قد تكون جماعة الإخوان المسلمين أسوأ بكثير أو أفضل بكثير مما ظهرت عليه في الجزء الثاني من مسلسل "الجماعة" الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه شريف البنداري، لكن من المؤكد أنها ليست هي الجماعة نفسها التي ظهرت في المسلسل.
كتب وحيد حامد نَص المسلسل بجزأيه؛ الأول الذي عُرض في رمضان 2010، والثاني الذي انتهى عرضه منذ أيام، من موقع الخصم الأيديولوجي الواضح والمباشر للجماعة وفكرها، وهذا أول خطأ يقع فيه كاتب الدراما التاريخية الذي يعيد رواية أحداث تاريخية في صيغة عمل فني، حين يتناول موضوعاً أو فكرة يعلن عداءه لها ليل نهار، مما يصلح لكتابة عمود رأي أو كتاب فكري أو نشيد حماسي، لكن بالتأكيد ليس عملاً درامياً، سواء كان ذلك مسلسلاً أم فيلماً أم مسرحية.
وهذا ما جعل وحيد حامد ينتج عملاً قليل المصداقية والتأثير والصدى إلا لدى الجمهور الذي يقف على الضفة نفسها التي يقف عليها الكاتب، والتي تعبّر اليوم عن الرأي الرسمي لأغلب السلطات العربية، ولهذا السبب لم يُذكر مسلسل "الجماعة 2" في قوائم المسلسلات التي حصلت على نسب جيدة من المشاهدة الواسعة في رمضان الماضي، ولا حتى الأقل مشاهدة ربما، باعتباره لم يُذكر نهائياً في لوائح المسلسلات التي تمت متابعتها جماهيرياً.
في الجزء الأول من المسلسل الذي صوّر تاريخ نشأة جماعة الإخوان المسلمين في مصر وانتهى باغتيال مؤسسها حسن البنا، كان وحيد حامد أكثر رغبة في أن يظهر نفسه راوياً محايداً من دون أن يخفي عداءه للإسلام السياسي عموماً وللجماعة بشكل خاص، متعاطفاً أحياناً ومترصداً أحياناً للشخصيات والمواقف والأحداث، بحيث كان مقصد كتابة عمل لشيطنة الجماعة يغيب أحياناً عن مشهد هنا وشخصية هناك، وإن كان يبدو واضحاً في الرؤية العامة للعمل.
فبدا المسلسل أكثر حيادية وأقل عصبيةً، فاستُقبل جماهيرياً باعتباره عملاً درامياً يحمل فكر مؤلفه ويحابي النظام السياسي بعض الشيء، لا باعتباره منشوراً سياسياً للسلطة لا يختلف عن أي من وسائلها الدعائية، وساعده في ذلك أن الجو العام المصري والعربي سياسياً كان أقل تشنُّجاً (من اليوم) تجاه الإخوان المسلمين، الذين يعترف بوجودهم ويتعامل معهم بغض الطرف، عكس ما حدث للجزء الثاني من المسلسل وللزمن الذي عرض فيه، حيث ظهر وحيد حامد (وعلى الرغم من المراجع التي اعتمد عليها في كتابة نصه وأوردها في تتر المسلسل لتأكيد حياديته) لا يختلف كثيراً عن أي من المحققين الذين ظهروا في مسلسله وهم ينتزعون الاعترافات التي يريدونها من معتقلي الجماعة، ويرددون الكليشيهات الجاهزة نفسها لخطاب الوطنية من وجهة نظر السلطة.
لم يخفِ وحيد حامد عداءه للجماعة في أي من الشخصيات الإخوانية التي كتبها، ابتداءً من المرشد حسن الهضيبي وسيد قطب وزينب الغزالي وانتهاءً بأصغر عضو في الجماعة، فبدوا جميعاً متوترين عصابيين حقودين، مصابين بجنون العظمة، منفصلين عن الواقع، لديهم هوس السيطرة وحب السلطة وشهوة القتل ورغبة الخيانة، يعترف الواحد على الكل، ويبيع أحدهم الثاني، ويضحي العضو بالجماعة التي أقسم على الولاء لها بدمه وحياته من أول صفعة كف.
كما لو أن المشاهد يتابع عملاً عن مشفى للأمراض العقلية أو من جناح المجرمين الخطرين في السجن، وليس عن جماعة سياسية لو كانت بهذه الصورة التي قدمها فيها المسلسل لما استمرت قرابة قرن وانتشرت في كل بقاع العالم، وانتُخبت في البرلمانات حتى في الدول التي هي على عداء مع أنظمتها، ووصلت إلى الحكم في عدة دول بانتخابات ديمقراطية.
