تواجه كندا فضيحة على مستوى وطني، بعدما تم العثور على أكثر من ألف قبر بلا شواهد أمام بعض المدارس الداخلية التي كانت مخصصة لتعليم أطفال السكان الأصليين في كندا في القرن الماضي، بينما لا يزال البحث جارياً عن مقابر أخرى.
وتم الإعلان عن العثور على 3 مقابر جماعية في أقل من شهر في 3 مقاطعات، كان الناجون منها والذين باتوا مسنين الآن، قالوا إنهم شاهدوا عمليات الدفن أو سمعوا عنها، حسب ما نشره موقع CBC.
وما حاولت الكنائس التي كانت تدير هذه المدارس إخفاءه على عقود، كشفته الطبيعة في تسعينيات القرن الماضي، عندما أدت الأمطار الغزيرة إلى ظهور عظام قرب مدرسة داخلية في ساسكاتشوان كشفت أسرار الماضي الدفين، حسب ما نشرته وكالة رويترز.
فما قصة هذه القبور، وما مدى تورط الحكومات الكندية في إبادة الشعوب الأصلية التي عاشت بتلك المناطق لآلاف السنين؟
القانون الهندي يعزز السيطرة الكندية على الأراضي والموارد
سكنت الشعوب الأصلية أراضي أمريكا الشمالية الشاسعة، أو جزيرة السلاحف، كما تسميها بعض الثقافات، لآلاف السنين قبل وصول المستعمرين الأوروبيين إلى القارة.
وعلى الرغم من بقاء كندا مستعمرة بريطانية عدة عقود، أصبحت دولة مستقلة عن المملكة المتحدة في عام 1867. وبهذا، ورثت الالتزامات التعاهدية والاتفاقيات التي تم توقيعها بين هذه الشعوب كأمم ذات سيادة مع التاج البريطاني.
ولكن بعد فترة وجيزة من استقلالها، عززت كندا سيطرتها على الشعوب الأصلية والأراضي الغنية الشاسعة عبر إقرار القانون الهندي (1876) أو The Indian Act، دون التشاور معهم.
ويحد القانون من الحكم الذاتي للشعوب الأصلية وسيطرتها على الأراضي، ويحدد نوع الخدمات المقدمة لهم مثل التعليم والرعاية الصحية.
وكما حصل مع الشعوب الأصلية في الولايات المتحدة، انحصر وجودهم بالمحميات الطبيعية؛ في محاولة لاحتواء ثقافتهم وممارساتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بينما يتم تحضير الأطفال والأجيال التالية للاندماج في الحضارة الغربية.
محاولات طمس الهوية
في هذه المرحلة التاريخية أيضاً، تم تجريم ممارسة بعض المناسبات الثقافية، مثل مهرجان بوتلاتش الذي يشهد إعادة توزيع الثروة في بعض الثقافات، إذ اعتبر جريمة جنائية حتى عام 1951، فضلاً عن منع ارتداء أزيائهم التقليدية أو ممارسة الصيد وغيرهما من الطقوس التي لطالما مارسوها.
كانت الحكومة الكندية في النصف الأول من القرن العشرين تمارَس وبشكل ممنهج، سياسات تهدف إلى اندثار ثقافات هذه الشعوب وهوياتهم، لتذوب كلياً في الهوية الكندية الحديثة.
في العام 1920، على سبيل المثال، قال نائب المشرف العام للشؤون الهندية دنكان كامبل سكوت، عن سياسة حكومته جملته الشهيرة والمدوية: "هدفنا هو الاستمرار حتى لا يوجد هندي لم يتم استيعابه في الجسد السياسي، فلا يظل سؤال هندي، ولا دائرة هندية".
أسباب عديدة شكَّلت رغبة الكنديين في دمج الشعوب الأصلية؛ كان البعض حسن النية، مفترضاً أنه لا يمكن أن تستمر هذه الشعوب في عالم حديث إلا من خلال الثقافة الغربية.
في المقابل كانت الأسباب الأخرى أكثر خبثاً، مثل الاعتقاد بأن هذه العملية ستوقف مطالبات السكان الأصليين بأراضيهم، ما يعني تقسيمها والاستيلاء عليها لاحقاً.
المدارس الداخلية ودمج الأطفال
بالتوازي مع القوانين والسياسات التي كانت تطبق على مستوى المشرّعين، كانت المدارس الداخلية التي تديرها بعض الكنائس ثم الدولة لاحقاً، تعمل على ترويض الأجيال المقبلة.
أُغلقت آخر مدرسة داخلية في عام 1996، ليروي طلابها لاحقاً عن المآسي التي عاشوها من خلال الإساءة والتعذيب والاغتصاب وحتى القتل.
