منذ تأسيس وكالة المخابرات الأمريكية، وبحسب الوثائق العديدة التي تم رفع السرية عنها، لطالما جمعت الـCIA بين الحرب النفسية والدعاية المضللة واستخدامها لصالحها.
فكانت مسؤولة وبشكل مباشر عن تحريك المظاهرات في إيران والإطاحة بحكومة محمد مصدق عام 1953، وتزوير الانتخابات في إيطاليا لصالح اليمين عام 1948، والتخلص من الرئيس "جاكوبو أربينز" في غواتيمالا عام 1954، وغيرها الكثير.
سواء كان ذلك بتسليح الجماعات المسلحة أو تحريك المظاهرات، أو عن طريق الحرب النفسية والدعاية للتأثير على آراء وعواطف ومواقف وسلوك أي معارض أو ما تعتبره الولايات المتحدة عدواً لها، وربما كانت واحدة من أغرب تلك العمليات ما حدث في الفلبين واستخدام أسطورة مصاصي الدماء لإضعاف المقاومة الفلبينية.
ماذا كانت المخابرات الأمريكية تفعل في الفلبين
مع اندلاع الحرب الإسبانية الأمريكية في أبريل/نيسان 1898، كانت الفلبين مستعمرة إسبانية، ادعت أمريكا حينها مساندة الفلبين للتخلص من الاحتلال الإسباني، وأنه بمجرد انتهاء الحرب، تنال البلاد استقلالها.
وفي هذا الإطار أعاد الأمريكيون الزعيم الثوري الفلبيني إميليو أغينالدو إلى البلاد، لكنهم وبعد طرد الإسبان، رفضوا الاعتراف بالجمهورية الفلبينية المستقلة التي أعلنها أغينالدو، فقرر الشعب الفلبيني التخلص من الاحتلال الأمريكي لكن دون جدوى.
ولكن بعد 10 أشهر من نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، منحت الولايات المتحدة الفلبين استقلالها، ومع هذا بقيت القوات الأمريكية وعملاء المخابرات الأمريكية، هناك يتدخلون في الحياة السياسية بالفلبين.
لذا نشطت المقاومة المسلحة في فيتنام لنيل الاستقلال التام، وقادها شخصيات وطنية على رأسها لويس تاروك، الذي كان بطلاً في أعين جماهير الريف، وزعيم حرب العصابات لجماعات المقاومة التي حاربت الغزاة اليابانيين على الأراضي الفلبينية قبل ذلك وعرفت تلك الجماعات باسم "الهوك".
وبعد انتهاء الحرب حملت تلك الجماعات السلاح مرة أخرى ضد القوات الأمريكية، خاصة بعد اصدار قانون بيل التجاري أو ما يعرف بـ"قانون الفلبين التجاري" المثير للجدل، والذي أعطى الولايات المتحدة سيطرة واسعة على الصناعات والاقتصاد الفلبيني.
ومع عدم تمكن الحكومة الفلبينية الموالية لأمريكا من القضاء على المقاومة حتى عام 1948، بسبب الفساد والفضائح الشخصية للرئيس الفلبيني حينها، قررت وكالة المخابرات المركزية التدخل لحل الموضوع بنفسها، فتولى الملف الجنرال الأمريكي ووكيل الـCIA، "إدوارد لانسديل".
وبسبب طبيعة الأدغال الوعرة، وقدرة أفراد المقاومة الفلبينية على الاختباء داخل تلك الأدغال، والدعم الشعبي الذي حصلوا عليه من سكان القرى في تلك المناطق، كان الحل العسكري لن يحقق النصر للقوات الأمريكية، فقرر "لانسديل" استخدام الحرب النفسية، واستخدام سمعة "أسوانج" الأسطوري ضد المقاومة ومن يدعمها، وهو مخلوق خرافي يشبه مصاصي الدماء من الفلكلور الفلبيني.
أسطورة "أسوانج" مصاصي الدماء في الفلبين
من عام 1950 إلى عام 1954 ركزت المخابرات الأمريكية جهودها، في المقاطعات التي كانت مركزاً للمقاومين الفلبينيين، يذكر "لانسديل" في مذكراته أنه تم إحضار فرقة حرب نفسية قتالية، وزرعت قصصاً بين سكان احدى القرى، عن مشاهدات لمخلوقات "أسوانج" مصاصي الدماء يعيشون على التل حيث كان يتمركز أفراد الـ"هوك".
وبعد ليلتين، وإعطاء القصص وقتاً كافياً لتصل إلى معسكر الـ"هوك"، نصبت فرقة من المخابرات الأمريكية كميناً على طول المسار الذي يستخدمه أفراد الـ"هوك"، وعندما جاءت دورية منهم، اختطف الكمين الأمريكي آخر رجل من الدورية بشكل صامت.
ثم قاموا بثقب رقبته بفتحتين، على غرار عضات مصاصي الدماء، ورفعوا الجسد وعلقوه بالمقلوب، حتى فرغت جثته من الدم، ثم أعادوا الجثة إلى الطريق الذي خطفوه منه، وعندما عاد الـ"هوك" للبحث عن رفيقهم المفقود، وجدوا جثته بتلك الحالة المرعبة.
اعتقد أفراد الدورية أن مصاصي الدماء قد اختطفوه وأن أحدهم سيكون التالي إذا بقوا على ذلك التل، وتكررت الحوادث المماثلة لاحقاً وتراكمت جثث أفراد الـ"هوك"، الذين كان يتم اختطافهم، أو القرويين الذين يشك في أنهم متعاطفون أو يساعدون المقاومة، ليتم العثور عليهم لاحقاً وآثار العض على رقبتهم ليظن الجميع أنهم قُتلوا على يد مصاصي الدماء.
وبالنظر إلى الطبيعة الريفية للمجتمع الفلبيني في تلك الحقبة، كان الإيمان بمصاصي الدماء قوياً، إلى جانب كيانات أخرى خارقة للطبيعة، وهذا ما جعل خطة المخابرات الأمريكية تنجح.
كشفت التقارير أن سكان تلك المناطق الذين كانوا ذات يوم إما غير مبالين أو متعاطفين مع قضية الهوك، كانوا مرعوبين بلا شك، حتى قلّت أعداد الـ"هوك" في الأدغال الذين لم يرغبوا في أن يكونوا الضحية التالية لمصاصي الدماء.وبحلول أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، انخفضت أعداد المتمردين الهوك، وتوفي العديد من القادة الأوائل، ورأى المؤيدون السابقون أن جهودهم غير ذات فائدة، مع ازدياد أعداد الجيش الفلبيني بنسبة 60%، والذي شهد مزيداً من الانتصارات ضد الهوك. وفي مايو/أيار 1954، استسلم زعيم الهوك لويس تاروك ووافق على السجن لمدة 15 عاماً.