وسأسلِّم أن بعض أو كل الصفات التي اختارها وحيد حامد لشيطنة الجماعة وأعضائها موجودة لدى بعضهم أو كلهم، كما في كل الأحزاب الأيديولوجية وإن كان هذا مستحيلاً في الحياة، فضلاً عن كونه من المحرمات الدرامية، فهل من المعقول أن يظهر المللك فاروق ونظامه ومن بعده جمال عبد الناصر ونظامه باللطف والحنان والعقلانية والتعامل مع الأحداث بحكمة وسعة الأفق ورحابة الصدر الذي ظهروا عليه في المسلسل، ويعطوا الإخوان المسلمين الفرصة بعد الأخرى إلى أن فاض بهم الكيل من تكرار الإخوان المسلمين "مؤامرتهم" و"إجرامهم"؟
أين صورة عمالة فاروق للإنكليز وفساده ومجونه الذي تعرفه كل كتب التاريخ وانقلب عليه الضباط الأحرار فيما سموه ثورة 23 يوليو/تموز بسببه؟ وأين إجرام عبد الناصر الذي أدخل حكم المخابرات إلى العالم العربي بحق جميع معارضيه من إخوان وشيوعيين ومن سواهم؟ وأي اختلاف بين اتهام نظام عبد الناصر للإخوان المسلمين بالتعامل مع البريطانيين والأميركان، واتهام الشيوعيين بالعمالة للاتحاد السوفييتي السابق؟
لقد قام وحيد حامد من دون أن يدري، وفي غمرة انشغاله بشيطنة جماعة الإخوان المسلمين، بتقديم خدمات جليلة لنظامي الملك فاروق وعبد الناصر، عبر تغيير العدو من النظامين الفاسدين المجرمين، وتحويلهما إلى حماة للمجتمع وساهرين على أمنه وراحته ووطنيته، إلى العداء لجماعة لها ما لها وعليها ما عليها، لا تختلف كثيراً عن الشيوعيين أو البعثيين أو الناصريين أو القوميين السوريين، من حيث التركيب الحديدي لتنظيماتهم التي تأتمر بأمر المرشد أو الأمين العام أو الرئيس، ولا تسمح برأي مخالف أو مختلف، وتسعى للوصول إلى السلطة بشتى الوسائل، وبعض هذه الأحزاب وصلت إلى الحكم بأساليب أحط وأكثر إجرامية من الأسلوب الذي سرده وحيد حامد في مسلسله "الجماعة 2" لتاريخ الإخوان المسلمين.
على المستوى البصري، ظهر المسلسل متواضعاً أقرب إلى الدراما الإذاعية، ولو حاول مشاهدٌ ما، أن يغطي تلفزيونه ويكتفي بسماع الحوار، لم يكن ليفوته شيء في فهم الأحداث، التي اقتصرت فيها الصورة على الجلوس والنهوض من الكراسي والتوجه لفتح الباب أو توديع شخص ما إليه، مع شرح صوتي للصورة يغني عنها، فيما بدت الشخصيات ذات وجه واحد، يستطيع المشاهد معرفتها والإحاطة بأهدافها من حلقة واحدة، فالطيب طيب، والشرير شرير، وانعكس هذا على أداء الممثلين الذين قرأوا الحوار بإرشادات الانفعال المطلوبة في النص لا أقل ولا أكثر، والتي وصلت ذروتها في الأداء الكركوزاتي لشخصية سيد قطب، التي أريد لها أن تجسد ذروة خصومة المؤلف للجماعة التي يكتب عنها.
ومع كل أخطائه السياسية التي تصل لحد التزوير عبر تكبير حدث وتصغير آخر ورواية نصف الحقيقة، وتواضعه الدرامي الذي لا يليق بكاتب مبتدئ فكيف إذا كان الكاتب وحيد حامد، ورداءته الفنية التي تعيد الدراما إلى زمن ومستوى استديوهات الأماكن المغلقة والديكورات البدائية وشخصيات الوجه الواحد- فإن المسلسل كان من الممكن أن يحظى بتقبل أكثر من حالة البرود التي قوبل بها، لو أنه عُرض في زمن غير زمن الهيجان الرسمي العربي ضد جماعة الإخوان المسلمين التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة بعد انقلاب الجنرال السيسي في مصر، والتي ساهمت في تحويل المسلسل إلى مجرد تعليق سياسي في الصفحة الأولى لجريدة الأهرام يريد كاتبه أن يثبت فيه ولاءه للسلطة الحاكمة، ويقرأه المتابع على أنه كُتب لهذا الهدف لا أقل ولا أكثر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.