كانت تلك المدارس تفصل الأطفال عن أهاليهم بالغصب، ثم تقص شعورهم وتجبرهم على ارتداء أزياء بعيدة كل البعد عن زيهم الثقافي، فضلاً عن منعهم من التحدث بلغتهم الأم وفرض اللغة الإنجليزية إلى جانب تدريس الدين المسيحي.
لم تكن تجارب كل هؤلاء سيئة، لكن الشهادات لمن نجا منها كانت كافية لاعتراف الحكومة الكندية في العام 2015 باعتماد ما توصلت إليه لجنة الحقيقة والمصالحة الكندية والتي وصفت ما حدث بأنه "إبادة جماعية ثقافية" عندما منعت المدارس عمداً توارث القيم والهوية الثقافية من جيل إلى جيل، حسب ما نشره موقع History.
الشعوب الأصلية في كندا
ويعترف الدستور الكندي بثلاث مجموعات من السكان الأصليين: الهنود (يشار إليهم أكثر باسم الأمم الأولى أو السكان الأصليين)، والإنويت الذين يعيشون في المناطق الشمالية الباردة، والميتيس الذين تخالصت أنسابهم مع المستوطنين الأوروبيين.
ولكل من هذه الشعوب تاريخ فريد ولغات وممارسات ثقافية ومعتقدات روحية، بينما قدرت الإحصائية السكانية الصادرة عام 2016، أن عددهم جميعاً لا يتعدى 1.6 مليون نسمة، أي ما يعادل 4.9% من مجموع السكان، حسب الموسوعة الكندية.
وكانت الأجيال السابقة وقّعت مع الحكومة الكندية معادهات تقضي بأن تستخدم الدولة أراضيهم لقاء دفعات سنوية وإعفاءات ضريبية، لكن ما اعتقده السكان الأصليون بأنه اتفاقيات سلام بين كيانين، اعتبرته الحكومة الكندية آنذاك صفقات عقارية تهدف إلى إبطال مطالبات السكان الأصليين بملكية الأرض، وإزالة أو تقييد حقوق الوصول إلى الموارد.
بطبيعة الحال، تأثرت المستويات الاجتماعية والصحية والتعليمية وحتى الاقتصادية لهذه الشعوب بعد عقود من الممارسات القمعية والتمييز العنصري، إذ يعاني هؤلاء من نسب عالية من البطالة والإدمان والأمراض، ويشكلون نحو ثلث المدانين في السجون الكندية، حسب تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة.
وتمول الحكومة الفيدرالية العديد من المؤسسات الاجتماعية من خلال برامج متعددة، كان آخرها دائرة خدمات كندا للسكان الأصليين والتي تأسست العام 2017.
حراك لنشر التوعية بقضاياهم
وشهد العقدان الأخيران ظهور حراكات وتجمعات مثل حركة Idle No More (2012 – حتى الآن) و"لجنة التحقيق الوطني في نساء وفتيات السكان الأصليين المفقودات والمقتولات" والتي زادت من الوعي العام تجاه قضاياهم على مر العقود.
رغم التعديلات والدعم الذي تحاول الحكومة الكندية تقديمه في محاولة لتصحيح أخطاء الماضي، فإن الأمر ليس كافياً بالنسبة للعديد من الشعوب الأصلية، التي تصر على الاعتراف بحقهم في حكم أنفسهم والسيطرة على أراضيهم إذا ما أرادت كندا التصالح والتسامح مع مآسي الماضي.
أول حاكمة من السكان الأصليين في كندا
وفي محاولة لتضميد بعض الجراح عيَّن رئيس الحكومة جاستن ترودو، الناشطةَ في مجال حقوق شعب الإنويت ماري سيمون في منصب الحاكم العام لكندا، والذي يعتبر ممثل الملكة البريطانية، وهي سابقة تاريخية للشعوب الأصلية التي حققت بهذا التعيين أعلى منصب حكومي حتى اليوم.
ماري شاركت في صياغة بعض الاتفاقيات الحديثة مع حكومة مقاطعة كيبيك والتي تضمن حقوقاً حصرية للشعوب الأصلية في شمال المقاطعة مثل الصيد والحكم الذاتي في بعض المناطق والحصول على تعويضات مالية لقاء تشييد مشاريع اقتصادية مثل تشييد السدود لتزويد حاجة المقاطعة المتزايدة من الطاقة.
وقالت ماري إن ترشيحها التاريخي "خطوة مهمة إلى الأمام على الطريق الطويل نحو المصالحة" ونحو "بناء مجتمع كندي أكثر شمولية وعدالة".