سمعنا زمنين من الغناء؛ الأول غنى فيه عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد ووردة وميادة وعزيزة جلال ونجاة وطلال مداح ووديع الصافي وناظم الغزالي، وغيرهم كثير، كما سمعنا الأغاني السريعة، التي تكتمل مع الانتهاء من وجبة خفيفة والألحان شبه الموحدة، والضجيج، والصور الصارخة.
ثمة من يثني على الأول ويتجهم في وجه الثاني؛ إذ إن الصورة الجنسية المتلاحقة والتعري أثار انتباه الأجيال الحالية أكثر من الكلمات التي تغوص في عمق المشاعر وتعبر عن التسهد والشوق والحنين لحبيب دائماً أو عادة لا يرجى انتظام عقد وده وصفائه.
إلا أن تاريخاً آخر خفياً للفن في كلا العصرين يجمع بينهما، يجعلهما يتطابقان أو يتشابهان على أقل تقدير، وهو تثمين الجيوش العربية بعد موجة الانقلابات التي اجتاحت المنطقة العربية مسقطة أنظمة ملكية وجمهورية صنعت على أعين الإنجليز قبل تسليمهم زمام منطقة الشرق الأوسط للصاعد الجديد على الساحة الدولية، بعد الحرب العالمية الثانية، ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية.
غنى عبدالحليم حافظ "كلنا كده عاوزين صورة" لنظام عبدالناصر، الذي وصفه المؤرخ محمد جلال كشك في أحد تعليقاته اللاذعة بأنه ترك مصر مشهورة "بفول قها، والخادمة المصرية في الخليج" تركها مهزومة تائهة ضائعة، وفعلت مثله أم كلثوم، وطابور لا يحصى من المغنين المصريين، أو من العرب الذين نالوا شهرتهم في القاهرة.
وفي الزمن الحديث غنى الفنان الأردني عمر العبد اللات "جيش الأبطال" يقصد الأردني، صاحب إنجاز الأسود عام 1970، إضافة إلى أغانٍ عن بطولات لم تتجاوز العرض العسكري أمام أمراء النفط؛ حيث تزهو رتب لم تشارك إلا في قمع شعوبها.
غنى حسين الجسمي المرتبط في الذهن الشبابي العربي بالتشاؤم، عن انقلاب 30 يونيو/حزيران المصري، محرضاً المصريين على النزول وانتخاب الجنرال القاتل عبدالفتاح السيسي، مع أن السيسي ما كان يحتاج إلى مثل هذه الأغنية لإكمال مشواره الانقلابي في الاستيلاء على السلطة.
بصرف النظر عن القيمة الفنية للزمن السابق أو الحاضر، وزاوية النظر إلى جودة الكلمات والألحان، إلا أنهما لم يحترما أي قيمة ديمقراطية أو يدافعا عن أي حق إنساني، ولم يوجها الجمهور إلى السامي من المعاني الإنسانية والسياسية، بل قادا أجيالاً كاملة إلى الانتحار العاطفي والعقلي.
راهن الفنان العربي كشرط للثراء والشهرة على قصور الأمراء والوزراء، وحانات السياسيين والمتنفذين اقتصادياً، كأسلافهم في قصور الأمويين والعباسيين والإخشيديين، ولم يجد المتحررون منهم غير وسائل النشر الاجتماعية، أو الجلسات الخاصة للتعبير عن القيم الديمقراطية والإنسانية.
ويستدعي الفنانون في وقت الأزمات التي تواجه الأنظمة والجيوش الحاكمة، لتشتيت أذهان الشعوب والنزول بهم إلى أحط الغرائز.
في أزمنة التغييب يطفح الفن الأصيل أو الرديء مدافعاً ومحامياً عن الديكتاتوريات، ومناصراً لجيوش قضت على كل أمل في الحياة أو شبه الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.