طوال عقودٍ طويلة، كانت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على دراية بالأعمال السرية للتجسس على بعضهما البعض، على أمل جمع المعلومات الاستخبارية، إما عن أسلحة بعضهما البعض، أو خطط الغزو، أو كوسيلة للاستخبارات المضادة، حيث كانا يلعبان لعبة القط والفأر في التجسس.
وفي الحرب الباردة، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ازدادت عمليات التجسس المتبادلة بين البلدين بشكل كبير، لدرجة أنّه عندما بنى السوفييت سفارة في واشنطن، ابتكرت الولايات المتحدة خطة لتقويض السفارة التي تم وضعها في مكان مرتفع، وذلك عبر خطة سريّة أطلق عليها اسم مونوبولي، حسب warhistoryonline.
لماذا أطلقت أمريكا عملية مونوبولي ضدّ السفارة السوفييتية؟
منذ عشرينيات القرن الماضي، كان لدى السوفييت جواسيس مندمجون في العديد من جوانب الجيش والسياسة الأمريكية. وخلال الحرب العالمية الثانية وجدت الاستخبارات السوفييتية الوقت للاهتمام بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال تلك الفترة كانت الاستخبارات السوفييتية تتلقى أوامر مباشرة من موسكو لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول خطط الحرب الأمريكية والبريطانية، بالإضافة إلى أي تقدّم كانت تحرزه أمريكا في مجال التكنولوجيا.
في الواقع، كان الجواسيس السوفييت متورطين بعمق داخل دواليب القرار الأمريكي لدرجة أنهم كانوا على دراية بالخطط الأمريكية الأكثر سرية، مثل مشروع مانهاتن، الذي أدى إلى تطوير السوفييت للقنبلة الذرية، وإشعال الحرب الباردة.
استمر هذا الوضع بعد الحرب العالمية الثانية، لكن القوتين العظميين أصبحتا الآن قادرتين على تدمير بعضهما البعض، مما أجبرهما على استخدام طرق أكثر ابتكاراً للسيطرة على بعضهما البعض، وكانت سفارتا البلدين مناط اهتمام متبادل، بسبب ما كانت تحتويه تلك السفارات على معلوماتٍ مهمة وسرّية.
بطبيعة الحال، أصبح التنصت على السفارات أولوية لكل من السوفييت والولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة.
نجح السوفييت في التنصت على السفارة الأمريكية بموسكو بدءاً من سنة 1945، وذلك عبر جهاز استماع مزروع، يعمل بالطاقة الكهرومغناطيسية داخل لوحة خشبية فنية، أهداها الاتحاد السوفييتي للسفير الأمريكي في ذلك الوقت، كمبادرة صداقة بين البلدين خلال الحرب العالمية الثانية، وعلقها السفير على حائط مكتبه، دون أن يعلم أنها كانت تتنصّت على جميع اجتماعاته.
في عام 1964، اكتشفت الولايات المتحدة 40 خطأً في سفارتها في موسكو، جعل السفارة ورقة مكتوبة في مكتب الـ"كي جي بي"، وفي عام 1984، أدركوا أن آلاتهم الكاتبة كانت تنقل سراً ما كتبوه إلى السوفييت.
أمام كل هذا، كان على الأمريكيين الرد بالتنصّت أيضاً على سفارة السوفييت في واشنطن.
عملية مونوبولي.. عندما أرادت الـ FBI التنصّت على السوفييت من نفق تحت سفارتهم
في عام 1977، كان السوفييت يخططون لبناء سفارة جديدة لبلادهم في واشنطن، على قطعة أرض تختارها وزارة الخارجية السوفييتية.
أثار ذلك الأمر استياء أجهزة المخابرات الأمريكية، فقد كانت الأرض التي تم اختيارها لبناء السفارة السوفييتية بشارع ويسكونسن، ثاني أعلى نقطة في واشنطن، مما أعطى السفارة السوفييتية موقعاً رئيسياً للتجسس على البيت الأبيض.
بإدراكها لذلك، خططت أجهزة المخابرات الأمريكية للتنصت على السفارة الجديدة واكتشاف ما إذا كان السوفييت يتجسسون عليهم.
