أصعب إحساس هو الحب من طرف واحد، والأصعب أن تكون أنت هذا الطرف، إحساس صعب أن تهتم بشخص لا يهتم بك، أن تقدر مشاعره وتخاف عليها، ولا يحس بذلك، أن يكون دائماً في بالك.. ولا يدري بوجودك، كل ذلك وأكثر.. عذاب عاشه أحد أعظم شعراء هذا العصر، وصحفي لا نظير له في الصحافة المصرية.. اليوم وأمس وغداً.
بأسلوبه الساخر وقصائده وثقافته استطاع أن يكون على رأس الصفوة من الكتاب والأدباء، لكن النيران لم تنطفئ لحظة بقلبه، عاش قصة حب من أكثر القصص ألماً وعذاباً، أحب المطربة "نجاة الصغيرة"، كانت حبه الوحيد، لعن كل النساء من أجلها، وجعلها أهمّ امرأة في العالم، أما هي، أدارت له ظهرها وعبثت به، ساعة تقبل عليه وساعة تهرب منه، حتى كتب مرة يقول: "إنها امرأة غامضة، لا أعرف هل تحبني أم تكرهني، هل تريد أن تقتلني أم تحييني؟".
كان كامل الشناوي كئيباً و"ابن نكتة" في نفس الوقت، اشتهر بخفة الدم؛ يقول النكتة فتصبح على كل لسان، كأنها أغنية جديدة لـ"أم كلثوم" أو "عبد الوهاب"، كان لديه القدرة على أن يضحكك على نفسه ويبكيك أيضاً، وكان حبه لـ"نجاة" سبب بكائه وعذابه.. وأجمل أشعاره أيضاً، لكنها أبداً لم تكن لحن الفرح في حياته.
والذي يعرفه الجمهور أن "كامل الشناوي" هو من قدّم "نجاة" إلى الجمهور، اكتشفها وكتب لها أجمل أغانيها، أما الذي لا يعرفه أحد، أن أغنيتها الشهيرة "لا تكذبي" كانت مكتوبة لها ومن أجلها، وأن "الشناوي" شاهد الأديب "يوسف إدريس" معها بالسيارة في أحد شوارع القاهرة، ولما شاهدهما.. ذهب إلى بيت الصحفي الكبير "مصطفى أمين" وكتب القصيدة في بيته، ويقول "أمين": "جاءني كامل الشناوي، وكتب قصيدة لا تكذبي في بيتي، وكان يبكي بشدة".
ويضيف "أمين" في كتابه "شخصيات لا تنسى": "أراد كامل أن يلقي القصيدة على نجاة في التليفون، وبالفعل اتصل بها، وبدأ يلقي القصيدة بصوت منتحب خافت، تتخلله زفرات وعبرات وتنهدات.. قطعّت قلبي!".
لا تكذبي إني رأيتكما معاً
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى
من عين كاذبة
فأنكر وادعى
ويؤكد "الصحفي الكبير" أنها ردت عليه ببرود وقالت: "حلوة يا كامل لازم أغنّيها!".
في عيد ميلادها عام 1962، كانت أسوأ لحظة مرت على الشاعر الرقيق، اشترى لها هدايا الحفل، وجلس مع رفاقه في شقتها بالزمالك، وعند إطفاء الشموع اختارت "يوسف إدريس" ليقطع التورتة ممسكاً بيدها، فانسحب الشناوي حزيناً، وخاطب نفسه بعدها قائلاً: "افهميني على حقيقتي.. إنني لا أجري وراءك بل أجري وراء دموعي"، وعندما فاض به الكيل قال: "هل ألعنها أم ألعن الزمن؟ .. كانت تتخاطفها الأعين، فصارت تتخاطفها الأيدي". ثم قال في قصيدة له:-
أقول خانت؟
لو قلتها أشفي غليلي؟
يا ويلتي لا
لن أقول أنا،
فقولي لا تخجلي لا تفزعي مني
فلست بثائر
كوني كما تبغين
لكن لن تكوني
فأنا صنعتك من هوايَ
ومن جنوني
ولقد برئتُ من الهوى
ومن الجنونِ
وربما كان "الشناوي" مخطئاً حين ظن أنها خانته، أما الحقيقة واضحة كالشمس؛ فهي لم تحبه، أو رأته أباً لا حبيباً؛ حيث كان يكبرها بثلاثين عاماً؛ لذلك لم تلتفت إليه من الأساس بسبب فرق السن الكبير، وأحس هو بذلك فقال: "احتشم يا قلبي، فالحب طيش وشباب وأنت طيش فقط!".
وفي نهاية حياته تزوجت "نجاة"، وشعر كامل الشناوي، أنه أضاع عمره في حبها، وأن كل ما فعله تصرفات حمقاء، قلّلّت من شأنه، فبعث لها برسالة يقول: "ليتك تعلمين أنك لا تهزيني بحماقاتك، فلم يعد يربطني بك إلا ماضٍ لا تستطيع قوة أن تعيده إلينا أو تعيدنا إليه، كنت أتعذب في حبك بكبرياء.. وقد ذهب الحب، وبقي كبريائي، كنتِ قاسية في فتنتك ونضارتك وجاذبيتك، فأصبحتِ قاسية فقط!".
لقد أعطى كامل الشناوي حياته ونفسه كلها لـ"نجاة"، اكتشفها وساعدها في بدايات حياتها، إلا أنها أبكته وأضنته وحطمته، يقول مصطفى أمين: "عشت مع كامل الشناوي حبه الكبير، وهو الحب الذي أبكاه وأضناه وحطمه وقتله في آخر الأمر، أعطى (كامل) لهذه المرأة كل شيء، المجد والشهرة والشعر، ولم تعطه شيئاً، أحبها فخدعته، أخلص لها فخانته، جعلها ملكة فجعلته أضحوكة".
ومات كامل الشناوي وحيداً، كما عاش وحيداً بلا زواج من أجل حبه الأفلاطوني العظيم، الذي ظل طريداً من أجله طوال حياته، فرحمة الله عليه وعلى قلبه الرقيق العظيم.
– تم نشر هذه التدوينة في مدونة محمد ثابت
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.