يحمل التاريخ في كتبه قصص العديد من الدول والجيوش التي تعرضت لهزائم كبيرة كادت تنهي وجودها، لكنها عادت بعد تلك النكبات العسكرية إلى الحياة من جديد، ومنها من كانت عودته أقوى بكثير، هذا الأمر ينطبق على الدولة العثمانية التي تكبدت خسارة فادحة في معركة أنقرة.
إذ تعد هذه المعركة التي حدثت في الفترة ما بين 20 و28 يوليو/تموز 1402، من المعارك الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية خلال ذروة نشأتها وتوسعها في آسيا الصغرى وأوروبا الشرقية. دارت أحداثها بين جيش السلطان العثماني بايزيد الأول وجيوش القائد التتري الشهير تيمورلنك، وكانت نتيجتها هزيمة ساحقة للعثمانيين الذين كانوا حينها على مقربة من فتح القسطنطينية، غير أن تلك الهزيمة جعلت الفتح العظيم لعاصمة العثمانيين يتأخر لـ50 سنة.
إضافة إلى ذلك، شهدت المعركة أسر أوّل وآخر سلطان عثماني في تاريخ الدولة العثمانية من قِبل قواتٍ معادية، كما أنّ المعركة عدّت أكبر مواجهة برية في العصور الوسطى.
أنقذت القسطنطينية من الفتح المبكر
في سنة 1389م، تولى بايزيد الأوّل الملقب بالصاعقة العرش سلطاناً للدولة العثمانية، وشرع منذ ذلك الوقت في تقوية جيشه والزحف به بين ثغور الجهاد على الحدود مع أوروبا والأناضول، وكان الصاعقة يحقق انتصارات متتالية، وكانت مساحات الدولة العثمانية في عهده في توسع دائمٍ، حتى وصل إلى القسطنطينية التي أطبق عليها حصاراً خانقاً، التي كانت الهدف الأساسي للسلطان العثماني.
في تلك الأثناء، كان القائد التتري تيمورلنك يؤسس إمبراطوريته التترية ويتوسع بشكلٍ رهيب في أراضي المسلمين خصوصاً بعد استيلائه على بغداد سنة 1401، وتوجهه إلى الأناضول بسبب هروب أمراء بغداد إليها، ورفض العثمانيين تسليمهم، وذلك وفقاً لكتاب: "تاريخ الدولة العثمانية" للمؤرخ التركي يلماز أوزتونا.
شعر بايزيد الصاعقة بالخطر التتري، ورأى وجوب التصدي له، وعلى الرغم من أنّ بايزيد وقتها كان يحاصر القسطنطينية، وكان يوجه اهتمامه لمحاربة البيزنطيين، إلّا أنّ خططه في فتح القسطنطينية اصطدمت بالمدّ التتري في أراضي الأناضول.
فقد وجد البيزنطينيون المحاصرون في القسطنطينية مطلع القرن الـ15، في تيمورلنك، فسحة الأمل التي تنهي الحصار الضارب لبايزيد الصاعقة.
فقد أجبر تحرك جيوش التتار في الأناضول ومحاولة استيلائهم على أنقرة، السلطان العثماني بايزيد الأول على توجيه جيشه من القسطنطينية إلى أنقرة من أجل صد التتار، وبالتالي إنهاء حصارها، وبذلك أنقذ تيمورلنك القسطنطينية من الفتح المبكر.
لكن ما سبب وقوع معركة أنقرة؟
عندما أغار تيمورلنك على بغداد، واستولى عليها سنة 1401، فرّ أميرها أحمد بن أويس الجلائري وقام باللجوء إلى السلطان بايزيد الأول، حينها أرسل تيمورلنك إلى السلطان بايزيد يطلب منه تسليم أمير بغداد الهارب، غير أنّ السلطان بايزيد رفض طلب تيمورلنك، فكان ذلك سبباً في تردي العلاقة بين الرجلين.
