خلال الحرب العالمية الأولى، بقيت مملكة اليونان على الحياد، ولكن مع انتهاء الحرب عام 1918 وخسارة الدولة العثمانية، وجدت اليونان الفرصة مناسبة للسيطرة على بعض الأراضي العثمانية، وخاصة مدينة أزمير.
لكنها سيطرة لم تدم طويلاً، فبعد 3 سنوات فقط، تمكنت تركيا من تحرير إزمير من الاحتلال اليوناني يوم 9 سبتمبر/أيلول، وأصبح ذلك اليوم تاريخاً مهماً في حروب التحرير والاستقلال، التي انتهت بتحرير جميع أراضي الأناضول، وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة على يد "مصطفى كمال أتاتورك" ورفاقه، أواخر عام 1923.
نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم الدولة العثمانية
بعد هزيمة "قوات المحور" التي كانت الدولة العثمانية جزءاً منها، في الحرب العالمية الأولى عام 1918، وقعت الدولة العثمانية على "هدنة مودروس"، والتي بموجبها أعلن العثمانيون تسليم حامياتهم المتبقية في الحجاز واليمن وسوريا والعراق وطرابلس وبرقة.
ومنحت شروط الهدنة، الحلفاء السيطرة على مضيق الدردنيل والبوسفور؛ وحق احتلال مقاطعات الأناضول في حالة حدوث "الفوضى"، والاستيلاء على مناطق استراتيجية في حالة وجود تهديد لأمن الحلفاء.
كما تم تسريح الجيش العثماني، وجعل الموانئ العثمانية والسكك الحديدية وغيرها متاحة لاستخدامها من قبل الحلفاء.
وقبل توقيع الهدنة بعام واحد كانت هناك مناقشات بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا لتقسيم الدولة العثمانية، فوقعت هذه الأطراف اتفاقية سانت جان دي مورين عام 1917 التي ضمنت مصالح إيطاليا في المنطقة، ورسّمت حدود المصالح بين فرنسا وإيطاليا جنوب غرب الأناضول في حال تقسيم الدولة العثمانية.
وعلى ضوء ذلك، احتلت القوات الإيطالية مدينة أنطاليا، وكانت تنتظر السماح لها بدخول إزمير، لكن بريطانيا وفرنسا قررتا استخدام الجيش اليوناني لإيقاف أطماع إيطاليا، فقدم رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج الدعم الكامل لليونان.
وأوصى بالسماح لرئيس الوزراء اليوناني "فنيزيلوس" بأن يرسل القوات اليونانية للسيطرة على "سميرنا" في إزمير، وهي ميناء في الأناضول يسمح بوصول الحلفاء لاحتياطات النفط في الشرق الأوسط.
وسمحت قوات الحلفاء لليونان بالسيطرة على الأراضي التي يسكنها المسيحيون الأرثوذوكس ورعايا الدولة العثمانية من القومية اليونانية.
وعلى الفور باشرت اليونان بإطلاق حملة استكشافية في الأناضول واحتلال إزمير، فنزل الجيش اليوناني في إزمير في 15 مايو/أيار 1919، بذريعة توحيد جميع الأراضي "الناطقة باليونانية".
بداية تأسيس تركيا وانطلاق المقاومة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك
عام 1919 كانت الحكومة العثمانية قد أرسلت، بضغط من الحلفاء، مصطفى كمال أتاتورك إلى مناطق "أرضروم وسيواس" لحفظ الأمن بعد ظهور حركات مقاومة مسلحة ضد القوات المحتلة الغربية.
لكن عندما وصل "مصطفى كمال أتاتورك" ميناء سامسون في 19 مايو/أيار 1919، أعلن بدء النضال الوطني التركي في حرب التحرير والاستقلال، وأعلن رفضه الاستسلام للاحتلال اليوناني في إزمير، وبدأ بتنظيم المظاهرات احتجاجاً على الاحتلال وتوحيد القوى المناهضة له.
