه.
في هذا السياق كان لبلقيس حوار مع "عربي بوست"، تحدثت فيه عن ألبومها الأخير الذي قالت حصرياً إنه سيتضمن أغنية مغربية، وتحدث أيضاً عن الوسط الفني بالإضافة إلى المواطن العربي الذي أصبح تواقاً للفرح.
هنيئاً لك عملك الجديد "حالة جديدة"، إلى أي حد خلقت الأغنية حالة جديدة في نفس بلقيس"، إنسانياً وفنياً؟
حالة جديدة، تعبر عني وتعكس كل ما يحدث معي مرحلياً. فقد وددت الرجوع بألبوم رابع بأفكار مختلفة، فن مختلف، موسيقى جديدة. وسميت الألبوم حالة جديدة لهذا الاعتبار. الأغنية تقول "بالنسبة للهوى أنا حالة جديدة"، وأعتقد أنها في الفن حالة جديدة، خصوصاً الفن في منطقة الخليج.
نود معرفة كواليس اختيارك لهذه الأغنية تحمل عنوان ألبومك الجديد وتكون أول إصداراته، والمزيج الذي تضمنته، ومنه "الراب"؟
استغرقت الأغنية حوالي عام، لتحضير التسجيل (الأوديو) فقط. بداية، كانت "ميلودي" أنجزها عبدالعزيز عويس، كانت تضم فقط لازمة "دودوم دودوم"، دون كلمات. وبعدها سلمنا الأغنية للشاعر الرائع سعد لمسلم، الذي وضع للأغنية بصمتها المميزة، وخلق حالة جديدة. فبمجرد سماعه الموسيقى شعر أن ثمة شيئاً ما جديداً ومختلفاً. وبعدها مزجت الأغنية مزيجاً عاطفياً حتى نحصل على المعنى المطلوب.
أما عن الراب، فإنه لم يكن موجوداَ منذ الأول. لكن بعد إنصاتي للأغنية مكتملة، شعرت أنه يمكن أن يقدم عنصر نسائي الأغنية معي، لكن بلون غنائي آخر يختلف عما أؤديه، كالراب مثلاً، فجاءت فكرة "كوين جي"، ودخلت كعنصر ثالث وأيضاً الرابور هادي الخميس كعنصر رابع.
نهاية قدمنا توليفة رائعة، أعتقد أنها جديدة في الخليج وحتى في المنطقة العربية عموماً، باستعمال الجيتار "السانتانا ستايل"، مع الإيقاع الخليجي إلى جانب فناني الراب سالفي الذكر.
اتهمت في هذه الأغنية بأخذ أفكار غيرك موضوعاً لكليب "حالة جديدة"، هل خطر لك هذا الاحتمال وهل ترين أنك كنت مضطرة للرد على اتهامات السرقة؟
الحقيقة أنني لا أريد الخوض في هذا الموضوع أكثر، لأني شرحت بما فيه الكفاية. لكن جواباَ على سؤالك لم أتوقع قط هذا الهجوم، وأعتقد أنه كان لزاماً عليّ الرد والتوضيح.
إلى أي حد يمكننا أن نتحدث عن استنساخ أفكار فنية في زمن الإبداعات منفتحة على بعضها البعض، وبكم كبير متواتر؟
باعتقادي أنه يمكننا التحدث عن تواتر وتواكب الأفكار بشكل كبير اليوم؛ لأن العالم اليوم في ظل مواقع التواصل الاجتماعي صار صغيراً جداً. هناك أفكار يمكن أن نصادفها ونشاهدها، ويخزنها عقلنا الباطن، وبمرور الوقت ننسى، ونعتقد لاحقا أننا لم نرها قبلاً. وحين نطبقها نكتشف أننا أنجزنا أشياء أخرى. من هنا أود القول إنه لو أن كل مخرج، أو كل فنان عموماً، جلس لمراقبة المحتويات التي قدمت وتقدم عبر العالم، لن ينتهي من ذلك وسيبقى حيث هو. ذلك أن توارد الأفكار موجود، وبشكل قوي كما ذكرت آنفاً. يمكنك مثلا ارتداء لباس معين، تخرج لتصادف آخرين يرتدون الشيء نفسه، وقس على ذلك أشياء أخرى. وهنا نتساءل هل من المعقول أننا كنا على علم مسبق بذلك أم أن الأمر يتعلق بتوارد أفكار وخواطر. شخصياً سبق وغنيت في حفلات وأعراس، صادفت فتاة أو اثنتين ترتديان الفستان نفسه الذي أرتديه بالضبط. العالم تغير، وكل ما فيه أصبح مفتوحاً أمام الجميع.
