كانت غزة دوماً مركزاً لمعارك دائمة بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، فمن ناحية كانت غزة تمثل دوماً المنطقة العازلة بين الحدود المصرية الحالية وحدود منطقة الشام. في أزمنةٍ سابقة لعب وضع غزة الجغرافي دوراً حيوياً، إذ كانت الجيوش المصرية تنطلق من خلالها، في مواجهاتٍ عسكرية مع القوات القادمة من الشام.
كانت غزة إما موطناً لمعارك تخوضها الجيوش المصرية، وإما معسكراً وقاعدةً تنطلق منها تجاه غزواتها ومعاركها في الشام.
ليس أدل على ذلك من أن إحدى كبرى المعارك التاريخية للمسلمين ولمصر في ذلك الوقت كانت معركة عين جالوت التي أوقف فيها جيش المماليك جحافل المغول من اجتياح مصر، آخر ما تبقى حينها من معاقل المسلمين في المشرق.
لكن تلك المعركة التاريخية سبقتها معركةٌ أخرى أصغر بعض الشيء. كان الظاهر بيبرس قد انطلق بطليعة الجيش من القاهرة إلى غزة، وتواجه مع طليعة المغول، واستطاع بيبرس هزيمتهم. وبعد أيام انضم له السلطان المظفر قطر وانطلقا معاً إلى عين جالوت حيث هزم المغول عام 1260.
لكن قصتنا اليوم عن معركتين أخريين وقعتا في غزة، مع الصليبيين هذه المرة، وفي المرتين كان أيضاً الجيش المصري على خط المواجهة مع الصليبيين القادمين من إماراتهم التي احتلوها من بلاد الشام.
بلاد الشام في منتصف القرن الثالث عشر
بعدما استطاع صلاح الدين الأيوبي تحرير بيت المقدس من الصليبيين عام 1187، عادت أجزاء من بيت المقدس إلى الصليبيين ضمن المساومات السياسية التي عصفت بالمشرق الإسلامي مرةً أخرى بعد وفاته بمدةٍ ليست طويلة.
ولكن الوضع الصليبي في بلاد الشام أيضاً أصبح مقلقاً مضطرباً، فدعا البابا غريغوري التاسع إلى حملةٍ صليبيةٍ أخرى على بلاد المسلمين، ومن أوروبا جاء أمير شامبانيا وملك نافارا، ودوق برجنديا، وكونت بريتاني وكونت بار، وغيرهم من صغار الإقطاعيين الأوروبيين، ووصلت القوات الصليبية الأوروبية إلى مدينة عكا عام 1239.
دار النقاش بين الصليبيين المتجمعين من أنحاء أوروبا، والصليبيين الذي استوطنوا المشرق الإسلامي منذ بداية الحملات الصليبية عام 1099، أي البلاد نبدأ بمهاجمتها؟
كان رأي بعض القادة مهاجمة مصر، لأن مهاجمتها والسيطرة عليها ستضعفان المسلمين، كما ستعضد الوجود الصليبي في بلاد الشام، لكن البعض الآخر اقترح مهاجمة دمشق، فهي التي تمثل حجرة عثرةٍ لهم في بلاد الشام حالياً، واستقر القرار على مهاجمة عسقلان وغزة كخطوة مبدئية لتحصين وتأمين جيوشهم من الجنوب، ومن غزة ينطلقون إلى دمشق للقضاء عليها واحتلالها. وعلى هذا تحركت الجيوش الصليبية.
كانت عسقلان وغزة تقع ضمن أملاك الملك العادل الثاني، ملك مصر، كما أن الصالح إسماعيل،ملك دمشق، شعر بالتهديد، لأن سيطرتهم على غزة وعسقلان ستجعل غزة قاعدةً لمهاجمته.
حصَّن الصالح إسماعيل دمشق وأخذ حذره، بينما أرسل العادل الثاني جيشاً مصرياً بقيادة الأمير ركن الدين الهيجاوي للدفاع عن عسقلان وغزة.
وصلت الأنباء للصليبيين بأن الجيش المصري لا يتجاوز عدده ألف مقاتل، بينما كانت الحقيقة غير ذلك تماماً. كانت القيادة الصليبية مفككة وليس لها قائدٌ واحد، وحين اقتربت بعض القوات الصليبية من غزة توقفوا لينالوا قسطاً من الراحة بين التلال الرملية على ساحل البحر.
كان هذا قراراً غير محسوب، أرسل الأمير ركن الدين الهيجاوي رماة الجيش ليطوِّقوا الصليبيين، واصطدم الجيشان، ووقعت المعركة في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، وكانت نتيجة المعركة كارثية بالنسبة للصليبيين. فقد قُتل منهم 1800 مقاتل، منهم كونت منطقة بار الأوروبية، كما أُسر منهم 600 مقاتل، بينما لم تكن خسائر المسلمين سوى مقتل 10 فرسان منهم فقط.
أما بقية القوات الصليبية التي لم تصل لغزة، فقد تراجعت إلى يافا، ومنها إلى عكا، وانتهت المحاولة الصليبية البائسة للسيطرة على غزة وعسقلان.
