لم يعطِ الكثيرون اهتماماً كبيراً لدور بريطانيا في إنشاء وولادة الدولة اليهودية، ولا عن مسؤوليتها عن وقوع النكبة، الكارثة العربية المحققة التي وقعت في العام 1948.
واليوم في الذكرى الـ75 لوقوعها التي تصادف تاريخ 15 مايو/أيار من كل عام، يظل من الضروري الوقوف على التفاصيل التاريخية المهمة التي تحدد من هو الجاني الفعلي الذي لولاه لما حدث كل شيء.
البداية كلها كانت على يد بريطانيا
في العام 1948، عانى الفلسطينيون من كارثة محققة بعدما تم تدمير حوالي 530 قرية وأكثر من 62 ألف منزل؛ قُتل على إثر هذه الكارثة حوالي 13 ألف فلسطيني، بينما طُرد قرابة ثلاثة أرباع المليون فلسطيني من منازلهم ليصبحوا لاجئين، وهو ما يعادل ثلثي السكان العرب في البلاد.
ما بات يُعرف في التاريخ باسم "النكبة الفلسطينية" كان هو الذروة، لكنه لم يكن البداية. صحيح أن الصهيونية هي حركة استيطانية استعمارية هدفها النهائي كان منذ البداية بناء دولة يهودية مستقلة في فلسطين على أكبر مساحة ممكنة، لكن لولا الاستعمار البريطاني لما تمكن الاحتلال من أن يقيم دولته.
فبعد إعلان بريطانيا الانتداب على فلسطين من قِبل عصبة الأمم في العام 1922، كانت السياسة الاستعمارية لديها هي الإشراف على تنمية كلا القطاعين اليهودي والعربي، بأقل تكلفة ممكنة أو ضمان تحقيق أقصى أرباح. فضخّت الحركة الصهيونية العالمية الاستثمار والمهاجرين في فلسطين.
ثم خلال العشرينات من القرن الماضي، بعد أن استولى النازيون على السلطة في ألمانيا، تحول تدفق المهاجرين الفقراء من بولندا إلى طوفان من اليهود الألمان الميسورين نسبياً.
ثم بحلول الثلاثينيات من القرن الماضي، كان القطاع الاقتصادي اليهودي، المدعوم بالممارسات الاستعمارية البريطانية، يهيمن على القطاع العربي في فلسطين.
وبالتالي كانت الحركة الصهيونية مدفوعة بمنطق الاستعمار الاستيطاني الذي يسعى للقضاء على السكان الأصليين ويعطّل استقلاليتهم السياسية لصالح اليهود، وهو العمل الذي ذللته بريطانيا لها.
واليوم، في الوقت الذي تتحمل فيه القوى السياسية في الغرب مسؤولية عامة عن إنشاء دولة إسرائيل، وجرائمها اللاحقة، تتحمل المملكة المتحدة مسؤولية خاصة بسبب الدور الحاسم الذي لعبته في نزع ملكية الفلسطينيين لأراضيهم عبر وعد بلفور الجائر وشروط الانتداب البريطاني، وتفاصيل انسحابها عن فلسطين عام 1948.
فعبر الانتداب ووضع شروط لصالح بناء وطن لليهود، تتحمل المملكة المتحدة مسؤولية مصير الفلسطينيين، بحسب تقرير منشور في صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وعد بلفور والانتداب البريطاني مهَّدا لقيام "دولة الاحتلال"
مكّنت بريطانيا شريكتها الصغرى إسرائيل من الاستيلاء المنهجي على فلسطين. ففي 2 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917، أصدرت وعد بلفور سيئ السُمعة نسبة لوزير الخارجية آرثر بلفور، الذي وعد بدعم بريطانيا تأسيس "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين".
كان الغرض من الإعلان هو تجنيد مساعدة يهود العالم في المجهود الحربي ضد ألمانيا والإمبراطورية العثمانية. وبالرغم من احتوائه على تحذير مفاده أنه "لن يتم عمل أي شيء من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين"، لكن لم يُطبق هذا الشرط يوماً.
آنذاك، كانت المنطقة التي أُطلق عليها فيما بعد فلسطين، لا تزال تحت الحكم العثماني، وكان العرب يشكلون 90% من سكان البلاد، واليهود يشكلون 10% ويملكون 2% فقط من الأرض.
لذا كان وعد بلفور وثيقة استعمارية كلاسيكية؛ لأنه منح الحقوق القومية لأقلية صغيرة ومجرد بعض "الحقوق المدنية والدينية" للأغلبية. بعبارة أخرى، لم يؤخذ العرب بعين الاعتبار، في حين أن حقوقهم، وضمنها حق تقرير المصير القومي، تم رفضه على أنه "تحيزات غير مشروعة".
ثم في يوليو/تموز 1922، منحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب البريطاني على فلسطين.
وبالرغم من أن مهمة السلطة المنتدبة "المُعلنة" كانت إعداد السكان المحليين للحكم الذاتي وتسليم السلطة عندما يصبحون قادرين على حكم أنفسهم وتطوير المنطقة لصالح سكانها الأصليين، وتحويل المقاطعات العربية السابقة للإمبراطورية العثمانية المهزومة إلى دول حديثة. إلا أن الأمر لم يكن سوى استعمار، خاصة مع دمج وعد بلفور في الانتداب على فلسطين.
