أهم مقتنيات بيكاسو السرية أثناء الحرب العالمية الثانية

ها نحن نستيقظ صباحاً ونذهب إلى العمل، ما زال الكثير منا يرسم أو يكتب أو ينحت، نحاول جاهدين التخلص من الخوف والقلق من حدوث الأعظم، نعم ما زالت لدينا الشمس التي تشرق علينا كل صباح.. ما زال لدينا طلابنا الذين يبتسمون لنا وينتظرون منا السير معهم، ما زالت اليمامات تعشش في المنازل.. وما زال الغراب يتبختر بمشيته المضحكة في الساحات العامة.. نعم إنها الحرب.. لكن الأروع من كل ذلك أنه ما زال لدينا ماء ساخن قد يكفي لتحضير كأس من الشاي نحتسيه صباحاً مع من بقي هنا على الرغم من الحرب.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/20 الساعة 02:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/20 الساعة 02:27 بتوقيت غرينتش

في أول زيارة لفرانسواز جيللو وصديقتها الرسامة جنفييف لمشغل -بيكاسو- الواقع في شارع (دوغراند أوغستين) بعد لقائهما به في مايو/أيار سنة 1943 في مطعم صغير، ليستقبلهما ويأخذهما بجولة في مشغله ويعرفهم على المكان الذي رسم فيه الغرنيكا ومنحوتة الرجل والخروف، وغيرها من تحفه الفنية.

وحسب ما جاء في كتاب فرانسواز جيلو "حياتي مع بيكاسو" حيث تقول: ودلفنا إلى قاعة صغيرة في ركن قصي. قال (وهنا أقوم بأعمال الحفر engraving) ثم قال: "تعالا وانظرا هنا" وتوجه نحو المغسلة ففتح الحنفية وجرى الماء، وبعد قليل تكون بخار ماء كثيف "أليس ذلك رائعاً؟ لدي ماء ساخن على الرغم من الحرب".
بماذا كان يفكر بيكاسو في تلك اللحظة، خلال تعريفه إياهما على روائعه الفنية ليترك كل شيء خلفه،
ويدعوهما لمشاهدة صنبور ماء؟

ذكرني هذا الموقف بموقف قديم حصل معي، حين كنا طلاباً بالجامعة أنا وإخوتي الأصغر مني، وفي إحدى الأمسيات طرحت الأخت الصغرى سؤالا مفاده: ما أجمل أمنية قد يحصل عليه المرء في الحياة؟
كلٌّ أخبر بأمنيته، أما أنا فقلت: أن يعود الإنسان إلى بيته في يوم بارد، يأخذ حماماً ساخناً ثم يحتسي كأساً من الشاي وهو مسترخ، في مقعده.
ظلوا لسنوات يذكروني بتلك الأمنية ويبدو عليهم الاستغراب فقد كانت شيئاً من بديهيات الحياة اليومية، وأنا كنت قد جعلت جني القمقم يقهقه من غبائي، حين تركت كل أمنيات العالم وتمسكت بحمام ماء ساخن.

نعم ها قد كُتب لنا أن نشهد حرباً حقيقية، أن نعيشها ونعيش ذيولها، النزوح من مناطق الخطر، الانفجارات والتفجيرات، الموت المتربص بنا بكل لحظة، الخوف الدائم من حدوث شيء مفاجئ، الالتقاء بشكل يومي بمن ترك خلفه بيته بباب مخلوع، ومن جمع مقتنياته التي حافظ عليها طوال حياته في صندوق تاركاً إياه خلف الباب كأنه ترك قطعة من قلبه، ومن هرب سريعاً تحت القصف لينسى قطه المدلل هناك، من نجا بحياته مخلفاً أعماله الفنية لتحترق عن بكرة أبيها، من أتته الفرصة ليدخل بيته في فترة الهدنة البسيطة ليجول بعينيه ويبحث عما عليه أخذه قبل الرحيل ليجلس على سريره وينوح. فكل شيء يصبح عزيزاً والاختيار مأساة أخرى.

أعود وأسأل بماذا فكر الرجل وهو يفتح صنبور الماء الساخن؟ هل كان يسخر؟ هل كان يحاول إنهاء الحديث؟ هل تعب فجأة؟ لا.. ببساطة إنها الحرب، الخوف، والقلق، والبرد القارس. ربما شعر الرجل للحظة بسخف العالم المحيط به وسخف كل الأعمال الفنية أمام الحصول على أبسط متطلبات الحياة، تلك المتطلبات البديهية التي لا يستطيع أحد أخذها منك بقدر ما يمكن لوقاحة وفظاظة الحرب أن تفعله.

ها نحن نستيقظ صباحاً ونذهب إلى العمل، ما زال الكثير منا يرسم أو يكتب أو ينحت، نحاول جاهدين التخلص من الخوف والقلق من حدوث الأعظم، نعم ما زالت لدينا الشمس التي تشرق علينا كل صباح..
ما زال لدينا طلابنا الذين يبتسمون لنا وينتظرون منا السير معهم، ما زالت اليمامات تعشش في المنازل.. وما زال الغراب يتبختر بمشيته المضحكة في الساحات العامة..

نعم إنها الحرب.. لكن الأروع من كل ذلك أنه ما زال لدينا ماء ساخن قد يكفي لتحضير كأس من الشاي نحتسيه صباحاً مع من بقي هنا على الرغم من الحرب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد