مع بداية شهر رمضان من كل عام، تتأهب العديد من المدن العربية والإسلامية لتجهيز ونصب خيام إفطار الصائمين، أو ما يُعرف أيضاً بـ"موائد الرحمن"، وهي الموائد الخيرية المفتوحة للعامة والبسطاء من الناس؛ ليجتمعوا على وجبات إفطار تكفّل بها مساهمات الحي والمقتدرين من الناس لكسب الثواب والأجر.
وحول أصل "موائد الرحمن" التاريخي، وطريقة نشأتها، يقول الباحث الأثري المصري سامح الزهار لصحيفة "أخبار اليوم" المصرية إن البداية الحقيقية لظهور موائد الرحمن كانت منذ عهد النبي محمد، حين قدم إليه وفد من الطائف وهو في المدينة، واعتنقوا الإسلام، واستقروا معه لفترة بعد ذلك، فكان النبي يُرسل إليهم وجبات الإفطار والسحور مع الصحابي بلال بن رباح.
وقد سن الخلفاء الراشدون هذه السُنّة، فكان الخليفة عمر بن الخطاب يقيم الدور لضيافة وإفطار الصائمين، وتطورت الفكرة لتصبح تدريجياً على ما هي عليه الآن في الدول العربية المختلفة، بحسب الزهار.
تفطير الصائمين في الحرم النبوي
وبدأت عادة إقامة موائد الإفطار في أرض الحجاز -السعودية اليوم- بسبب إقامتها لأول مرة في المسجد النبوي بالمدينة المنورة لإفطار الصائمين من المسلمين الزائرين للمسجد خلال شهر رمضان.
ويروي المتخصص في تاريخ المدينة المنورة، راشد الأحمدي، لموقع الجزيرة نت، أنها عادة ممتدة منذ أربعة عقود تقريباً، حتى "أصبحت علامة فارقة امتازوا بها عن موائد الإفطار في الدول الأخرى".
ووفقاً للأحمدي، فقد كانت بعض الموائد منحصرة بشكل تقليدي ضمن عوائل مدنية معينة تعاهدت عليها على مدار الأجيال، حتى إن هناك بعض الأماكن المخصصة لتبرعات عوائل معينة من قِبَل رئاسة المسجد "تقديراً لأقدميتهم في تفطير الصائمين"، وفق تعبيره.
ويرجع الأصل في هذه الموائد إلى "نيل فضل إكرام ضيافة زوار مسجد الرسول" وفقاً لتعبيره؛ إذ ترجع الأهمية في نيل فضل إفطار الصائمين إلى حديث الرسول: "مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ"، ومن هُنا يتسابق المقتدرون على نيل هذا الدور وتوارثه عبر الأجيال.
بداية تسمية "مائدة الرحمن"
وبدأ مصطلح "مائدة الرحمن"، وفقاً لأرجح الأقوال، في عهد الفقيه وعالم الديار المصرية الليث بن سعد بن عبدالرحمن، في عهد الدولة الأموية.
وبحسب موقع Egyptian Geographic فقد كان الليث بن سعد يساعد الفقراء والمساكين بطرق عديدة، وإحدى الطرق التي سنّها لمساعدة المساكين كانت بإنشاء موائد طعام خارج منزله للفقراء وعابري السبيل. ومن هنا بدأ المسمّى الحقيقي للمائدة على اسم جده "عبدالرحمن"، وقد استمر فيها حتى وفاته عام 791 ميلادياً.
وقد ثبتت إقامة موائد الرحمن في دول عربية أخرى أيضاً؛ ففي بغداد، ومع وصول هارون الرشيد إلى سُدة الخلافة العباسية، اعتاد طيلة حكمه الذي استمر 23 عاماً حتى وفاته عام 809 ميلادياً، إقامة موائد الرحمن طيلة شهر رمضان في حديقة قصره، وكان يتنكر في ملابس بسيطة ومتواضعة، لكي يتمكن من التجوّل بحريّة بين الصائمين ويسألهم عن أحوالهم.
"سماط" ابن طولون لإفطار الصائمين
وعمل أبوالعباس أحمد بن طولون، أمير مصر المملوكي ومؤسس الدولة الطولونية الممتدة بين مصر والشام، على تطوير مبدأ مائدة الرحمن لإفطار الصائمين؛ فأقام عام 880 ميلادياً، أول مائدة رحمن فى مصر وسمّاها "السماط" أو "الأسمطة"، وأمر بمواصلة إعداد هذه المائدة طوال أيام شهر رمضان، بحسب صحيفة المصري اليوم.
واستضاف ابن طولون في موائده القادة والتُجّار والأعيان، وفي إحدى خُطبه حاول حثّ المقتدرين من الناس على إقامة الموائد للفقراء والمحتاجين، وقال: "لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم في حاجة إلى ما أعده لكم من طعام وشراب، ولكنني وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم في رمضان، ولذلك فإنني آمركم أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتهيئوها بأحسن ما ترغبونه لأنفسكم فيتذوقها الفقير المحروم"، وأخبرهم أن هذه المائدة ستستمر طوال أيام شهر رمضان، بحسب الصفحة الرسمية للملك فاروق.
موائد المعز لدين الله الفاطمي
وقد واصل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في عهده القصير الممتد منذ عام 972 وحتى 975 ميلادياً، إقامة الموائد في شهر رمضان أيضاً، وكانت مخصصة في البداية لزائري جامع عمرو بن العاص، ثم ما لبثت أن امتدت لترحّب بجميع المحتاجين. ووفقاً لبعض الأقوال، بحسب الباحث سامح الزهار، كان يخرج من قصر الخليفة الفاطمي قرابة الـ1100 قِدر من جميع أنواع الطعام لتُوَّزع على الفقراء، وسُمِّيت مائدته بـ"دار الفطرة".
وقد وصل طول بعض هذه الموائد المُعدة يومياً ما يتخطّى 150 متراً لاستيعاب أعداد الصائمين. قبل أن تتراجع فكرة مائدة الرحمن الرمضانية بشكل تدريجي في عصر المماليك والعثمانيين بسبب الحروب.
ووفقاً للدراسات الأثرية لعالم الآثار الإسلامية علي أحمد الطايش، دور موائد الرحمن الذي نعرفه في شكله اليوم يرجع تحديداً إلى الولائم التي كان يقيمها الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان في عهد الفاطميين وكان يطلق عليها "سماط الخليفة"، وأن الخليفة المعزّ كان حريصاً على حضور رؤساء الدواوين والوزراء موائد الرحمن التي ينظمها، وفقاً لموقع العربية.نت.
وعملت "دار الفطرة" على إعداد الكعك وتوزيعه في نهاية شهر رمضان وخلال أيام العيد على كل أهالى القاهرة، والتي كانت في ذلك الوقت مدينة الخليفة وحاشيته وفرق جيشه، بحسب الطايش.
تطوّر موائد الرحمن
ولفت خبير الآثار المصري عبدالرحيم ريحان إلى أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله الفاطمي (من عام 365 وحتى 386 ميلادياً)، كان تقريباً هو أول من قام ببناء دار الفطرة خارج قصر الخلافة بالقاهرة، لصناعة ما يُحمل إلى الناس في العيد من حلوى.
وقد امتدت عادة إقامة الموائد الرمضانية في عهد محمد علي باشا (من 1805 حتى 1848 ميلادياً) وأسرته من بعده، حتى إن الملك فاروق الذي تولى مصر عام 1937، كان يقيم الولائم الرمضانية في قصر عابدين ويستضيف فيها عامة الناس من أطياف الشعب المختلفة، وفقاً لموقع Egyptian Geographic.
وفي القرن العشرين بدأت الموائد الرمضانية في العودة مرة أخرى تحت رعاية حكومية لبنك ناصر الاجتماعي، الذي كان يقيم مائدة بجوار الجامع الأزهر، ويُفطر فيها أربعة آلاف صائم من أموال الزكاة.
تفطير الصائمين في الدول العربية
وعلى غرار موائد الرحمن التي انتشرت في مدن مصر المختلفة، وبعض الدول العربية الأخرى، تعمل كثير من المقاهي والمطاعم في المغرب العربي مثلاً، على تحضير وجبات لتفطير الصائمين غير المقتدرين مادياً خلال شهر رمضان.
ففي المغرب، تُنصب خيام في بعض الأحياء والمدن تضم كراسي وطاولات، كُتب عليها "خيام الرحمن"، يتوفر من خلالها وجبة الإفطار المجانية طيلة الشهر.
وحول ما إذا كان من الممكن تسمية مثل هذه المطاعم والخيام "موائد الرحمن"، توضح الباحثة في علم الاجتماع ابتسام العوفير، بحسب "العربي الجديد"، أن التسمية لا تهم، لأن العبرة في التكافُل الاجتماعي الذي يتم بين أطياف المجتمع الواحد بكل دياناتهم لتسهيل صيام المسلمين، وفقاً لمعتقدهم.
أما في دول الخليج العربي، فتقوم الجمعيات الخيرية بتخصيص بنود رئيسية من التبرعات لصناديقها من أجل إقامة وترتيب خيام تفطير الصائمين خلال شهر رمضان. وتقوم هيئة الهلال الأحمر في دولة الإمارات بشكل سنوي على إنشاء خيام إفطار الصائمين التي تخصص لها الدولة مواقع مختلفة وتستهدف استضافة مئات الآلاف خلال الشهر. وقامت خلال 2019 وحده بالتكفل بإفطار 477 ألف مستفيد من مشروع إفطار صائم، بحسب صحيفة البيان الإماراتية.
وفي قطر، تنتشر عادة نصب الخيام البيضاء أمام بيوت العائلات الكبيرة في العاصمة الدوحة، وتُعد أحد طقوس الشهر. إلا أن خيام رمضان في قطر لا تستهدف المسلمين فحسب، بل تحرص العائلات والمؤسسات الخيرية على إعداد ولائم للعمال الأجانب من الديانات الأخرى أيضاً.