الجزء الثاني من مذكرات ميشيل أوباما
اختارت ميشيل أن تتخلى عن وظيفتها المرموقة في شركة المحاماة وتخسر نصف دخلها لتعمل في وظائف متخصصة بمساعدة الفئات الأقل حظاً في المجتمع الأمريكي.
الوظائف الثلاث التي عملت بها كانت في مجال العلاقات العامة، ومن خلالها عملت على أن تفتح لهذه الفئات طريق المشاركة في أنشطة المجتمع. آخر تلك الوظائف كانت العمل في مستشفى جامعة شيكاغو، الوظيفة مخصصة لمساعدة المرضى الذين يحضرون لعلاج حالات طارئة ولا يستطيعون إكمال العلاج لعدم حصولهم على تغطية التأمين الصحي، وقد استطاعت خلال ثلاث سنوات أن تموّل تأميناً صحياً يغطي حوالي ألف وخمسمئة من مجاوري المستشفى، مسألة قصور التأمين الصحي في أمريكا عن تغطية كل أفراد المجتمع الأمريكي، وكفاح كلينتون وأوباما وزوجتيهما من أجل توسيع شريحة المستفيدين من التأمين توضح سطوة النظام الرأسمالي في أمريكا، نظام لا يبيح لشخص أن يأخذ أية مزايا خارج ما يؤهله له دخله والضريبة التي يدفعها، ولا يتخلى عن صرامته تلك لأجل أي قيمة إنسانية.
بالطبع ساعدت هذه الخبرة ميشيل في المساهمة الفاعلة في حملات باراك أوباما الانتخابية. وبينما خسر باراك في أولى محاولاته للترشح لمجلس الشيوخ استفاد من تجربته في الخسارة لينجح في محاولته الثانية، اثنان من منافسيه تركا السباق بسبب فضائح تتعلق بزوجتيهما بينما كان بارك يشق طريقه، الرجل الأسود الوحيد في مجلس الشيوخ والخطيب اللامع كان أفضل من يتحدث بأسلوب قوي حول الأمل والتسامح، حول وطن واحد غير منقسم، وبمرور الوقت أصبح يثير الجلبة من حوله، وعندما يُسأل حول الترشح للرئاسة، يجيب بأن مخططه الوحيد آنذاك يقضي بتجنيد طاقاته والعمل بدأب في مجلس الشيوخ، يقول إنه مجرد عضو متواضع المكانة في حزب الأقلية، وأحياناً يضيف أنه أب لابنتين يعتني بتنشئتهما.
جاء إعصار كاترينا فشرَّد نصف مليون من البشر، معظمهم من الفقراء وأغلب الفقراء من الأمريكيين السود، كان سوء أداء الحكومة واضحاً للعيان، وفضح الانقسام الطبقي للمجتمع الأمريكي وسهولة انكشاف الطبقات الفقيرة أمام أدنى الصعوبات. كان ذلك سبباً ليحسم تردد الزوجة، فعندما قرر الزوج دخول انتخابات البيت الأبيض أصبح لدى ميشيل خمسة عشر ألف سبب لدعمه.
استغرقت حملة باراك الانتخابية عشرين شهراً، لم تترك ميشيل فيها أي تجمعات للناس تستطيع الوصول إليه إلا وفعلت، زارت البيوت والكنائس والملاعب الرياضية؛ لتتحدث عن نفسها وعن زوجها، حرصت على أن تعكس صورة لابنة العائلة الأمريكية التي يحدوها الطموح فتكافح ليكون لها موقع في المجتمع، تحكي عن آمالها في تمكين الأقل حظاً من الناس، تتحدث عن المحامي اللامع الذي تزوجته، والذي يترك جواربه موزعة في أنحاء المنزل، والذي يشخر أثناء نومه، تتحدث عن عملها في المستشفى، وعن أمها التي ترعى ابنتَيها في غيابها. وهكذا…. توظف المتطوعين لدعم الحملة، منهم من يتطوع بسيارته لإيصال جيرانه إلى مقر الحملة ليستمعوا لخطابات ميشيل، ومن يتطوع بماله ومنهم من يتطوع بإقناع الناس…. حملة مرهقة اقتضت توظيف فريق يتضمن مساعدتين لزوجة أوباما، وثالثة لكتابة خطاباتها… يعود أعضاء الفريق نهاية اليوم إلى بيوتهن وقد خلعن أحذيتهن ليسهل سيرهن بأقدامهن الحافية المنهكة على أرض المطار وفي الطائرة. ومع الوقت تعوَّدن على الاقتصاد في شرب المياه حتى لا تضطر إحداهن إلي إضاعة الوقت في البحث عن حمام في مكان غير ملائم. وكان عليها في تنقلاتها الكثيرة أن تحتفظ في حقيبتها بزوج من الجوارب، مع مزيل للبقع، ومزيل لرائحة الفم وعدة للخياطة.