ومنذ ذلك الحين بدأ سلسلة من الاجتماعات التي كانت تهدف لتحديد الإمكانات العسكرية والاقتصادية ودراسة الأوضاع السياسية في البلاد، أفضت هذه الاجتماعات إلى إصدار "بيان أرضروم" الذي أكد فيه مصطفى كمال ورفاقه على حق تقرير المصير والحفاظ على الحدود "التركية".
ثم اتخذ أتاتورك من أنقرة مقراً له، وأعلن أن حكومة أنقرة هي الحكومة الشرعية، ووضع الأسس اللازمة لإقامة حكومة وبرلمان جديدين، ووجدت الحركة الوطنية التركية في أتاتورك قائداً لها، وانطلقت في مقاومة الاحتلال اليوناني ووصاية الحلفاء على إسطنبول والبلاد كلها.
معاهدة سيفر ومحاولة القضاء على حكومة أنقرة
في عام 1920 وقَّعت الحكومة العثمانية في إسطنبول "معاهدة سيفر" مع الحلفاء، والتي أصبحت بمثابة إعلان نهاية الدولة العثمانية، بموجب هذه المعاهدة، انتقلت معظم المناطق القريبة من إسطنبول إلى اليونان؛ وتدويل البوسفور ونزع سلاح العثمانيين هناك.
وأصبحت سوريا تحت سلطة الاحتلال الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الاحتلال البريطاني، ولكن مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه رفضوا تلك المعاهدة وبنودها.
على الجانب الآخر وتثبيتاً لأركان حكمها في إزمير، شنت القوات اليونانية سلسلة من الهجمات في صيف 1920؛ شملت عددًا من مدن شمال غرب الأناضول، ثم مُنحت القوات اليونانية الولاية القضائية على إزمير لمدة 5 سنوات، بموجب معاهدة سيفر، واستحوذ "فينيزيلوس" رسمياً على جزر بحر إيجة، وتراقيا الشرقية، وإزمير ومناطقها المحيطة.
بالإضافة إلى ذلك ووفقاً لأحكام المعاهدة، كان لإزمير حق الحفاظ على برلمان محلي، وإذا طالبت خلال 5 سنوات بالانضمام إلى مملكة اليونان، تشرف عصبة الأمم على استفتاء يقرر هذه المسألة.
وخلال تلك الفترة لم تستطع قوات كمال أتاتورك تحقيق انتصارات كبيرة، بسبب تشتت المقاومة، وعدم توفر الأسلحة والعتاد الكافي.
عضة قرد غيرت مجرى التاريخ
على مر التاريخ كانت هناك أحداث تافهة أو غريبة، لكنَّها أدت لأحداث أكبر غيرت مجرى التاريخ، وما حدث مع ملك اليونان يعتبر أحد تلك الأحداث.
في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1920، تعرض ملك اليونان "ألكسندر الأول" للعض من قبل قرد في الحدائق الملكية، وتوفي في غضون أيام بسبب التهابات ومضاعفات تلك العضة.
قرر رئيس الوزراء اليوناني "فنيزيلوس" إعلان الجمهورية اليونانية وبالتالي نهاية النظام الملكي، وحدثت اضطرابات داخلية سياسية في اليونان بين مؤيدي الملكية والجمهورية اليونانية الجديدة.
وخسر "فنيزيلوس" الانتخابات البرلمانية التي دعا لها، فقرر مغادرة البلاد، فتم تتويج "قسطنطين الأول" ملكاً لليونان، وحرصاً منه على ألا تتكرر حركة "فنيزيلوس" مرة أخرى، استبدل الملك الكثير من الضباط المخضرمين في الحرب العالمية الأولى، وعين بُدلاء موالين له عديمي الخبرة إلى مناصب عليا.