في كتابه الصادر عام 2022 بعنوان بريطانيا وانتدابها على فلسطين، يقول الكاتب الإنجليزي جون كويغلي: "الخداع هو الكلمة الأنسب لوصف الطريقة التي تلاعبت بها بريطانيا بعصبة الأمم لمنحها السلطة على فلسطين، وهو الوصف الأمثل للطريقة التي أساءت بها استخدام هذه السلطة لتحويل فلسطين من دولة بأغلبية عربية لدولة ذات أغلبية يهودية".
قبضة حديدية لوأد أي مقاومة شعبية محتملة
خلال فترة الانتداب الاستعماري، قدمت بريطانيا سلسلة من المراسيم التي سمحت لهجرة اليهود غير المشروطة لفلسطين، كما سهّلت شراء اليهود للأراضي التي كان الفلسطينيون يزرعونها لأجيال.
في المقابل، طالب العرب بفرض قيود على هجرة اليهود وامتلاك الأراضي. وطالبوا أيضاً بجمعية وطنية منتخبة ديمقراطياً تعكس التوازن الديموغرافي للبلاد.
إلا أن بريطانيا حاربت تلك المطالب وحالت دون تشكيل المؤسسات الديمقراطية الشعبية. ثم بحلول عام 1936، اندلعت ثورة عربية ضد الاستعمار البريطاني لفلسطين، فكانت ثورة شعبية استمرت حتى عام 1939.
هذه الثورة كانت صراع بقاء لبريطانيا، إذ تصرف الجيش بوحشية في انتهاك لقوانين الحرب وحقوق الإنسان ومارس سياسات العقاب الجماعي والإبادة العرقية والتهجير.
وبالتالي أضعفت المقاومة البريطانية ثورة الفلسطينيين فقُتل حوالي 5000 فلسطيني، وجُرح 15 ألفاً آخرون، وسُجن قرابة 6 آلاف. وقد استبسلت السلطات البريطانية في محاربة أي وجود فلسطيني يُذكر.
إلى ذلك، يقول المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي: "إن فلسطين لم تُفقد في أواخر الأربعينيات كما هو شائع بين الناس، وإنما في أواخر الثلاثينيات"، وذلك بسبب الأضرار المدمرة التي ألحقتها بريطانيا بالمجتمع الفلسطيني وقواته شبه العسكرية أثناء الثورة العربية.
ثم حينما انتهى الانتداب البريطاني في 14 مايو/أيار عام 1948، تمثّل انسحاب بريطانيا في تآمرها مع عميلها عاهل الأردن، الملك عبد الله، على غزو الضفة الغربية التي جعلتها الأمم المتحدة من نصيب الدولة العربية، في الوقت الذي أجرى فيه ملك الأردن اتفاقاً ضمنياً مع الوكالة اليهودية على تقسيم فلسطين بينهما على حساب الفلسطينيين.
وفي نهاية المطاف، تمكن الصهاينة بفضل تذليل بريطانيا لأي عقبات ممكنة، من الدفع بقواتهم شبه العسكرية لمهاجمة الفلسطينيين وتكثيف عمليات التطهير العرقي.
دور بريطانيا المستمر في تمكين إسرائيل حتى اليوم
ومن وعد بلفور والانتداب على فلسطين، فإن بريطانيا لا تصحح دورها في القمع الفلسطيني أو حتى تحاول إنهاءه حتى اليوم، إذ لطالما عرضت الحكومة البريطانية دعماً لا لبس فيه لإسرائيل، سواء كان ذلك من خلال غض الطرف عن الفظائع التي ترتكبها بشكل روتيني ضد الفلسطينيين، أو صفقات الأسلحة المشتركة، أو التعدي على الحريات المدنية للمواطنين البريطانيين من أجل خنق جهود التضامن مع فلسطين وقضيتها.
تدعي حكومة المملكة المتحدة علناً في سياستها الخارجية أنها تدعم السلام بين فلسطين وإسرائيل، لكنها في الوقت نفسه سمحت بأسلحة تزيد قيمتها عن 400 مليون جنيه إسترليني للقوات الإسرائيلية، بما في ذلك الطائرات والقنابل والمركبات المدرعة والذخيرة، وذلك أمام الفلسطينيين العزّل.
علاوة على ذلك، تنفق الحكومة البريطانية الملايين كل عام على شراء الأسلحة "المختبرة في المعارك" من الشركات الإسرائيلية. في عام 2016 وحدها مثلاً، وقّعت شركة الأسلحة الإسرائيلية (Elbit Systems) عقد أسلحة بقيمة 800 مليون جنيه إسترليني مع (Thales UK)، بتيسير من الحكومة البريطانية؛ لذا تُعد بريطانيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي دأبت على تسليح إسرائيل طوال 75 عاماً من وجودها.
وبعد قرابة مئة عام على النكبة، لا يزال يتعين على الحكومة البريطانية أن تعترف بتحملها المسؤولية عما فعلته حكومتها بالشعب الفلسطيني.