حياة المشاهير وأنت منهم، مليئة بالمحبطين تماماً كما المشجعين، كيف تحمي بلقيس نفسها من ذبذبات الفئة الأولى؟
لا شك أن الحياة مليئة بالمحبطين. لكني تعلمت أن الشجرة المثمرة هي التي تُرمى.. وهناك أشجار تملأ الساحة ولأنها غير مثمرة فلا ترمى. ذلك أن هناك أشخاصاً كثراً طرحوا أعمالاً في الفترة نفسها التي طرحت فيها عملي، لكن لم تتعرض للهجوم الذي تعرضت له. ومعنى ذلك أن الهجوم الذي تعرضت له دليل على أن العمل نجح ووصل للجمهور.
هل حدث وأثر في نفسك الموضوع طويلاً مع شخص أو أشخاص معينين من هذه الفئة؟
لا أنكر أن الفنان يمكنه أن يشعر بالانزعاج قليلاً بسبب ذلك. وبالنسبة لي، الموضوع لا يأخذ مني أكثر من دقائق معدودات أنزعج فيها لأعود بعدها إلى التركيز على عملي وفي محبي ومن يعطونني طاقة إيجابية وكلاماً طيباً، والفرح بنجاحي. أما البقية فلا أُلقي لهم بالاً.
صرحت قبلاً بأنك في خياراتك الموسيقية للاستماع مهتمة بالغرب أكثر من العرب، منذ متى بدأ ذلك؟ وما أكثر ما يجذبك؟ هل ثمة أسماء بعينها وماذا يميزها بعيون بلقيس؟
صحيح، أنا مهتمة بالأغاني الأجنبية التي أستمع إليها بشغف منذ مراهقتي. وكنت أحب جداً سماع "باك ستريت بويز"، وبريتني سبيرز، والفرقة التي صعدت منها "بيونسي"، ومازلت أنصت لتايلور سويفت جراندي وبلاك بينك وبيتي.. وليدي جاجا، وغيرهم.. المهم أن سماعي غربي أكثر وبدأ منذ الصغر.
من مِن الأسماء العربية القديمة (في الساحة) التي ما تزال تدهشك وترين أنها استطاعت الحفاظ على اسمها لامعاً دون التخلي عن ملامحها، إن لم نقل الطربية، فالموسيقية؟
أما عن الفنانين العرب الذين استطاعوا الحفاظ على رونقهم على مر السنوات، فأستحضر الفنان كاظم الساهر والفنانة أصالة، وسميرة سعيدة الديفا التي أحبها وأرى أنها حافظت على مستواها لفترة طويلة من الزمن.. هذه هي الأسماء التي تحضرني الآن.
أن يتحول الاهتمام أكثر إلى الصورة في كل جديد يقدمه الفنان، وخاصة إن تحدثنا عن فنان مطرب وليس مجرد مغنّ، ألا يزعجك ذلك، أم أنك أيضاً مهتمة بهذا الجانب أكثر، جانب الإثارة والإبهار في تقديم الجديد لمتتبعيك والجمهور عموماً؟
أنا أيضاً مهتمة بالجانب الشكلي، فالتغيير اليوم لا يكون فقط على مستوى الصوت، لأن الفنان يقدم قطعة ترفيهية. والقطعة الترفيهية لا بد أن تتضمن "الأوديو" التسجيل الصوتي و"الفيديو". صحيح أن هناك أناساً قد لا نحب أن نراهم، لكن بالمقابل هناك أشخاص نحب أن نراهم. وأنا بناء على دراسة قمنا بها اكتشفنا أن الناس يحبون مشاهدتي، يحبون سماعي ليُطربوا ورؤيتي ليبتهجُوا (فيه ناس تحب تسمع نتطرب وتشوف تنبسط). فقلت لم لا أشتغل على هذا المزج والجمع بين هذين الجانبين وإنجاز أعمال أحفر عبرها اسمي في ذاكرة الفن في منطقة الخليج، والمنطقة العربية عموماً. وبعد زمن سيقال إنه كانت هناك فنانة سباقة لتنفيذ الفيديو كليب بأشكال محترفة (كانت بتخسر على شغلها). إذن لم لا أقوم بهذه التوليفة التي أراها مميزة ونادرة.
قلت إن ألبومك الجديد "حالة جديدة" يشمل تشكيلة من الأغاني العربية دون تحديد اللهجات. هلا قربتنا أكثر من الألبوم؟
بالفعل، الألبوم يتضمن مزيجاً من الأغاني العربية، فهو ليس خليجياً، وسيتضمن مجموعة من الأغنيات سأطلقها فرادى على امتداد هذه السنة. ويهمني جداً التوسع في المناطق التي ذكرت في الألبوم.