إذ قام تيمورلنك بحشد جيوشه والإغارة على بلاد الأناضول، التي كانت حينها تخضع لحكم العثمانيين، وتمكن من السيطرة على مدينة سيواس، هناك أخذ تيمورلنك أحد أبناء السلطان العثماني وهو أرطغرل ابن بايزيد أسيراً وقام بقطع رأسه، الأمر الذي أدى إلى غضب السلطان العثماني الذي استدعى المرابطين على ثغور القسطنطينية، وسار إلى تيمورلنك من أجل قتاله والانتقام منه.
حاول تيمورلنك احتواء غضب الصاعقة، وأرسل طلباً للصلح، غير أنّ ذلك فشل وكانت المواجهة العسكرية وحدها كفيلة لحلّ الخلاف بين الرجلين، لتكون معركة أنقرة الفاصلة لذلك.
الموقعة العسكرية الوحيدة التي شهدت أسر سلطان عثماني في التاريخ
تختلف المصادر التاريخية في تحديد عدد جيوش الطرفين خلال معركة أنقرة؛ فحسب كتاب: "سبع معارك فاصلة في العصور الوسطى"، شارك في المعركة حوالي مليون مقاتل، بينما يشير المؤرخ التركي إبراهيم بك حليم في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية العلية"، إلى أن عدد جيوش تيمورلنك ناهز 700 ألف مقاتل، في حين بلغ عدد قوات بايزيد الصاعقة 120 ألف مقاتل.
تشكل جيش السلطان بايزيد الصاعقة من قوات الانكشارية، بالإضافة إلى عدَّة فرقٍ من الصرب ومن إمارات آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان، وهذه الإمارت قبل خضوعها للسلطان بايزيد كانت خاضعةً لتيمورلنك، وبذلك وبحسب بعض المؤرخين لم ينسوا ولاءهم له.
كانت خطة بايزيد الصاعقة هي مواجهة تيمورلنك بعيداً عن الأراضي العثمانيَّة حتى لا يعطيه فرصة للتوغل أكثر في الأراضي الدولة، بينما كان مخطط تيمورلنك هو العكس.
كان الخطأ الفادح الذي ارتكبه بايزيد الصاعقة، هو اعتقاده أنّ جيش تيمورلنك سيمر عبر أحد الطرق التي تمكن بايزيد من السيطرة عليها وصناعة كمائن بها، غير أن تيمورلنك فاجأ العثمانيين بسلكه طريقاً آخر ومحاصرته لجيش السلطان العثماني.
حين وجد بايزيد نفسه محاصراً من جيوش التتار، أمر جيشه بالانسحاب نحو أنقرة، غير أنّ عملية الانسحاب الصعبة كلفت العثمانيين خسائر كبيرة قبل بدء معركة أنقرة أصلاً.
في الـ20 يوليو/تموز 1402، التحم الجيشان العثماني والتتري في معركة أنقرة، في منطقة جبق آباد على بعد ميل من مدينة أنقرة.
وعلى الرغم من أنّ بداية المعركة كانت في صالح الجيش العثماني، فإنّ كثرة عدد جنود الجيش التتري والإنهاك الذي تمّ في صفوف جيش بايزيد، خصوصاً بعد استيلاء تيمورلنك على المصدر الوحيد للمياه في المعركة، إضافة إلى انسحاب فِرق آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان من المعركة، أثر في سير المعركة ونتيجتها.
وفقاً لـدائرة المعارف البريطانية، خلفت المعركة سقوط نحو 30 ألف جندي عثماني بين قتيل وجريح، في حين قتل 15 ألف مقاتل من قوات تيمورلنك، وأمام هذه الخسائر، حاول بايزيد الصاعقة الانسحاب من المعركة بعد أن فقد الآلاف من جنوده، غير أنه تعرض إلى كمينٍ وحصارٍ من قِبل الجيوش التترية، تسببت في سقوطه في الأسر.
اختلف المؤرخون حول نهاية بايزيد، فبعضهم ذهب إلى انتحاره في أسره، والبعض الآخر يرى أن تيمورلنك قد قتله، لكن الثابت هو أن حياته قد انتهت خلال فترة الأسر.