قبل وصول المهندسين المعماريين السوفييت، أمر مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بقطع الأشجار حول موقع بناء السفارة، وإزالة أي دليل مثل نشارة الخشب وجذوع الأشجار، بعدها اشترى مكتب التحقيقات الفيدرالي سراً منزلاً من 3 غرف نوم يقع تماماً عبر الطريق، حتى يتمكنوا من مراقبة السفارة على مدار الساعة.
ومع ذلك، كانت الخطة الرئيسية هي عملية مونوبولي، وهي خطة لحفر نفق أسفل السفارة السوفييتية مباشرة. سيسمح هذا النفق لأجهزة المخابرات الأمريكية بالاستماع إلى الاتصالات والمكالمات السوفييتية.
بينما كانت السفارة قيد الإنشاء، اختار مكتب التحقيقات الفيدرالي مقاولاً، وشرع في العمل على عملية مونوبولي.
كان على مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) توخي الحذر الشديد أثناء عمله على العملية مونوبولي للحفاظ على سرية النفق، عن طريق إزالة الأوساخ بعناية، وإضافة معدات مراقبة عالية التقنية أثناء ذهابهم، وذلك لمراقبة تحركات السوفييت جيداً.
لماذا فشلت عملية مونوبولي
أثناء فترات العمل على عملية مونوبولي، غمرت المياه النفق مرات عديدة وعطلت الأشغال، وهدمت أحياناً أجزاء منه، أيضاً واجه مكتب التحقيقات الفيدرالي مصاعب في تشغيل معدات البناء داخل النفق.
وعلى الرغم من وجود خطط مفصلة لتصميم السفارة، فإنّ العمال في مونوبولي لم يكونوا متأكدين من مكان النفق بالنسبة للمبنى.
فقد عجز عملاء الـFBI وموظفيه عن تحديد موقعهم تحت مبنى السفارة؛ حيث وجدوا أنفسهم مرات عديدة تحت غرف الحمام والأرشيف والمخزن.
ناهيك عن كون السوفييت يتمتعون بخبرة عالية في التجسس المضاد، وهذا ما جعل من الصعب للغاية على الأمريكيين التجسس بنجاح على السفارة السوفييتية، فقد استخدم السوفييت ألواحاً سميكة من الرخام على الجدران، بدلاً من الطريقة التقليدية للرخام والإيبوكسي.
كما قام السوفييت أيضاً بفحص كل إطار نافذة ولوحة معدنية؛ بحثاً عن الأخطاء قبل وضعها في المبنى. علاوة على ذلك، قاموا بحفر ثقوب بعمق 30-40 قدماً حول الموقع للتحقق من وجود أنفاق.
عميل مزدوج يكشف عملية مونوبولي
استمرت أعمال بناء السفارة من عام 1977 إلى عام 1994، وفي هذا الوقت، فشلت محاولات الولايات المتحدة المتكررة والمكلفة للغاية لحفر نفق تحت السفارة ومراقبتها.
أثار ذلك الأمر اشتباه الأمريكيين في احتمال وجود خائن في المشروع في أوائل التسعينيات، وبدأوا التحقيق.
وبالفعل تأكدت شبهات الأمريكيين بوجود جاسوس يعمل ضد مونوبولي، والذي كان في الحقيقة عبارة عن عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي ويدعى روبرت هانسن، كان يرسل معلومات سرية للغاية إلى السوفييت مقابل المال، وتمّ كشفه سنة 2001.
قام العميل هانسن بكشف عملاء مزدوجين للولايات المتحدة لصالح جهاز الاستخبارات السوفييتي KGB، وكشف أيضاً عن خطط حول مشروع النفق الذي تبلغ تكلفته عدة ملايين من الدولارات للتنصّت على السفارة السوفييتية.
كان هانسن قد كشف عن وجود النفق عام 1989، أي قبل عام 1994 الذي انتقل فيه الروس إلى سفارتهم الجديدة بوقت طويل، مما يعني أن السوفييت لم يكونوا أبداً في خطر كبير من تسجيل معلومات مهمة سراً.
وهذا يعني أيضاً أن الولايات المتحدة استمرت في حفر النفق لسنوات دون معرفة أن خطة مونوبولي قد تم الكشف عنها.
وعندما نشرت تفاصيل عملية مونوبولي للعلن عام 2001، تظاهرت الحكومة الروسية بالصدمة بشأن الحادث، وهو أمر كانوا يعرفون عنه بالفعل لأكثر من 10 سنوات!