وقام بتغيير قيادات القوات اليونانية في إزمير، وأيضاً استقال العديد من الضباط المتبقين الموالين لرئيس الوزراء السابق نتيجة تغيير القيادات، وسار الجيش اليوناني المضطرب باتجاه أنقرة، للقضاء على مركز المقاومة والحكومة التركية الجديدة.
معركة إزمير.. طرد الاحتلال اليوناني وإعلان الجمهورية التركية
مع تسارع الأحداث وتخبط قيادات الجيش اليوناني، شهدت تلك الفترة إعداد العدة من قبل الثوار الأتراك الذين نظموا أنفسهم في جيش شبه نظامي بدأ يهاجم القوات اليونانية، مكبداً إياها خسائر فادحة، الأمر الذي وجدته بريطانيا وفرنسا فرصة للتنصل من وعودهما لليونان وإيقاف الدعم للقوات اليونانية، خاصة بعد هزيمة اليونانيين على يد الأتراك في معركة "إينونو الثانية" في 30 مارس/آذار 1920.
وفي منتصف سبتمبر/أيلول 1921 تحولت موازين القوى لصالح المقاومة التركية بعد الهزيمة التي ألحقها بالقوات اليونانية في معركة سقاريا التي وقعت بالقرب من العاصمة أنقرة.
وفي صباح يوم 26 أغسطس/آب 1922، أعلن أتاتورك عن بدء "الهجوم الكبير" الذي حُضر وخُطط له بدقة وعناية لمدة عام كامل، بعد الانتصار في معركة سقاريا.
عرضت القوات اليونانية الهدنة على أتاتورك لكنه رفض، وأمر قواته بمطاردة الفلول اليونانية باتجاه إزمير غرباً، مطالباً إياهم بعدم التوقف إلا إذا رأوا البحر الأبيض المتوسط.
وبعد عدد من المعارك، تمكنت القوات التركية من أسر القائد العام للجيش اليوناني، الجنرال تريكوبس، ودخل سلاح الفرسان التركي مدينة إزمير في 9 سبتمبر/أيلول 1922، معلنين بذلك تحريرها من الاحتلال اليوناني بعد رفع العلم التركي على مقر الحكومة.
وبعد تحرير إزمير، تحرك الجيش التركي لتحرير باقي الأراضي وطرد الجيش اليوناني من الأناضول، وكانت خسائر اليونان تقدر بـ50 ألف جندي مقابل 15 ألف جندي تركي، تبع ذلك اتفاقية التبادل السكاني بين تركيا واليونان عام 1923، التي قضت بنقل المسلمين اليونانيين من اليونان إلى تركيا، وإعادة المسيحيين اليونان إلى اليونان.
بموجب هذه الاتفاقية، نُقل حوالي مليون ونصف يوناني من أراضي آسيا الصغرى، وتركيا إلى اليونان، ونُقل نصف مليون مسلم إلى تركيا.
توجهت قوات كمال أتاتورك نحو باقي الأراضي التركية المحتلة، وقررت الحكومة البريطانية مقاومة الأتراك إذا لزم الأمر في الدردنيل، وطلب المساعدة الفرنسية والإيطالية.
ولكن القوات الإيطالية والفرنسية تخلت عن مراكزها في المضيق وتركت القوات البريطانية وحدها في مواجهة الأتراك، وفي نهاية المطاف قررت الحكومة البريطانية عدم الدخول في أي نزاع مسلح محتمل.
حيث منع الفريق أول البريطاني هارينغتون، قائد الحامية البريطانية في القسطنطينية، من إطلاق النار على الأتراك، وحذر الحكومة البريطانية من أي مغامرة متهورة.
وتم بعدها إعلان قيام الجمهورية التركية الحديثة يوم 29 أكتوبر/تشرين الثاني عام 1923 بعد إلغاء معاهد "سيفر" وتوقيع معاهدة "لوزان"، التي تجاهلت ما أقرته معاهدة سيفر من بنود وشروط مجحفة.