هل يتضمن الألبوم أغاني مصرية ومغربية وما طبيعتها، علماً أنك حريصة في استراتيجيتك الفنية على التوسع أكثر في المنطقتين المذكورتين؟
كخبر حصري لـ"عربي بوست" فإن ألبومي الأخير سيتضمن أغنية مغربية، وهي تجربتي الثانية مع مروان أصيل، ونرجو أن تتحسن الظروف حتى نتمكن من السفر إلى المغرب، حيث سيتم التصوير هناك، إلى جانب التصوير في فرنسا تحت إشراف المخرج المبدع عبدالرفيع العبديوي، هذا المبدع الذي أتفاءل به.
الفنان الممتهن للغناء اليوم هو نسق متكامل، وليس فقط صوتاً. قول يردده كثيرون في هذا العصر. ألا ترين في العبارة جحوداً وإجحافاً في حق الفنان المطرب؟
بالنسبة لي الأمر ليس إجحافاً وإنما هو الواقع. شخصياً لو كنت منتجاً وأردت تبني شخصية فنية لن أنظر إلى صوتها فقط. وهذا ليس بأمر جديد، فمنذ زمن أم كلثوم وعبدالحليم، الفنان عبارة عن مجموعة عناصر متكاملة، وأولها غير الصوت، الشكل الذي يجب أن يكون مقبولاً، ثم الكاريزما الإعلامية، وهنا ألفت الانتباه إلى أنه ليس من الضروري أن يكون الفنان مثقفاً حتى يكون ناجحاً، لأن هناك فنانين عرباً كثراً محترمين، وليسوا بمثقفين ولا يمتلكون حتى شهادات علمية، وهذا ليس عيباً. العيب هو أن يخرج الفنان عن نطاق الأخلاق وما هو متعارف عليه في حدود الأدب.
ما أريد أن أخلص إليه من كلامي هو أن الفنان يجب أن يكون مجموعة أشياء منسجمة مع بعضها البعض. ولو كنت منتجة لا أقبل تبني فناناَ "دمه ثقيل"، ولا يمكنني تبني فنان جميل شكلاً، لكنه غبي جداً في اتخاذ قراراته الفنية، ويمكنه أن يضيع نفسه أو فعل بهذه التصرفات.
لذلك الفنان المطلوب اليوم هو نسق متكامل، يشمل كما قلت "الكاريزما" القوية، والشكل المقبول حتى لا أقول وسيماً، وثالثاً أن يكون صاحب صوت رائع ومطواع، ورابعاً أن تكون لديه الجرأة لتخطي الرتابة الموجودة والانسلاخ منها، وخامساً أن يكون له حضور على المسرح، ويكون قادراً على ابتلاع الجمهور والمكان لا أن يحصل العكس حين يقف على المسرح.
بعيداً عن "حالة جديدة" ألم تقدك يوماً الأوضاع المؤلمة للشعوب العربية للانخراط بأعمال فنية لتتحدث بلسان هذه الشعوب؟
أعتقد أن الإنسان العربي ولد مهموماً وسيموت مهموماً.. همومنا هي الوطن العربي وما يحدث داخله. وبطبيعته، الإنسان العربي يحمل في داخله هم وطنه العربي كاملاً، وهو غير راضٍ عن وضعه الحالي. وفي هذا الصدد إذا ركزنا على هذا الوضع بتفاصيل ستجتاحنا الطاقة السلبية ونزداد كآبة. ونعرف إلى أي درجة أن الإنسان في هذه الحياة عاشق للفرح، وخصوصاً الإنسان العربي، فهو عاشق للاحتفال للنغم عاشق للإيقاع للفن عموماً، عاشق للاحتفال، لأن هذا ما يفتقده. وافتقاد حياته للفرح جعله متعطشاً لسماع أغان مبهجة. وهذا ما يحكيه يومياً ما نشاهده على تطبيق "التيك توك" مثلاً. الإنسان العربي يميل لتجاهل واقعه المؤلم، أو على الأقل ينزع للخروج منه ولو لفترة بسيطة من الزمن.
وهل المهمة برأيك سهلة اليوم أمام الفنان ليمضي عكس التيار السائد المصفق للجميل الحاصل، واللامبالي بالسيئ المؤلم؟
وبناء على ما ذكرت، أرى أن رسالة الفنان الحقيقية اليوم هي إدخال الفرحة على القلوب، وجعل من يسمعه يطير ويسعد وكأنه يعيش حالة حب وحالة من السعادة.