بعد 5 سنوات.. هزيمة صليبية فادحة في غزة
بعد هذه المعركة ببعض الوقت، تولى الصالح نجم الدين أيوب حكم مصر بعدما أطاح بأخيه "العادل" من الحكم، وبعد 4 سنوات ستقع معركة أخرى أكثر حسماً، وستكون خسائر الصليبيين فيها هائلة. وكانت أيضاً في غزة.
كان الصالح أيوب سلطاناً محنكاً، لم يدخل في المساومات السياسية على الأراضي الإسلامية كغيره من الأمراء الأيوبيين، كان عمه الصالح إسماعيل قد تحالف مع بعض الإمارات الصليبية لمضايقته، هنا فقط دخل الصالح أيوب في مساومات سياسية، فأعطى الصليبيين عسقلان مقابل فك ارتباطهم بعمه أمير دمشق.
وفقاً لما يخبرنا به المؤرخ اللبناني محمد سهيل طقوش، في كتابه عن الدولة الأيوبية، فقد كان هذا التصرف انتصاراً كبيراً للصالح أيوب، فهو قد دمر التحالف الدمشقي-الصليبي، كما فتت هذا الاتفاق الجبهة الصليبية، فبعض الصليبيين كانوا ينظرون إلى الصالح إسماعيل في دمشق باعتباره حليفاً استراتيجياً. وهكذا انفرط عقد الحلف الصليبي مع دمشق وتفتت القيادة الصليبية وتفرقت.
في التوقيت نفسه وصلت نجدات أوروبية من إنجلترا إلى عسقلان، وبدأ الأمير الإنجليزي بتحصين عسقلان؛ ليأمن أي هجوم متوقع من جانب مصر.
لكن الخطوات التي اتخذها الأمير الإنجليزي، لم تسهم كثيراً في رأب الصدع بالمعسكر الصليبي، فقد كان فرسان الداوية يرفضون المعاهدة التي عُقدت مع الصالح أيوب ملك مصر، ويفضلون عليها المعاهدة مع إسماعيل صاحب دمشق.
خرجت قوة عسكرية من الفرسان الداوية من عكا ويافا وهاجموا نابلس في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1242، واستباحوا المدينة وأحرقوا المسجد وأخذوا منبر الخطيب، وقتلوا عدداً كبيراً من السكان.
أمام هذه الحالة لم يسع السلطان الصالح أيوب إلا أن يرسل جيشاً من مصر يبلغ ألفي فارس إلى غزة، بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس، ولكن بيبرس هذا غير السلطان الظاهر بيبرس.
كان بإمكان الصالح أيوب أن يساوم الصليبيين كما ساوم غيره، لكنه قرر المواجهة واستعان بالخوارزميين، فدعاهم إلى الإغارة على أراضي الشام وفلسطين، وهنا تغيرت المعادلة.
وبينما دخل الخوارزميون بيت المقدس، وحرروها من الصليبيين مرةً أخرى بعد تحريرها على يد صلاح الدين، وبينما هم في القدس كان الصليبيون يحشدون أكبر جيشٍ صليبي يتم تجهيزه بعد معركة حطين. وقد انضمت قوات المنصور إبراهيم، صاحب حمص، إلى الجيش الصليبي، واتجهت القوات الصليبية من عكا إلى غزة، وهناك سيلتقي الجيشان للمرة الثانية، بعد هزيمة الصليبيين عام 1239 في غزة أيضاً.
اتخذ الجميع أماكنهم، الصليبيون في ميمنة الجيش، والدمشقيون والحمصيون في قلب الجيش، وعساكر حصن الكرك في الميسرة، ودارت رحى معركةٍ رهيبة قرب قرية أرِبيا أو هربيا، التابعة لقضاء غزة.
وفي ساعاتٍ قليلة تحطم الجيش الصليبي أمام جيش ركن الدين بيبرس والخوارزميين، وقد أحصى بعض المؤرخين القتلى في الجيش الصليبي، فكانوا نحو 30 ألف قتيل، وآلاف الأسرى الآخرين.
تُعدُّ هذه المعركة من أهم المعارك التي حدثت في فترة الحروب الصليبية، ليس فقط بسبب عدد الجيوش المشاركة، وإنما بسبب ما ترتب عليها من النتائج، فقد أنقذت مصر من الصليبيين مرةً أخرى، وتراجعت شعبية ونفوذ أمراء الشام المداهنين للصليبيين، وانحسرت الحدود الصليبية مرة أخرى إلى يافا، كما ازدادت قوة الصالح أيوب الذي ضم بلاد الشام بعد ذلك، فعاد مركز الثقل من جديد لمصر التي ستواجه بعد 4 سنوات أخرى، حملةً صليبيةً من ضمن أشرس الحملات الصليبية، الحملة الصليبية السابعة، التي سيؤسر فيها لويس التاسع ملك فرنسا، والتي سيموت في أثنائها الصالح أيوب، ومنها ستبزغ دولة المماليك بمصر والشام، التي ستحكم المشرق الإسلامي قرنين ونصف القرن من الزمان.
وبالإجمال، يسمي بعض المؤرخين معركة غزة التي وقعت عام 1244 معركة "حطين الثانية".