انتشر جدل واسع مؤخرا بشأن مقال مجلة الشراع عن السيدة فيروز، والذي اتهمها بأشياء عديدة منها حب المال والتخلي عن الناس.
لا شك في أن المقال تحريضي، وأقل ما يوصف به هو أنه من نوع الصحافة الصفراء. لكنني بالمقابل لن أقول إن فيروز خط أحمر ولن أشترك في حملات مهاجمة من تجرأ عليها. المشكلة الحقيقية ليست في نص المقال، الذي سينساه الناس عاجلاً أم آجلاً، المشكلة الحقيقية هي أن كل شيء حتى فيروز قد يصير ضحية للاصطفافات والتطرف الذي يحيط بالمشهد العام في المنطقة.
اللافت في الأمر أن تجربة فيروز الإعلامية كانت تدور حصراً حول الابتعاد عن الانجرار وراء الأزمات وتصفية الحسابات بين الأطراف المتنازعة. هي التي اعتزلت الإعلام والشأن السياسي، على عكس فنانين آخرين جاهروا بآرائهم واصطفافاتهم وما زالوا يكسبون احترام الصحافة والجمهور. فيروز غنت للعواصم والأرض، لكنها لم تغنِّ يوماً لزعيم ما.
كان لي الحظ عام 2011 في أن أحضر فيروز في حفلتها الأخيرة. تلك التجربة التي أتمناها لكل شخص أحب والتي ستنطبع في ذاكرتي ما حييت. كنت يومها هناك بالرغم من المطر والمرض وضيق وقت السفر إلى بيروت، وقفت أمامها بين مئات من الحضور على اختلاف التوجهات والخلفيات لنسمعها تغني ولتجمعنا فيروز كحلم جميل. صوت فيروز هو الوحيد القادر على توحيد الناس في زمن كثر فيه الانقسام.
قد تكون نهاد حداد (اسمها الحقيقي) مُحبة للمال وعاشقة للويسكي ولكن هذا لا يهم. لكل امرئ شأنه في إدارة حياته واتخاذ قراراته. والمتمعن في سيرة السيدة سيجد أنها لم تعش حياة سهلة، فهي المرأة والأم التي عاشت حياة مليئة بالعمل، حياة لا تخلو من المشاكل الأسرية والشخصية. فكيف لك أن تقيِّم حياة إنسانة عاشت زهاء الثمانين عاماً فيها الكثير من المر والحلو؟ أنا لا أعرف نهاد حداد ولكني أعرف ما تعنيه لي فيروز ولكل من أغانيها في حياتي مناسبة. فيروز إذن تجربة شخصية حميمة تختلف من شخص لآخر كما نحن نختلف كبشر عن بعضنا بعضاً.
السؤال الحقيقي لكل من هاجم فيروز على مواقع التواصل الاجتماعي هو: أين كانت آراؤكم كلها قبل نشر المقال؟ البعض جزم بأنها موَّلت جماعات يمينية، وآخرون وصفوا أغانيها بالسرقة الموسيقية، مع أن الاقتباس الموسيقي عمل شارك فيه الكثير من كبار الملحنين العرب حتى العظماء منهم. عموما فيروز ليست هي من لحن أغانيها ولا دليل على أنها مولت أحداً في يوم ما.
أحد الأشخاص علق على الموضوع قائلاً بما معناه أن فيروز لم تعد تعجب جمهورها؛ نظراً لقلة عدد مشاهدي جديدها على اليوتيوب، وكأن فيروز تدخل في معادلات من يتنافسون على الساحة الفنية. يكفي أن فيروز متواجدة في في وجدان أجيال برمتها وليس مطلوباً منها أن تأتي بجديد، فما المطلوب منها أن تفعل أكثر مما فعلته في مسيرة تفوق الألفي أغنية؟ فيروز أحبت جمهورها بصدق فأعطته الكثير ليزين صباحاته ومساءاته.
المقلب الآخر ممن يستميتون في الدفاع عن فيروز وصلوا حدوداً بعيدة من التبجيل، فذهب البعض حداً يقول فيه إن التطاول على فيروز من علامات الساعة وجملاً أخرى فيها الكثير من التقديس والتمجيد المبالغ فيه. فيروز ليست ملاكاً بل هي إنسانة، وعلى الأغلب إنها إنسانة بسيطة. التجربة الرحبانية، بما فيها من صورة مثالية لبلاد اليوتوبيا، هي الأخرى ليست عصية على النقد. ثوابتنا لم تعد أبيض وأسود في وقت زادت فيه التناقضات، وتبجيل الرموز هو أيضاً خطيئة كبرى.
في الأعوام الأخيرة التي شهدت تزايداً للجدل على المنصات الافتراضية، صارت تسود بيننا ثقافة من استسهال الافتراء على الآخرين والتدخل في حياة الناس الشخصية. صار لكل منا محكمة يكيل فيها الاتهامات على من يشاء. صرنا وبلا شك أكثر حرية وأكثر انتقاداً للرموز. جميل أننا ما عدنا نبجل الرموز، فالتماثيل لا تصمد أمام الزلازل، ولكننا أيضاً صرنا نمحو بجرّة قلم كل الإنجاز الإنساني والفني لشخص ما بسبب موقف سياسي، كأن الفنان محصن من الأخطاء والعثرات وسوء التقدير في بعض الأحيان.
المشكلة الحقيقية هي أن ما نراه من عنف وغضب حولنا كل يوم صار ينعكس على ذواتنا. صرنا مجتمعات متطرفة، إما نقدس الرموز أو ندوس عليها بلا رحمة. صرنا نلهث وراء الاصطفاف المذهبي السياسي أياً كان بحثاً عن هوية.
الحل كل الحل في الوسطية، فكل شيء قابل للشك والتقييم، الثابت الحقيقي ربما هو أن الجمال يبقى ليعيش والقبح زائل لا محالة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.