الإعلام الأمريكي لا يرحم، والمزايدات الانتخابية لا تتوقف، والسخرية الشديدة تتزايد، سبق أن وصفت كلينتون بالعاهرة، وبأن صوتها يشبه قرقرة الدجاج، أما ميشيل فسوداء دخيلة على البلد، فارعة الطول، ذات مقعدة ضخمة!!، وقد اختُصر خطاب لها ألقته في أربعين دقيقة إلى مشهد في إحدى عشرة ثانية تقول فيه إنها للمرة الأولى كراشدة في حياتها تشعر بأنها فخورة ببلدها. شُن عليه هجوم يقول إنها تفتقر إلي الشعور الوطني، وإنها طالما كرهت أمريكا وإن تظاهرت بغير ذلك. وتعرض بارك لهجوم طال أصوله المسلمة، رغم أنه ومن مذكرات زوجته الطويلة كان يبدو وكأنه لم يرَ مسلماً قط، كان برنامجه الانتخابي يقوم على محاور أهمها الوعد بسحب قوات أمريكا من العراق وأفغانستان، والتراجع عن الضرائب التي فرضها بوش لمصلحة الأغنياء، والعمل على تأمين رعاية صحية للأمريكيين كافة.
انتهت الحملة الانتخابية إلى أن تصبح ميشيل السيدة الأمريكية الأولى التي تدخل البيت الأبيض، وكان عليها أن تتجاوز الصورة التي تجعل أمريكيات كثيرات لا يرين فيها انعكاساً لصورتهن. استقبلت لورا بوش ميشيل وبناتها ليتعرفن على البيت الأبيض، وكذلك تقابلت مع الأحياء من زوجات الرؤساء السابقين، تحدثت إليها نانسي ريغان، روزالين كارتر، هيلاري كلينتون عن الحياة في البيت الأبيض، بطوابقه الستة وغرفة العديدة. وترتيبات الحراسة فيه وتنقلات الأسرة والتي تكون بالطائرة في كثير من الأحيان. كان فريق السيدة الأولى يعد لوائح اتصالات ورزنامات ونماذج مراسلات لمساعدة ميشيل في تدبر أمر الواجبات الاجتماعية التي عليها القيام بها. فرضت التدابير الأمنية على العائلة أن تعيش فيما يشبه الفقاعة التي تعزلها عن العالم، ولم يتمكن أوباما من اصطحاب ابنتيه في أول أيامهما في المدرسة التي انتقلتا إليها في واشنطن. تخلى عن رغبته بمرافقتهما بعد أن وجد أن ذلك سيسبب جلبة كبرى فالموكب الرئاسي ضخم جداً، عانق ابنتيه عند خروجهما موصيا (حافظا على ابتسامتيكما، كونا لطيفتين، أصغيا إلى أساتذتكما، وإياكما أن تنقرا أنفيكما).
للرئيس الأمريكي الحق في مئة ألف دولار لتغطية نفقات انتقاله إلى البيت الأبيض، لكن باراك أصر على ألا يأخذها، وأن يدفع من حسابه الخاص. تعلق زوجته: باراك شديد اليقظة في كل ما يتعلق بالمال والأخلاقيات، ويلزم نفسه بمعايير أعلى مما يحدده القانون، يتناقل السود حكمة شعبية تقول "على المرء أن يكون أفضل بمرتين ممن سبقوه ليبلغ نصف ما بلغوه".
الحياة في البيت الأبيض تشبه الحياة في فندق فخم، غير أنه فندق لا تنزل فيه إلا عائلة الرئيس، وقد تم إعداده لهدف واضح وهو توفير الرفاهية لشخص الرئيس حتى يمارس سلطاته بفاعلية تامة، لديه مثلاً فريق من الطهاة، وثلاثة حجاب عسكريين، من مهامهم الاهتمام بخزانة ملابسه، والحرص على بقاء أحذيته ملمعة، وقمصانه مكوية وملابسه الرياضية مغسولة ومطوية، هناك فريق من الخدم للزوجة والأطفال معظمهم من الأمريكيين الإفريقيين. أوضحت لهم ميشيل أن ابنتيها سترتبان سريريهما كل صباح كما كانتا تفعلان في شيكاغو.
حرص باراك على أن يدعو إلى حفل تنصيبه مجموعة من الطيارين الإفريقيين الأمريكيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، كما دعا الطلاب السود التسعة الذين كانوا أول من تم تسجيلهم في عام ١٩٥٧م ليدرسوا في مدرسة كانت تحرم على غير البيض الدراسة فيها، وكان ذلك بعد حكم محكمة أعلن عن لا دستورية إنشاء مدارس خاصة للبيض وأخرى للسود.
حرصت ميشيل على وضع لمسات للعائلة على البيت الأبيض، فتم تعليق مجموعة من اللوحات الفنية التي تحمل توقيع فنانين سود، استبدل باراك تمثالاً لمارتن لوثر كينغ جونيور بتمثال ونستون تشرشل النصفي الذي كان في المكتب البيضاوي.
وعلى أي الأحوال اكتشفت الأسرة أن قصر باكينغهام الذي تقطنه ملكة إنجلترا أكبر بكثير من البيت الأبيض وأفخم بحيث تعجز الكلمات عن وصفه، وللملكية تقاليد في بريطانيا جعلت ميشيل تتعرض لنقد كثير حين أخفقت في الالتزام بها.
في فترة وجودها في البيت الأبيض قامت ميشيل بمجموعة من الأنشطة مثل زراعة بستان تمكن من إنتاج طن من الخضار سنوياً، وكان الهدف حث الأسر الأمريكية على تجنيب أطفالهم البدانة بالاعتماد على أكل الخضراوات، كما عملت على تحسين حياة الجنود الذين أصيبوا في الحرب وإعادة تأهيلهم الاجتماعي، وكم دعتهم لزيارتها في البيت الأبيض.
البنتان شاركتا مع زميلاتهما في غسيل سيارات المارة ضمن حملة جمع تبرعات للمدرسة.
تظهر المذكرات تزايد جرائم السلاح المرخص في أمريكا، وعجز ميشيل وأوباما عن زيادة القيود على حمل السلاح رغم مشاركتهما أسر العائلات اللواتي عانين من فقد أبناء وأزواج بسبب حماقات السلاح في مناسبات تبرز للجمهور عٍظم المأساة، ظل الجمهوريون في الكونغرس بالمرصاد لأي قانون يحد من حرية حمل السلاح، وكان ذلك تواطؤاً مع جمعيات إنتاج الأسلحة التي تمول الحملات الانتخابية لكثير من أعضاء الكونغرس.
ربما لا تحدث تلك الأشياء إلا في أمريكا التي تدهشنا وتغضبنا وتعجبنا وتضربنا وتقهرنا.
وهكذا نجحت ميشيل في إخراج كتاب مشوق عن حياة الأمريكان، وهناك الكثير من التفاصيل التي تجعل الكتاب يستحق أن يُقرأ مرتين.
أعود إلى مقدمتي في المقال السابق لأذكر أنه باستثناء تصفية "بن لادن" لا تحظى القضايا العربية بأي إشارة، ولعل هذا يهمنا نحن الذين نعلق الكثير من الأمل على كل رئيس أمريكي، وخاصة في ولايته الثانية، كل ما يطغى على اهتمامات الرئيس الموضوعات الداخلية، مثل الرعاية الصحية وتنشيط الاقتصاد، الضرائب وفرص العمل.المشكلة الفلسطينية لم تأخذ سطراً واحداً، ونالت الثورة المصرية نصف سطر وداعش نصف سطر آخر، ولم ألحظ وجود غير ذلك من القضايا العربية.
ولعل هذا يجعل خيبة الأمل العربية المزمنة التي يودع بها كل مغادر للبيت الأبيض غير ذات موضوع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.