في الجانب الجنوبي لمدينة الكرك على بعد قرابة 120 كيلومتر جنوب العاصمة الأردنية عمان، تقع بقايا قلعة الكرك، تلك القلعة الشاهدة على عصور متتالية لأمم وحضارات وصراعات كبرى بالمنطقة.
قلعة الكرك
تعد قلعة الكرك، واحدة من أكبر وأهم قلاع الحملات الصليبيَّة في الأردن وبلاد الشام، فتبلغ مساحتها 25300 متر مربع، وترتفع عن سطح البحر 900 متر، وتبعد 130 كم عن العاصمة الأردنية عمّان.
بُنيت هذه القلعة على يد فولك، أمير بيت المقدس، لحماية الجهة الجنوبيَّة من بلاد الشام، وتأمين الطريق بين دمشق ومصر أثناء الحروب الصليبية.
أقيمت القلعة على الجانب الجنوبي من الهضبة المُثلَّثة التي تقع فوقها مدينة الكرك، ويبلغ طول القلعة 220 متراً، وأما عرضها فيتراوح من 125 متراً في جانبها الشمالي إلى 40 متراً في جانبها الجنوبي، وتطلُّ من تلك الجهة على وادٍ تجري فيه قناة مياه. وتوجد تحت أرض القلعة ممرَّات تقودُ إلى غرفٍ حصينة.
في حين تقع إلى الجنوب من القلعة أضرحة لعدد من الصحابة، منهم جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة، الذين استشهدوا في معركة مؤتة.
وتشير سجلات المؤرخين مثل المقريزي والدواداري، إلى أنَّ بناء القلعة كان قائماً قبل بدء الحملات الصليبية، لكنَّهم رمموها ووسَّعوها عند مجيئهم.
ويعود تاريخ إنشاء أساسات قلعة الكرك إلى عصر المؤابيين نحو عام 860 ق م. واستخدمها الأنباط لاحقاً، بدليل وجود تماثيل نبطية منقوشة في الأسس الأولى بالقلعة، وظلت في العصر الروماني ومن ثمَّ البيزنطي درعاً واقية للأردن، حيث أشارت إليها خريطة مادبا الفسيفسائية بين مجموعة قلاع هذه المنطقة.
صلاح الدين الأيوبي، بدوره تمكن من انتزاع القلعة عقب معركة حطين، وهي تلك المعركة التي استطاع بعدها استرداد القدس والمسجد الأقصى من أيدي الصليبيين، بعدما ضرب حصاراً شديداً عليها،
بعد ذلك انتقل حُكم القلعة إلى المماليك ثم إلى العثمانيين، ولم يكن لها دورٌ تاريخيٌّ كبير بعد الحروب الصليبية حتى الثورة العربية الكبرى، التي لعبت فيها دوراً بالتحكُّم بطرق المواصلات بين الحجاز والشام ومصر.
التسمية والتاريخ
سميت الكرك قديماً، بـ kir hareseth أو kir hares أو kir moab، وكلمة كير تعني المدينة، لكنها إذا التقت مع كلمة مؤاب فهي تعني القلعة، إذ كانت من أهم مدن مملكة مؤاب سواء قبل أو بعد حكم الملك ميشع المؤابي.
وبقي اسمها كير مؤاب، حتى الاحتلال الصليبي لبلاد الشام (1096 – 1291)، إذ بدّل الصليبيون اسم كير مؤاب إلى crac des moabites، والتي تعني باللغة الفرنسية قلعة المؤابيين.
ويعود تاريخ هذه المدينة إلى العصر الحديدي نحو سنة 1200 قبل الميلاد، وتعاقب عليها المؤابيون والآشوريون والأنباط واليونان والرومان والبيزنطيون.
قصة قلعة الكرك مع صلاح الدين
في الفتوحات الإسلامية طوقتها جيوش المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح فاستسلمت له.
وكان للمدينة تاريخ حافل مع صلاح الدين الأيوبي الذي حارب الملك الصليبي أرناط، وكانت أهمية الكرك في ذلك الحين أنها كانت تحمي القدس، فموقعها الاستراتيجي كان يحول دون اللقاء بين عرب الشام وعرب مصر، ولكونها محطة مراقبة على طريق الحجاج.
وكان ملكها أرناط محارباً شرساً مغامراً ووجه صلاح الدين ثلاث حملات للكرك حتى تمكن عام 1188م، من احتلال القلعة الحصينة.
وكان أرناط متحصناً فيها يخشى الخروج منها لكنه لقي حتفه في معركة حطين ووقع أسيراً فضربه صلاح الدين بسيفه ولقي حتفه.
القلعة ما بعد صلاح الدين
بعد اندثار الدولة الأيوبية آلت سُلطة قلعة الكرك إلى سلاطين المماليك، الذين طَوَّروها بتشييد عدد من الأبراج والتحصينات الإضافية فيها، ورمَّمها الظاهر بيبرس بعد أن وقعت في يده سنة 1263م.
وفي العصر العثماني وقعت عمليات إعدام واسعة للمواطنين الثائرين على السلطة في قلعة الكرك، وذلك عام 1910.
هذا وقال ابن بطوطة (محمد بن عبدالله 1303-1377م) عن قلعة الكرك، في كتابه تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار:
"ثم يرحلون إلى حصن الكرك، وهو أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها، ويسمى بحصن الغراب، والوادي يطيف به من جميع جهاته، وله باب واحد قد نحت المدخل إليه في الحجر الصلد، ومدخل دهليزه كذلك، وبهذا الحصن يتحصن الملوك، وإليه يلجأون في النوائب، وله لجأ الملك الناصر، لأنه ولي الملك وهو صغير السن، فاستولى على التدبير مملوكه سلار النائب عنه، فأظهر الملك الناصر أنه يريد الحج، ووافقه الأمراء على ذلك، فتوجه إلى الحج، فلما وصل إلى عقبة أيلة، لجأ إلى الحصن وأقام فيه أياماً ألى أن قصده أمراء الشام".
واجتمعت عليه المماليك وكان قد ولي الملك في تلك المدة بيبرس الجاشنكير وهو أمير الطعام وتسمى بالملك المظفر، وهو الذي بنى الخانقاه البيبرسية بمقربة من خانقاه سعيد السعداء التي بناها صلاح الدين الأيوبي، فقصده الملك الناصر بالعساكر، ففر بيبرس إلى الصحراء، فتبعه العساكر فقبض عليه، فأتى به إلى الملك الناصر فأمر بقتله، فقتل، وقبض على سلار، وحبس في جب حتى مات جوعاً، ويقال إنه أكل جيفة من الجوع، "نعوذ بالله من ذلك" والقلعة ما زالت غامضة من الداخل ففيها سراديب لم تكتشف إلى الآن".
حُوِّلت القلعة إلى متحف أثري منذ عام 1980، يعرض المتحف آثار المسلمين في الفترة المملوكية والعثمانية، ويوجد به قسمٌ يغطي فترات العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي والعصر الحديدي، وتضم مجموعة من قطع أثرية نبطية ورومانية وبيزنطية وصليبية، وأعيد فتح المتحف أمام الجمهور في شهر يناير/كانون الثاني 2004، حيث لا يزال متاحاً للعامة منذ ذلك الحين.